لقد رأى (هيرودوت) أن ليبيا تمتد من حيث تنتهى مصر الغربية. وقد حدد ساحل ليبيا الشمالى بما يلى بحيرة مريوط الى رأس (سولوجوس) (رأس سبارتل) جنوبى طنجة على المحيط الاطسى(1).
وقد اشار بان المجموعات السكانية التى تقيم على امتداد هذه المنطقة كلها تنتمى الى ارومة واحدة وهى موزعة على مجموعات من القبائل . وقد جعل (هيرودوت) بحيرة (تريتونيس)-والتىتقع على الأرجح عند خليج قابس-الحد الفاصل بين مجموعتين من الليبيين احدهما تعيش الى الغرب من البحيرة وتتألف من زراع آلفوا حياة الاستقرار والاخرى تعيش الى الشرق من البحيرة وتتألف من بدو رعاة(3). ونلاحظ ان (هيرودوت) لم يفرق بين هذه المجموعات الليبية من حيث الجنس وانما من حيث اختلاف نوع حياة كل منهما عن الاخرى.
ويبدو بوضوح ان هذا التمييز جعل العلماء المحدثون يقسمون ايضا الليبيون القدماء الى مجموعتين : ليبيون شرقيون وليبيون غربيون(4). ولم تقتصر ليبيا لدى(هيرودوت)على المنطقة الساحلية فقط بل انه ضم اليها الواحات والصحراء. وقد اشار الى ذلك بكل وضوح فى الكثير من فقرات كتابه الرابع حيث يقول : “لقد تحدثت فى السابق عن الليبيين الرعاة الذين يسكنون على ساحل البحر ولكن اسفل هذه المناطق توجد مناطق ترتادها الوحوش المفترسة.
واسفل المنطقة السابقة يوجد شريط رملى يمتد من طيبة فى مصر حتى اعمدة هرقل(مضيق جبل طارق). وتقع على هذا الشريط الرملى روابى تحيط بها الرمال ويتوسط كل واحدة نبع يقدف ماءا باردا عذبا. وحول هذه الروابى يقيم السكان مضاربهم(5). وقد اشار(هيرودوت)الى ان هذه الروابىكثيرة وتبعد عن بعضها البعـض مسيرة عــشرة ايام. ومما لاشــك فــيه ان الروابى التى يقصدها هــى الواحات الكثيرة التى تنتشر على طول المنطقة الداخلية من ليبيا. وبالفعل فقد ذكر(هيرودوت)البعض من هذه الواحات مثل : واحة (الامونيين) ويعنى بهم الذين يعبدون الاله(امون) وهـم سكان واحة سيوة. ثـم ذكــر سكان واحة اوجلــة وواحات الجرامنت(6). وقد اشار(هيرودوت) بان خلف هذا الشريط الرملى الذى يضم العديد من الواحات توجد الاجزاء الجنوبية والداخلية من ليبيا والتى هى صحراء حيث لا يوجد بها لا الماء ولا الحيوانات ولا المطر ولا الاشجار ولا أى اثر لحياة بشرية(7). وعليه نستطيع ان نعمم اسم ليبيا والليبيون القدماء على كل شمال افريقيا والصحراء الكبرى.
ويطلق على هذه المنطقة اليوم اسم المغرب الكبير وتنقسم الى خمسة اقطار وهى : ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. وتسهيلا لدراسة هذه المنطقة خلال عصورها التاريخية القديمة اطلقنا عليها اسم المغرب القديم. والجدير باالذكر ان العلامة ابن خلدون فى كتابه العبر وديوان المبتدأ والخبر قد سبقنا الى اطلاق هذا الاسم على هذه المنطقة منذ اكثر من سبعة قرون مضت(8) وبالتالى فان ليبيا والليبيون القدماء هى نفسها المغرب القديم وسكان المغرب القديم ولذلك فاننا عندما نتحدث عن الليبيين القدماء فاننا نقصد الحديث عن منطقة المغرب القديم وعن سكان المغرب القديم فى العصور القديمة.
