“حُروب الرّدة”… وجهة نظر أخرى! 2/2
يرى بعض المؤرخين أن الرواية الإسلامية ليست دقيقة من حيث تقديرها لإنجازات النبي في الجزيرة العربية، فالعرب لم يسلموا جميعا، ومن ثم لا يمكن أن نعتبر “حروب الردة”، سوى تتميما لعمل النبي في السعي نحو التكتل الذي كانت ملامحه قبل الإسلام ضعيفة.
بعدما تابعنا في الجزء الأول مفهوم “الردة” وماهيته، كما يرد ذلك في التاريخ الإسلامي، وكذا دور أبي بكر في مقاومة حركات التمرد تلك… في هذا الجزء الثاني والأخير، نتابع وجهة النظر الأخرى عما يسمى بـ”حروب الردة”
ما نفهمه من الرواية التقليدية للتاريخ الإسلامي، أن الجزيرة العربية كلها أسلمت في حياة النبي، وخضعت للسلطة المركزية في المدينة، ثم كان أن ارتدت بعد وفاته.
تذكيرا بهذه الرواية، فإنها تفترض أن “الردة” كانت حركة دينية موجهة ضد الإسلام، وأن عددا من القبائل، انكفأت عن دعوة النبي بعد وفاته، وراحت تبدل في معتقداتها بظهور عدد من المتنبئين، متمردة بذلك على سلطة المدينة
ما سمي بـ”حروب الردة” إذن، لم يحدث لإرجاع أناس أسلموا ثم تركوا الإسلام، إنما وفق الدوري، كانت هذه الحروب سياسية دينية، لإخضاع من لم يخضع، وضمه إلى الإسلام.
لكن الأكاديمي الفلسطيني إلياس شوفاني، يشير في كتابه “حروب الردة”، إلى أن بعض المؤرخين يرون أن الرواية التقليدية ليست دقيقة من حيث تقديرها لإنجازات النبي في الجزيرة العربية.
مثل ذلك، المؤرخ العراقي عبد العزيز الدوري، الذي يقول في كتابه “مقدمة في تاريخ صدر الإسلام”، إن بعض القبائل انحازت إلى المدينة سياسيا؛ لكن البعض الآخر اعتبر الزكاة إذلالا وخضع لسلطة المدينة كرها؛ في حين لم ينحز آخرون إلى المدينة، لا سياسيا ولا دينيا.
الدوري يؤكد أنه ينبغي ألا نغفل هنا عن حركة توحيد العرب، المشروع الذي يظهر في شكل امتزاج للدين بالسياسة منذ بداية الدعوة الإسلامية.
ما سمي بـ”حروب الردة” إذن، لم يحدث لإرجاع أناس أسلموا ثم تركوا الإسلام، إنما وفق الدوري، كانت هذه الحروب سياسية دينية، لإخضاع من لم يخضع، وضمه إلى الإسلام.
بعبارة أخرى، يمكننا عدّ عمل أبي بكر متمما لعمل النبي، في السعي نحو التكتل الذي كانت ملامحه قبل الإسلام ضعيفة.
في هذا الصدد، كان الجهاد من الأسس التي مضى فيها أبو بكر، سعيا إلى تكوين هذه الأمة… في أول خطاب له على المنبر، غداة استخلافه، كان مما قاله أبو بكر، ويرد في كثير من المراجع التاريخية، مثل تاريخ الطبري:
“لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل…”.
لا بد أن نشير إلى أن “حروب الردة”، مع أنها تحتل مكانة حساسة في التاريخ الإسلامي، إلا أنها لم تنل حيزها الكافي في الكتابات آنذاك، ذلك أن “بطولات” خالد بن الوليد، اخطفت الأضواء في هذه الفترة، من أبي بكر نفسه.
الرواية التقليدية لـ”حروب الردة”، تعرضت لكثير من النقد، بخاصة في الغرب، ودون الخوض في نقاش مصداقية المستشرقين، الذي كنا قد أفردنا له ملفا خاصا ، لا بأس من عرض بعض آرائهم في “حروب الردة”، كما يوردها إلياس شوفاني في كتابه.
المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن كان أول من طعن في الرواية التقليدية، فهو يرى أن “الردة” كانت انشقاقا عن القيادة السياسية للمدينة، وليست انكفاءً عن الإسلام كديانة.
