ديف بروبك... مئة عام من الأصالة والاختلاف 110
"إن أردت الاستماع إلى الموسيقى، فلتؤلفها بنفسك". بهذا، سوّغ والدا ديف بروبك منعه، هو وأخويه الأكبر سنّاً، من الاستماع إلى الراديو، الذي كان في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، الوسيط الوحيد الذي يصل الأذن بموسيقات العالم. وذلك بالإضافة إلى الأسطوانات، التي لم يحو بيت العائلة في مدينة لون بكاليفورنيا إلا القليل المنتقى منها.
كان بروبك الأب مربي ماشية. بينما كانت الأم مدرّسةً للبيانو. تعلم ديف منها، كما فعل أخواه من قبله، أصول العزف والنظريات الموسيقية. بيد أن بروبك الأصغر، قد أدرك منذ البداية أنه ليس بتلميذٍ مثالي. لم يُحسن قراءة النوتة، وذلك لحول في عينيه أعاق بصره، فما كان منه إلا أن انصرف إلى الارتجال ومن ثم التأليف. مسارٌ موسيقي، سيُطلقه إلى فضاء الجاز الحر، فيغدو شمساً من شموسه المضيئة.    
وكما رأى المؤلف الروسي الشهير إيغور سترافنسكي (1882-1971)، سيرورة التأليف الموسيقي على أنها "ارتجال انتقائي"، لم يجد ديف (1920 - 2012)، الذي تحل مئويته اليوم، أي حدٍ يفصل الفعلين سوى سلوك الزمن إزاء كل منهما. فأما الارتجال، ما هو إلا إلهام يومض في آن، ليمضي به الزمن بعيداً عن الآذان، اللهم إن لم تلتقطه مُسجِّلة هنا أو كاميرا هناك. في حين يتمطط الزمن ويتسع في حفظه إلهام المؤلِف، فيمدّه بفرص التعديل والتنقيح، وحتى المحي والإعادة.


عقدة النقص البناءة لدى ديف بروبك، والمتخيلة إلى حد كبير، تُجاه قلة دربته وضحالة معارفه الموسيقية، دفعت به نحو أساتذة عصره الكبار. أهمهم وأكثرهم تأثيراً بحياته، حتى أن ابنه البكر سُمَّيَ باسمه تيمناً وعرفاناً، كان الفرنسي داريوس ميو (1892-1974)، الذي درّسه تقنيات التأليف الكونترابنتي (المتعارض)، على طريقة عبقرية القرن السادس عشر، الألماني يوهان سباستيان باخ.
بيد أن أهم أثر لميو على طالبه راعي البقر، تمثّل في حثّه على الانكباب على موسيقى الجاز. استندت رؤية ميو على كون الجاز أولاً، هو الهوية الثقافية السمعية للولايات المتحدة. وعليه، لا عبور لأميركي إلى العالمية إلا من خلالها. ثانياً، أن الجاز باعتماده الارتجال سمةً أساسية، يُناسب ميل ديف بروبك الإبداعي ومهاراته الموسيقية؛ قد ثبت في ما بعد أن نظرة ميو أتت ثاقبة، صائبة وفي مكانها.
وهكذا فعل صاحب البشرة البيضاء من أهل الساحل الغربي. بدايةً، كان عزف الجاز بالنسبة إليه مصدراً للمال أعانه على إطعام أسرته المؤلفة من زوجة تعمل إلى جانبه، وأبناء ستة، منهم أربعة تبعوا طريق والدهم في عزف الموسيقى وتأليفها. لاحقاً، أصبح الجاز مدخلاً إلى مساهمات "بروبكيّة" أضافت إليه من دون أن تنال من أصالته بوصفه فناً أفرو- أميركياً أسود بالولادة التاريخية والنشأة الاجتماعية. 
لعل أهم تلك المساهمات يكمن بإدماج أشكال إيقاعية مُعقدة لم تعهدها موسيقى الجاز من قبل. في ما مضى، كانت الألحان والائتلافات والارتجالات تُنظم على إيقاعات راقصة بسيطة زوجية ثنائية (ضربتين أو أربع)، أو فردية ثلاثية (أي ثلاث ضربات، كالفالس)، الأمر الذي جعل الجاز التقليدي ينبض نبضاً منتظماً، أليفاً ومتوقّعاً.