يمكن التعرف على الليبيين القدماء من خلال قسمين من المصادر الأثرية والتاريخية : المصادر المصرية القديمة التي تمتد منذ عصر ما قبل الأسرات وحتى مجئ الإغريق إلى منطقة الجبل الأخضر وما حوله في القرن السابع قبل الميلاد والمصادر الإغريقية والرومانية والبيزنطية التي تمتد منذ مجئ الإغريق، وحتى الفتح الإسلامي العربي في القرن السابع الميلادي ونلاحظ من خلال هذه المصادر -خاصة المصادر الأولى- أنها كتبت من جانب واحد وهو الجانب غير الليبي وهى بذلك لا تخلو من مبالغة وتحيز خاصة أن الحفريات الأثرية في الفترة الأولى وهى الفترة ذات العلاقة بالمصريين القدماء لم تمدنا بمعلومات ذات قيمة نستطيع من خلالها كتابة تاريخ متسلسل لهذه المنطقة فى حين أن المصادر الثانية وهى المصادر الإغريقية والرومانية رغم أنها هى الأخرى كانت من الجانب الإغريقى والروماني فقط إلا أن الحفريات الأثرية أثبتت الكثير من القضايا الهامة من تاريخ هذه المنطقة فى تلك الفترة.
اولا- المصادر المصرية القديمة:
يمكن تقسييم المصادر المصرية القديمة حسب مراحل تاريخ منطقة وادي النيل فى العصور القديمة إلى عدة أقسام وهى :
أ-وثائق ما قبل الأسرات وبداية الأسرات : نلاحظ على هذه المصادر أنها عبارة على مناظر عامة منقوشة لا تصحبها نصوص كتابية لأن الكتابة الهيروغليفية فى ذلك الوقت لم تكتمل عناصرها بعد وهذه المصادر هى :
1-مقبض سكين جبل العرق : عثر على هذا المقبض تجاه نجع حمادي باالصحراء الشرقية.تمثل الرسومات التى على هذا المقبض رجال لهم خصلة مـن الشعر على شكــل ظفيرة ويلبسون كيس العورة وهى صفات يتخذها الباحثون علامات مميزة لليبيين القدماء فى ذلك الوقت.
2-لوحة الصيد او ما يعرف بلوحة الأُسود: تصور هذه اللوحة عدداً من الرجال يحملون الاقواس والحراب وعصي الرماية وحولهم حيونات كثيرة للصيد ويزينون شعورهم بالريش ويرتدون كيس العورة ولهم ديول تتدلى من قمصانهم وكل هذه الصفات اتخدها الباحثون كعلامات لليبيين القدماء وهى من العلامات التى شاهدناها بكثرة فى الرسوم الصخرية بالصحراء الكبرى وهى رسوم ترجع لعصور ما قبل التاريخ.
3-لوحة التحنو : وتعتبر هذه اللوحة أهم الشواهد الأثرية التى تدل على الليبيين القدماء وقد عثر عليها فى ابيدوس فى مصر العليا وقد استطاع العالم الألمانى تاسيتى من خلال هذه اللوحة أن يميز العلامة الهيروغليفية التى تدل على التحنو نجد على أحد وجهى هذه اللوحة رسومات تمثل سبع مدن محصنة متحالفة استطاع أن ينتصر عليها الملك. أما على الوجه الآخر فنجد ثلاثة صفوف تمثل ثيران وحمير وأغنام وأسفلها أشجار زيتون بالقرب منها العلامة الهيروغليفية التى تدل على التحنـو.
4-لوحة التوحيد: لقد ظهر اسم التحنو خلال الأسرة الأولى (3400- 3200 ق.م.) فى عهد الملك نعرمر على أسطوانة من العاج تعرف باسم لوحة التوحيد. ويبدو الملك فى هذا النقش وهو يضرب مجموعة من الأسرى الجاثمين نقش فوقهم عبارة تحنو باللغة الهيروغليفية ولقد اختلف المؤرخون في تفسير هذه اللوحة فنجد برستد يعبر عنها ب(نعرمر ينتصر على الليبيين) في حين نجد (دريتون) و(جاردنر) يعبر عن هذه اللوحة ب (نعرمر ينتصر ويهزم سكـان الوجه البحري وهو يوحد القطرين). ونلاحظ أن جميع هؤلاء الباحثين على صواب لأن الكثير من العلماء يعتقد أن نعرمر استطاع توحيد منطقة وادي النيل بعد أن طرد منها الليبيين الذين كانوا يقيمون في الوجه البحري والملفت للنظر هنا أنه لا يمكن التمييز بين صور وأشكال أهل الدلتا في هذه اللوحة وبين التحنو أو الليبيون الذين ميزتهم الرسوم المصرية القديمة بأنهم اشخاص ملتحون ويزينون شعورهم بالريش ويرتدون كيس العورة وتتدلى من قمصانهم القصيرة ذيول (9).