بالنسبة له، كانت أغلبية القبائل ترغب في الاستمرار بعبادة لله، لكن دون أداء الزكاة؛ إذ أن عداء القبائل كان موجها ضد عمال المدينة، لا ضد إلهها أو ديانتها.
أما المستشرق الألماني كارل بيكر، فيرى أن المؤرخين المسلمين الأوائل لم يجدوا تفسيرا للحروب الكثيرة التي استلزمها إخضاع الجزيرة لسيادة الإسلام، بعد وفاة النبي، فعللوا ذلك بـ”الردة”.
بيكر يرى أيضا أن غالبية الذين اعتبروا مرتدين، لم يعتنقوا الإسلام سابقا، وأن الحرب ضد “أهل الردة” لم تكن ضد مرتدين بالفعل، فالقبائل اعترضت على سيادة المدينة والزكاة، وليس على الدين.
المستشرق الألماني يوليوس فلهاوزن كان أول من طعن في الرواية التقليدية، فهو يرى أن “الردة” كانت انشقاقا عن القيادة السياسية للمدينة، وليست انكفاءً عن الإسلام كديانة.
من جانبه، يرى المستشرق الإنجليزي بيرنارد لويس أن مصطلح “ردة” يشكل تحريفا لمغزى الأحداث، قام به مؤرخون لاحقون ممن اقتصرت رؤيتهم على المنظور الديني.
لويس يذهب إلى أن رفض القبائل الاعتراف بخلافة أبي بكر، لم يكن في الواقع ارتداد أناس كانوا قد أسلموا سابقا وعادوا إلى “دين آبائهم”، إنما كان ببساطة، إنهاءً آليا لعقد سياسي مات أحد أطرافه.
الذي حدث، وفق لويس، أن القبائل لم تشعر بأي شكل من الأشكال أنها ملتزمة بانتخاب أبي بكر. كما أنها لم تشارك في ذلك، ومن ثم، بادرت على الفور إلى تعليق المعاهدة وأداء الزكاة.
هكذا، وحتى يعاد تثبيت سيطرة المدينة، كان على أبي بكر أن يُخضع، عسكريا، قبائل كثيرة تمهيدا لاعتناقها الإسلام.
ذاك ما يتجلى، كما أشرنا في الجزء الأول  في قول شاعر من أصحاب المتنبئ طليحة الأسدي:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا … فيا لعباد الله ما لأبي بكر
أيورثنا بكرا إذا مات بعده … وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
بالمقابل، يتميز المستشرق الإنجليزي وليام مونتغمري وات عن باقي المستشرقين، بكونه الأكثر تقبلا لوجهة نظر المؤرخين المسلمين…
لا يختلف اثنان في أن أبا بكر نجح في ما صبا إليه؛ بل وكان ما فعله تمهيدا لغزو ما جاور المسلمين من أمم، بعدما اكتشفوا ضعف تحصين عدد من المواقع.
“في العقل التحليلي الأوروبي، قد تكون تلك حركة سياسية. لكن، في الواقع الشمولي للأحداث، لم يكن هناك فصل بين العوامل السياسية والدينية”، يقول مونتغمري.
المستشرق الإنجليزي يعتبر أن المؤرخين المسلمين كانوا على حق، عندما اعتبروا “الردة” حركة دينية؛ بينما أخطأ الأساتذة الأوروبيون عندما نظروا إلى “الدين” بمفهوم أوروبي وليس عربي.
هكذا، يقول مونتغمري، إن “الردة” كانت حركة ابتعاد عن النظام الإسلامي دينيا، اجتماعيا، اقتصاديا، وسياسيا، ومن ثم فهي ضد الإسلام.
في الأخير، لا بد أن نشير إلى أن “حروب الردة”، مع أنها تحتل مكانة حساسة في التاريخ الإسلامي، إلا أنها لم تنل حيزها الكافي في الكتابات آنذاك، ذلك أن “بطولات” خالد بن الوليد، اخطفت الأضواء في هذه الفترة، من أبي بكر نفسه.
ربما يكون هذا سبب اختلاف قراءات ماهية “الردة” وحروبها… بيد أنه لا يختلف اثنان في أن أبا بكر نجح في ما صبا إليه؛ بل وكان ذلك تمهيدا لغزو ما جاور المسلمين من أمم، بعدما اكتشفوا ضعف تحصين عدد من المواقع

“حُروب الرّدة”… وجهة نظر أخرى! 2/2 Sans_135