ديف بروبك، المؤلف الدارس، من جهة، للموسيقى الكلاسيكية الغربية بتياراتها الحداثية المعاصرة، والمُنفتح من جهة أخرى على موسيقات الشعوب المختلفة، والأخص منها التركية الشرق أوسطية والهندية الشرق آسيوية، أخذ يُدخل على الجاز أشكالاً إيقاعية مركبة أكثر تحفيزاً للأذن، وأنأى بها عن الرتابة والاتّزان، مثل الإيقاع الخماسي، أي خمس ضربات في الدور الواحد تُوزّع بين اثنتين وثلاث، أو السباعي، حيث توزع الخُطى بين أربع وثلاث، والتساعي الذي يحوي ثلاث وحدات، كلٌّ منها ضربات ثلاث؛ مجموعها تسع.     
لم يكتف بروبك باستخدام تلك النماذج المعقدة فقط، وإنما ركبها بعضها فوق بعض وفق مبدأ "التعدد الإيقاعي" polyrhythmia؛ فتسمع يداً على البيانو تعزف مقياساً ثنائياً، فيما الأخرى تؤدي خماسياً، أو أن أحد أعضاء الفرقة الموسيقية قد يعزف مقياساً ثلاثياً، فيما العضو الآخر يحاوره بمقياس تُساعي. 
تبلورت تلك المساهمات الرائدة في إصدار ألبوم "تايم آوت" Time Out، سنة 1959، لرباعي ديف بروبك لموسيقى الجاز، الذي ضمّ أسماء وضّاءة، أهمها صديق بروبك وزميل مشواره الفني عازف الساكسفون بول ديزموند. والألبوم بيّن من عنوانه، فـ"تايم آوت"، أي وقت مستقطع، إنما هو خروج بالإيقاع عن النسق الوقتي المعتاد، وكسره بأنساق أكثر نفوراً وتمرداً. 


خروجٌ، يتجلى واضحاً بفقرات الألبوم الخلّاقة، كمقطوعة "هاك خمسة" Take Five، والتي كما يوحي اسمها، منظومة على إيقاع خماسي، أي ضربتين - زائد - وحدة من ثلاث ضربات. بتقنية "تعدد الإيقاعات"، يُعاد تركيبها رباعياً على شكل وحدتين ثنائيتين ووحدتين ثلاثيّتين (2+2 / 3+3). على المنوال نفسه، تُسمع مقطوعة "روندو البلوز على الطريقة التركية" Blue Rondo a la Turque، وقد نُظِمت على مقياس سباعي مُستلهمٍ، كما يُشير العنوان، من الرقص الشعبي التركي.
بالمقابل، ظلّ ديف بروبك مُخلصاً لجذور الجاز تاريخاً وأعلاماً، هو الذي عقد أواصر صداقة مُستدامة مع كبار الموسيقيين الأفرو أميركيين، كلوي أرمسترونغ ومايلز ديفيس. وكان الأخير قد اشتُهر بإعادة صياغة خاصة لإحدى أشهر مقطوعات بروبك، ألا وهي "بطريقتك الحلوة الخاصة" In Your Own Sweet Way، حيث يروى كيف أن بروبك أحس بحرج بالغ إثر ظهور صورته على غلاف مجلة "التايم" وجهاً للجاز، عوضاً عن أن يُمنح الامتياز، عن حق، لصديقه عازف البيانو الأسود ديوك إلنغتون Duke Ellington.
إلى جانب عزف الجاز وارتجاله على طول وعرض الولايات المتحدة وحول العالم، واظب بروبك على شغفه الأول والأساس، ألا وهو التأليف الموسيقي. طوّر مهاراته بالتوزيع الكورالي والأوركسترالي، وظّفها في عديد الأعمال الدينية والدنيوية، التي عزفتها وسجلّتها كبريات الفرق الموسيقية وأنتجتها أشهر شركات الإنتاج الفنية.



حمل ديف بروبك في قلبه على الدوام حباً دفيناً للولايات المتحدة الأميركية، وثقةً راسخة وطوباوية بقيم الحرية والديمقراطية التي ارتكزت عليها عقيدتها الإمبراطورية. في الوقت نفسه، ظلّ مسيحياً محافظاً متديّناً، وإن من دون تزمّت أو تعصب. أولى المحبة المكانة الأسمى في خطابه ومسلكه وجعلها متن رسالته الفنية. وقد قال في معرض مقابلة أجريت معه سنة 2001: "حين كنّا نُبتعث سفراء لأميركا حول العالم، كنا نلمس كيف كان الكثيرون يكرهوننا (نحن الأميركيين)، إلا أن الكل كان يُحب الجاز".


https://www.alaraby.co.uk/entertainment_media/%D8%AF%D9%8A%D9%81-%D8%A8%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%83-%D9%85%D8%A6%D8%A9-%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B5%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D9%84%D8%A7%D9%81