ب-وثائق الدولة القديمة(2900-2280ق.م.): يلاحظ على هــذه الوثائق بأنهـا ابتداء مـن الدولة القديمة أصبحت تدون عن طريق الكتابة الهيروغليفية ففى بعض الأحيان تكون النصوص مختصرة وفى أحيان أخرى تكون مفصلة إلى أبعد الحدود ويمكن تقسيمها على النحو الاتى :
1-نص الملك سنفرو مؤسس الأسرة الرابعة على حجر بالرمو : ويفيد النص أن الملك سنفرو قاد حملة ضد التحنو وأسر منهم 1100 أسير واستولى على 13100 رأس من الماشية والاغنام.
2-نصوص الملك سحورع من الأسرة الخامسة على جدران معبد الملك سحورع: لقد زودتنا هذه النقوش بمعلومات وافية عن التحنو خاصة فيما يتعلق بسماتهم البشرية وملابسهم وبعض الميزات الأخرى التى تذكرنا بصور الليبيين القدماء التى استقيناها من وثائق ما قبل الأسرات وبداية الأسرات.
3-نصوص أونى حاكم الجنوب: يذكر أونى حاكم الجنوب على جدران مقبرته فى أبيدوس بأنه قاد جيشا ضد بدو آسيا فى عهد الملك بيبى الأول (الأسرة السادسة) وكان يتكون الجيش من العديد من سكان الجنوب ومنهم سكان بلاد التمحو ويبدو أن هذه الإشارة أول ذكر لقبائل التمحو.
4-نصوص حرخوف حاكم وقائد القوافل فى الجنوب (الأسرة السادسة): لقد وصف حرخوف من خلال النصوص التى تركها على جدران مقبرته فى الفنتين رحلاته إلى إقليم يام فى النوبة وأنه تقدم حتى وصل بلاد التمحو التى تقع فى الجنوب الغربى من النيل.
ج – وثائق الدولة الوسطى ( 2060 -1785 ق.م.)
لم تكن الوثائق التى تتحدث عن الليبيين خلال هذه الدولة كثيرة وإن وجدت، فيشوبها بعض الغموض وأهم وثائق هذه الدولة التى تتعلق بالليبيين هى :
1-حكاية سنوهى، وهو أحــد رجال البلاط فى عهد الملــك منتوحتب الاول (1991-1961قبل الميلاد): لقد ذكر سنوهى أن سنوسرت ابن الملك منتوحتب الأول خاض حربا ضد التمحـو ويرى المؤرخون أن هــذه الحرب توجت بالنصر والدليل على ذلك مــا ذكــره(ديودورس الصقلى) بأن سنوسرت الأول قد أخضع الشق الأكبر من ليبيا (10).
2-مخلفات المجموعة السكانية التى يطلق عليها المجموعة ج : لقد عاصرت هذه المجموعة السكانية الدولة الوسطى وقد القت المخلفات التى تعود لهذه المجموعة بعض الضوء عن العلاقات التى كانت بين الليبيين وجنوب منطقة وادى النيل. ويرى بعض العلماء فى هذه المجموعة السكانية بأنها فرع جنوبى للتمحو او كليبيين جنوبيين.
د-وثاثق الدولة الحديثة (1580 -1085 ق.م.):
لقد خلفت لنا الدولة الحديثة أكبر قدر من الوثائق التى تتمثل فى النقوش والصور، والتى من خلالها تعرفنا على مجموعات كثيرة من الليبيين قبل هيرودوت أى خلال القرنين الثالث عشر والثانى عشر ق.م ويمكن تلخيص هذه الوثائق الكثيرة على النحو الآتى :
1-وثائق مقابر طيبة فى عهد الملكة حتشبسوت والملك تحتمس الثالث: لقد احتفظت لنا بعض مقابر طيبة فى الفترة مابين 1490 – 1447 ق.م بصور تمثل تسديد الجزية التى قدمت من بعض القبائل الليبية فى الواحات البحرية.
2-رسومات معبد الكرنك: وهي تعود إلى عهد الملك سيتى الأول والتى تشير إلى هجمات خطيرة قامت بها قبائل التحنو وقد تم الإشارة إلى مثل هذه الهجمات أيضاً فى عهد رعميس الثانى من خلال نقشين عثر على أحدهما فى معبد بيت الوالى والآخر فى معبد ابى سمبل والنقشان يتحدثان عن صد هجمات قبائل التحنو لقد شكك بعض الباحثين فى حقيقة هذه الهجمات الخطيرة التى قامت بها قبائل التحنو، وصدها من قبل ملوك سكان منطقة وادى النيل وقد رأى هؤلاء الباحثين فى هذه الرسومات مجرد تكرار وزخرفة للمعابد الفرعونية عن طريق إحداث سابقة مرت منذ زمن بعيد (11).
3-نقوش مسلات رعمسيس الثانى التى اكتشفت فى مدينة تانيس: تشير هذه النقوش إلى استعانة رعمبسيس الثانى بوحدات عسكرية ليبية تم ضمها للجيش المصرى.
4-نقوش معبد الكرنك وعمود القاهرة ولوحة اتريب وانشودة النصر: هذه المصادر الأربعة تحدثت جميعها -كما يرى بعض الباحثين- عن انتصار الملك مرنبتاح (الأسرة التاسعة عشر ) على التحالف الذى يضم كل من الليبو والقهق والمشوش مع شعوب البحر التى تتمثل فى خمسة اقوام وهم ( الأقاواشا) و(التورشا) و(الشردان) و(اللوكا) و(الشكلش). ويرى فيهم الباحثون على الترتيب (الآخيين) و(الاترسكيين) و(السردينين) و(اللوكيين)و(الصقليين)(12) وقد توجه هؤلاء جميعا نحو الدلتا لاحتلالها لغرض الاستقرار بها وكان يقودهم فى هذا الهجوم زعيم قبيلة الليبو مرى بن أدد.
5-بردية هاريس الكبرى: وهي بردية يصل طولها أكثر من أربعين متر وعرضها حوالى 42 سنتمتر، تتحدث هذه البردية عن هجوم قبائل الليبو على منطقة الدلتا ويفهم من خلال هذا النص أن السبب فى هذا الهجوم أن الفرعون أراد أن يفرض على الليبيين ملكا منهم رباه فى قصره ولكن الليبيين رفضوا هذا الحاكم لأنهم رأوا فيه الفرعون نفسه.
6-نقوش ولوحات معبد رعمسيس الثالث الجنائزي بمدينة هابو الواقعة فى طيبة الغربية: تتحدث هذه اللوحات والنقوش عن هجوم قامت به قبيلة المشوش ضد منطقة وادى النيل وقاد هذا الهجوم زعيم المشوش كبر وابنه مششر وتعتبر بردية هاريس ونقوش ولوحات معبد هابو التى دونت فىعهد رعمسيس الثالث آخر الوثائق الهامة التى تتحدث عن القبائل الليبية القديمة التى احتكت بمنطقة وادى النيل فى العصور القديمة.
الليبيون القدماء من خلال المصادر المصرية القديمة:
نستطيع من خلال سردنا للمصادر المصرية القديمة أن نقسم المجموعات الليبية القديمة التى وردت بهذه النصوص،حسب تسلسلها التاريخى إلى الجماعات الآتية :
1-التحنو: تقع بلاد التحنو إلى الغرب من مجرى وادى النيل لأنها تذكر دائما فى النصوص المختلفة عندما تذكر اسماء البلاد التى تقع إلى الغرب من مصر ويرى الدكتور أحمد فخرى -استنادا على أراء علماء آخرين- بأن بلاد التحنو كانت تمثل الفيوم والواحات ووادى النطرون وبرقة. وقد رأى (فرانسوا شامو) بأن بلاد التحنو تشمل كل المناطق الواقعة غربى وادى النيل بما فى ذلك الأقاليم الجنوبية(13). ونلاحظ أنه ابتداء من الأسرة الخامسة من الدولة القديمة وحتى الأسرة الثامنة عشرة أصبحت كلمة تحنو تدل على ليبيا والليبيين القدماء عامة(14). ويرى العالم الألمانى (هولشر) بأن قبائل التحنو كانت تعيش فى دلتا النيل ثم طردهم مـن هــذا الإقــليم الخصيب ملــوك منطقــة الوجه البحرى،عندما تم توحيده مع منطقة الوجه القبلى(15). ويبدو أن هذا الأمر صحيحا، ومما يؤيد ذلك ما ذهب إليه (جاردنر) من أن صور التحنو تظهر فى النقوش المصرية القديمة وكأن بينهم وبـين المصريين القدماء قــرابة وثيقة، وتتضح هــذه القــرابة من خلال ملابسهم التى تتفق تماما مع الملابس المصرية حيث كانوا يعلقون بهذه الملابس ذيولاً مثل التى كــان الفراعنة يعلقونها ويحلون جباههم بخصلة مــن الشعر تحاكى صورة الصل المقدس عند ملوك الفراعنة وتبدو هذه القرابة واضحة أيضاً من خلال سماتهم البشرية، حيث كانوا سمراً مثلهم مثل المصريين كما كانوا يخنتون مثلهم كذلك وكانوا يضعون قرابا لستر العورة مثلهم مثل المصريين فى عصور ما قبل التاريخ ومن هذه القرائن المختلفة توصل بعض العلماء إلى أن المصريين القدماء يرجع أصلهم إلى الليبيين القدماء حيث يؤكد هؤلاء العلماء بأن المصريين وفدوا على وادى النيل منذ وقت مبكر بوصفهم صيادون ورعاة ماشية ثم أصبحوا فيما بعد زراع مستقرون، وبدون شك فإن المقصود هنا بالليبيين القدماء هم سكان الصحراء الكبرى، الذين وصلوا فى فترة العصر الحجري الحديث إلى مرحلة حضارية متقدمة، وقد أشرنا فيما قبل إلى أن الفضل يرجع إليهم فى انتقال الرعى والزراعة نحو وادى النيل فى البداية ثم فيما بعد إلى بقية شمال إفريقيا.
2-التمحو: يرى (جاردنر) أن بلاد التمحو تمتد على الحدود الغربية لمصر حتى طرابلس غرباً والنوبة جنوبا فى حين يرى أحمد فخرى بأن التمحو كانوا قد تمركزوا فى نفس موطن التحنو بعد أن سيطروا عليهم بالإضافة إلى سيطرتهم على الواحات ذات الأرض الخصبة المنتشرة إلى الغرب من وادى النيل ويرى أنهم انتشروا جنوبا حتى دار فور(16). أما عن أصل التمحو فقد ظهرت فى هذا الموضوع نظريتان : يرى أصحاب النظرية الأولى بأن التمحو جاءوا مهاجرين من قارة أوروبا إلى شمال افريقيا ثم توغلوا إلى الجنوب ويروا بأنهم ينحدرون من قبائل الوندال أو أى جنس شمالى آخر ويستند أصحاب هذه النظرية كدليل علىذلك من خلال السمات التى يمتازبها التمحو عن بقية الليبيين مثل : الشعر الأصفر والعيون الزرقاء والبشـرة البيضاء ولكن هذه النظرية لا تستقيم مع ما اثبتناه أعلاه من وجود هذه المجموعة السكانية ذات الشعر الأصفر والبشرة البيضاء فى الصحراء الكبرى منذ الألف السادسة قبل الميلاد وتتعارض مع ما أكدت عليه البحوث الأثرية عن عدم استعمال الإنسان للبحر قبل الألف الخامسة قبل الميلاد، بالإضافة إلى عدم وجود أيــة قرائن تـفيد بأن المجموعات السكانية الأوروبيـة وصلـت منطـقة الـصحراء الكبرى كمهاجرين فى أى فترة من فترات التاريخ القديم، والجدير بالذكر أن أول اتصال أوروبى بمنطقة شمال افريقيا كان فى حدود نهاية الألف الثانية قبل الميلاد مع وصول المجموعات المعروفة باسم شعوب البحر الذين حاولوا الاستيطان فى منطقة وادى النيل وكما هو معروف لدى الجميع فان تلك المحاولة لم يصادفها النجاح على كل حال أما أصحاب النظرية الثانية فيروا بأن التمحو هم مواطنون افريقيون سلكوا طريقهم من الجنوب الغربى من الصحراء متجهين نحو الشمال والشمال الشرقى ويرى بعض العلماء بأن القوم الذين أطلق عليهم العلماء اسم المجموعة (ج)، والذين عثر على آثارهم بمنطقة النوبة هــم فرع من التمحو وانهم ليبيون. ويشير(اوريك بيتس)(17) بأن مخلفاتهم تتفق ومخلفات الليبيين القدماء حيث يذكر بعض الأدلة التى تثبت هذه الصلة والتى من بينها :
أ- لا تختلف جماجم وشعور المجموعة (ج)عن جماجم جنس البحر المتوسط،الذين منهم الليبيون القدماء بصفة عامة ومجموعة التمحو بصفة خاصة.
ب- لقد اتبع أصحاب المجموعة(ج)طريقة للدفن،ونمط لبناءالمقابر الدائرية،هى نفسها التى عرفت لدى سكان الصحراء الكبرى وشمال أفريقيا والتى عرفت باسم الرجم.
ج- تصور الرسومات المنقوشة رجال المجموعة (ج)وهم يرتدون ملابس على شكل اشرطة تتقاطع على الصدر والريشة على الرأس وهى نفسها التى كانت تميز الليبيين القدماء الذين تعرفنا عليهم من خلال الوثائق المصرية القديمة فى فترة ما قبل الأسرات وبداية الأسرات وهى سمات عرفت قبل ذلك لدى سكان الصحراء الكبرى.
د- يستعمل رجال المجموعة (ج) سلاح السهم والقوس وهى من الأسلحة التى عرفت فى الصحراء الكبرى قبل أن تعرف لدى أهل النوبة.
هـ- يؤيد انتماء سكان المجموعة (ج) للتمحو ما عثر عليه مـن فخار وقبور فى وادى هـور الذى يقع على بعد 400 كيلومتر جنوب غربى الشلال الثالث ومن خلال المقارنة اتضح أن هذا الفخار يشبه فخار المجموعة (ج). والجدير بالذكر أن هذا الفخار وجد عند طريق هجرة التمحو من موطنهم الأصلى الذى يراه معظم الباحثين بأنه منطقة الصحراء الكبرى قبل أن يحل بهــا الجفـاف (18). وبناء على كل ذلـك يمكن الاستنتاج، بأن التمحو، وسكان المجموعة (ج)، وسكان وادى هور كلــهم جاءوا من الصحراء الكبرى بعد أن حل بها الجفاف.
3-الليبو او الريبو: يرى معظم العلماء أن الليبو أو الريبو كانوا يسكنون منطقة برقة الحالية وربما كانت أراضيهم تمتد نحو الشرق حتى منطقة الواحات، وخاصة واحة سيوة ويرجح أن مجموعتى القهق والإسبت كانتا تعيشان فى نفس المنطقة التى تسيطر عليها مجموعات الليبو أو الريبو(19)، وأقدم ذكر لمجموعات الليبو أو الريبو كان فى عهد رعمسيس الثانى ومنذ ذلك التاريخ بدأت هذه المجموعات تقوم بدور هام فى تاريخ الصراع بين مصر القديمة والقبائل الليبية القديمة حيث اشتركوا كقادة فى الحروب التى قامت ضد الملك مرنبتاح واشتركوا أيضاً فى الحروب التى دارت ضد رعمسيس الثالث. ونعتقد أن اسم الليبو أصبح منذ بداية الفترة المتأخرة من تاريخ مصر القديم علماً على كل المنطقة التى تقع إلى الغرب من منطقة وادى النيل وبالتالى اختفت اسماء بقية المجموعات الأخرى وبناء على كل ذلك أصبح هذا الاسم يعنى لدى الإغريق تارة كل المجموعات السكانية التى تقع إلى الغرب من مصر حتى خليج سرت وتارة أخرى كل شمال أفريقيا وفى بعض الأحيان القارة الإفريقية بكاملها ومما يؤيد بروز اسم الليبو واختفاء بقية الاسماء تلك اللوحة التى عثر عليها منذ مدة والتى تعود لعهد الملك شيشنق وهى تتضمن اسماء الأقوام الليبية وهى لوحة يطلق عليها اسم (لوحة الأقوام التسعة) ويبدو من خلال هذه اللوحة أن الريبو أو الليبو حلت محل الاسم التقليدى السابق الذى عرفت به القبائل الليبية وهو التحنو ونجد وثيقة أخرى تشير إلى الليبو كتسمية عامة لكل المنطقة التى تقع إلى الغرب من مصر، وهى وثيقة تعود لعهد الملك شيشــنق الرابـع (763-757قبل الميلاد) وتشير إلى شخصية ليبية مرمـوقة تدعـى حيتيحنكر وقد وصفتها تلك الوثيقة بكبير الليبو ويبدو من خلال هذه الوثائق أن المنطقة ظلت تعرف باسم الليبو طيلة الفترة التى تلى الدولة الحديثة من تاريخ مصر القديم ونعتقد أنه لهذا السبب أطلق الإغريق على المنطقة التى استعمروها بالجبل الأخضر اسم ليبيا وذلك راجع إلى أنها الجزء الوحيد المألوف لديهم من منطقة شمال إفريقيا(20).
4-المشوش: يرجح الباحثون أن المشوش سكنوا المناطق الشمالية من الصحراء الليبية ويرى البعض أن ديارهم كانت تمتد غربا حتى المناطق التى تمثل تونس الحالية وقد رأى بعض العلماء بأن المشوش هم أنفسهم المكسيس الذين أشار إليهم (هيرودوت)(21) بأنهم يقيمون إلى الغرب من بحيرة تريتونيس ولكن مع بداية الأسرة الثامنة عشرة المصرية بدأ المشوش يتجمعون حول حدود مصر الغربية طلباً للاقامة الدائمة حول دلتا وادى النيل ومن خلال الرجوع إلى الوثائق التى تشير إلى الحروب التى دارت بينهم وبين المصريين يتضح أن المشوش كانوا يرغبون الاستيطان فى مصر وقد صرحوا بذلك بأنفسهم (22) ورغم أنهم وحلفاءهم الليبو فشلوا فى الوصول إلى دلتا النيل عن طريق الحرب إلا أنهم استطاعوا الاستقرار فى الكثير من مناطق مصر سواء فى حاميات الحدود أو بانظمامهم إلى الجيش كجنود مرتزقة (23). وقد كان الجيش المصرى ابتداءً من الأسرة العشرين يتكون من الليبيين دون سواهم وقد كان ملوك مصر فى ذلك الوقت يقدمون لهؤلاء الجنود هبات من الأرض كأجور لهم مما أدى إلى تكون جاليات عسكرية كانت القيادة فيها لليبيين دون سواهم وقد وصل بعض العناصر من المشوش -كما مر بنا – إلى مناصب هامة فى البلاط الملكى وإلى مراكز القيادة فى الجيش وأن بعضهم -مثل شيشنق- استطاع أن يتولى الحكم فى بعض مناطق مصر حيث جمع بين يديه السلطتين المدنية والدينية وهكذا وبسهولة تامة استطاع شيشنق أن يستولى على الحكم فى مصر بمجرد وفاة آخر ملوك الأســرة الواحدة والعشرين وبالتالى استطاع المشوش تكوين الأسرة الثانية والعشرين التى حكمت مصر قرابة قرنين من الزمان(24).
لقد كانت قبائل التحنو والتمحو والليبو والمشوش من القبائل الليبية الكبيرة، الواسعة الانتشار والتى لعبت دورا بارزا فى تطورات الأحداث فى ذلك الوقت. ولذلك نجدها ترد فى النصوص المصرية القديمة بشئ من التفصيل. فى حين وردت فى هذه النصوص اسماء قبائــل أخرى كـمجرد شارات بسيطــة ربما لعدم تاثير هــذه القبائل فى الاوضاع السائدة فى المنطقة فى ذلك الوقت أو ربما لكون هذه القبائل كانت تابعة لاحدى القبائل الكبرى السابقة أو لوجود أراضيها ضمن أراضى قبيلة أخرى كبيرة. ونذكر من بين تلك المجموعات السكانية الصغيرة قبائل: الأسبت والقبت والثكتن والبقن والكيكش والسبد والقهق.
ثانيا المصادر الاغريقية والرومانية والبيزنطية
تمتد هذه المجموعة من المصادر منذ مجئ الإغريق إلى إقليم قورينائية وحتى الفتح العربى الاسلامى للمنطقة فى القرن السابع الميلادى لقد تناول تاريخ ليبيا فى هذه الفترة الكثير من الكتاب والمؤرخين والجغرافيين والفلاسفة. وسوف نعطى بعض المعلومات عن كتابات هؤلاء من خلال اتجاهاتهم العلمية المختلفة. ولذلك اختلفت أهمية هذه المعلومات التى طرحوها حول تاريخ هذا البلد باختلاف تخصصاتهم ومن أشهر هؤلاء :
1- هيرودوت ( 484 -424 ق.م. ) وكتابه التاريخ: يعرف الكتاب الرابع من هذا المصنف باسم الكتاب الليبي وقد ثحدث فى هذا الكتاب عن القبائل الليبية المتواجدة على المنطقة الممتدة من غرب منطقة وادي النيل وحتى سواحل المحيط الاطلسي بالإضافة إلى حديثه عن قورينا وشقيقاتها وبعض حوادث تاريخها.
2- بلينى الاكبر (23 -79 م. ) وكتابه التاريخ الطبيعى: لقد تحدث بلينى عن ليبيا فى الكثير من فقرات كتابه خاصة فى الكتاب الخامس والثالث عشــر والتاسع عشــــر والثانى والعشرين وقد تحدث حديث مفصل عن نبات السيلفيوم الشهير الذى يشار إليه باسم الذهب الأخضر.
3-ديودوروس الصقلى( 40 م.)وكتابه المكتبة التاريخية: لقد تحدث(ديودوروس الصقلى)فى الفقرة 49 من كتابه الثالث عن ليبيا والقبائل الليبية،وعن الكثير من الظواهر الطبيعية،خاصة الغريبة منها.وقد كان(ديودوروس الصقلى) يميل إلى التحدث عن الشعوب التى جعلها موضوع تاريخه عن الجوانب الطريفة والغريبة المغلفة بالأساطير الغامضة ولذلك تختلط عنده الحقائق بالخيال اختلاطا شديدا ولكن رغم ذلك يعتبر(ديودوروس الصقلى) كاتبا ومؤرخا عظيما(25).
4-بروكوبيوس القيصرى وكتابيه العمائر والحروب: ولد(بروكوبيوس)فى قيصرية بفلسطين فى نهاية القرن الخامس الميلادى وتوفى فى عام 562م وقد تحدث فى كتابه العمائر عن أهم المنشآت المعمارية التى شيدت فى عهد الإمبراطور (جستنيان)(527-565م.) وقد أشار فى هذا الكتاب إلى بعض المنشآت التى شيدت فى المدن الثلاث (لبدة أويا(طرابلس) صبراتة). وقد تحدث فى كتابه الحروب عن الحملات الحربية التى شنت فى عهد الامبراطور(جستنيان)فى فارس وأوروبا وشمال افريقيا(545-554م.)وقد أشار أيضاً فى هذا الكتاب إلى بعض الثورات التى شنها سكان المناطق الغربية من ليبيا ضد الوندال.
5-فلافيوس كريسكونيوس كوريبوس(القرن السادس الميلا دى): وهو مؤرخ أكثر منه كاتب ملاحم ينسب إلى (كوريبوس) ملحمتين شعريتين: الأولى حول الحرب الليبية الرومانية والتى دارت أحداثها فى الفترة ما بين 546 -548 م. والثانية فى مدح الإمبراطور (جوستين الثانى) خلال عامى 566 و567 م. ينتسب الشاعر (كوريبوس) إلى منطقة المغرب القديم من حيث الأصل والمولد ويفهم ذلك من خلال لقبه الإفريقى ويعتبر عمله الأول الحرب الليبية الرومانية أهم مصدر تاريخى عن منطقة المغرب القديم خلال القرن السادس الميلادى وذلك لسرده وقائع تاريخية ثابتة حول الحملة البيزنطية ضد الوندال حين قرر الإمبراطور(جستنيان)(527-565م.) إعادة استعمار منطقة المغرب القديم من جديد، ورغم أن هذه الملحمة ليست كلهـا حقائق تاريخية بل تحتوى على الكثير من الخرافات والمبالغات إلا أنها تعتبر أهم مصدر بعد(هيرودوت) و(بروكوبيوس) حول القبائل الليبية حيت أشار(كوريبوس) من خلالها إلى خصائص هذه القبائل وعاداتها واماكن تواجدها ووسائل حروبها وتقاليدها المعيشية والاجتماعية(26).
إن هذه المصادر الكتابية التى دونت من قبل كتاب إغريق ورومان وبيزنطيين، كـانت هى الأخرى من جانب واحد إلا أن هذه المصادر دعمت أراء هؤلاء المؤرخين عن طريق المكتشفات الأثرية التى عثر عليها حديثاً، كالنقوش الكتابية، وبعض بقايا الإنسان خاصة البقايا الفنية كالعمارة والنحت والفخار.
ومن خلال هذه المصادر جميعها يمكننا الحديث عن الليبيين القدماء بشئ من الإختصار. وسوف يكون تركيزنا عن أصول وتحركات هذه المجموعات السكانية منذ بداية العصور التاريخية،وحتى نهاية العصور القديمة.
الليبيون القدماء من خلال المصادر الاغريقية والرومانية والبيزنطية
أمدتنا المصادر الإغريقية والرومانية والبيزنطية بالكثير من المعلومات حول الجماعات الليبية القديمة التى كانت تعيش فى المنطقة المعروفة قديما باسم ليبيا بمعناها الواسع وقــد استقينا معلوماتنا هــذه مــن خلال ما تركه هؤلاء الكتاب مــن أخبار معظمها كانت خليطاً بين الحقائق والأساطير وكان على رأس هولاء الكتاب (هيرودوت) القرن الخامس قبل الميلاد و(سكيلاكس) القرن الرابع قبل الميلاد و(سالوست) القرن الأول قبل الميلاد و(استرابون) و(ديودورس الصقلى) و(بلينى الأكبر) القرن الأول الميلادى و(بطلميوس الجغرافى)القرن الثانى الميلادى و(بروكوبيوس القيصرى) و(كوريبوس) القرن السادس الميلادى وسوف نتتبع اسماء أهم القبائل الليبية عند هؤلاء الكُتّاب منذ أيام (هيرودوت) إلى ما قبل الفتح الاسلامى بقليل وهى :

 




يتبع