تاريخ ثورة الجند المأجور بقيادة المتمرد الامازيغي ماطو على مدينة قرطاج


تاريخ ثورة الجند المأجور بقيادة المتمرد الامازيغي ماطو على مدينة قرطاج %D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A3%D8%AC%D9%88%D8%B1


تأسست مدينة قرطاج على الساحل الليبي (الأفريقي) حسب أسطورة ذات حبكة إغريقية على يد سيّدة صورية Tyrienne  (من مدينة صور في الساحل اللبناني)  تدعى إليسّا (2) (Elissa) حوالي 814 ق.م.، وتحوّلت هذه المدينة بالتدريج إلى مركز تجاري كبير في المنطقة، ثمّ إلى عاصمة لكلّ الجاليات (3) التجارية الفينيقية في الحوض الغربي للمتوسّط، وتكون قد استقلّت نهائيا عن المدينة الأمّ (صور) منذ القرن الخامس الميلادي، ومع نمو روما وظهور تطلّعات لها في البحر المتوسّط ستجد قرطاج نفسها منذ القرن الثالث ق.م. أمام منافس شرس يحلّ محلّ منافسها التقليدي (الإغريق) ويعتمد على قوّة عسكرية محترفة، وحيث أنّ المصالح التجارية لقرطاج كانت أكبر بكثير من إمكاناتها البشرية والعسكرية، فإنّها كانت تعتمد منذ بداية الاصطدام بالإغريق ثمّ الرومان على الآلاف من المجنَّدين الذين تستأجرهم وتضعهم تحت قيادة كبار الض بّاط القرطاجيين بحيث أنّ العنصر البوني (القرطاجي) كان دائما يمثّل نخبة محدودة العدد، أمّا الأغلبية فكانت على الخصوص من رعاياها الليبيين أو الليبوفينيقيين، ومن النوميد (4) ، تُضاف إليهم أعداد من أعراق مختلفة يُؤتى بها من موانئ البحر المتوسّط.
    اصطدمت قرطاج بروما عسكريا ودارت بينهما أكبر حرب عرفها التاريخ القديم وهي الحرب البونية (5) التي استمرّت عقودا طويلة وكان النصر فيها بين الطرفين سجالا، غير أنّها ستنتهي بالقضاء النهائي على قرطاج، وقد امتدّت كما هو معروف على ثلاث حلقات وهي :
– الحرب البونية الأولى( 264 -241 ق.م).
الحرب البونية الثانية (218 -201  ق.م).
الحرب البونية الثالثة (149 -146 ق.م).
     يهمّنا في هذه الدراسة أن نحاول تسليط الضوء على ما يشار إليه في المصادر بثورة جند قرطاج على قيادته وعلى الأوليغارشية التجارية الحاكمة في العاصمة البونية في أعقاب الحرب البونية الأولى، لأنّنا نرى أنّ تلك الثورة تحتاج إلى معالجة عميقة فهي تمثّل منعرجا خطيرا في تاريخ العلاقات بين الشعب الأفريقي والجالية البونية المنحدرة من الفينيقيين، هؤلاء الذين تحدّث الكثير عن تعلّقهم بالسلم وعن الوفاق الذي ظلّ يحكم علاقاتهم بالأهالي الليبيين منذ وصولهم إلى الشواطئ الأفريقية إلى تأسيس قرطاج وتحوّلها إلى إمبراطورية تجارية كبرى. كانت ثورة جند قرطاج من أهمّ تداعيات الحرب البونية الأولى التي انتهت بهزيمة القرطاجيين هزيمة ثقيلة، حيث أُجبروا على توقيع معاهدة بشروط جائرة، أملاها الطرف الروماني المنتصر بكلّ عنجهية ووقّعها الطرف القرطاجي المهزوم الذي لم يجد أمامه غير ذلك (6) ، وكان على القائد القرطاجي جيسكو (Gisco) أن يقوم بسحب الجيش القرطاجي المهزوم من صقلية للعودة به إلى قرطاج، وهي المهمّة التي عهد بها إليه هاميلكار (Hamilcar) ، وكان جيسكو هذا مطّلعا على الأحوال المالية لقرطاج، وأنّها لا تستطيع دفع رواتب الجند أو أنّها في الحقيقة لا تنوي فعل ذلك، خاصّة وأنّ نفقات الحرب وخسائرها قد استنفدت الكثير من الأموال، ففكّر في أن يقسّم الجند إلى فرق ثمّ يسيّرها تباعا إلى قرطاج على أمل التفاوض معها لتخفيض تلك الأجور، أو على الأقلّ حتّى لا يطالب الجند بأجورهم دفعة واحدة، وعند وصول تلك الفرق ولتهدئة الأوضاع تمّ دفع قطعة نقدية ذهبية لكلّ جندي، وطُلب من الجميع أن يتوجّهوا إلى مدينة سيكا ( Sicca ) وهي الكاف حاليا، ومعهم نساؤهم وأطفالهم، ونفّذ الطلب وانتقل الجميع إلى الكاف وأقاموا معسكرات بها بانتظار وعود الطبقة الحاكمة في قرطاج (7) . في الكاف (سيكا)، اضطرّ الجند إلى الاستدانة، وكان في اعتقاد أفراده أنّ قرطاج ستدفع لهم حقوقهم لتسديد ديونهم، لكن الأوليغارشية (Oligarchie) الحاكمة في قرطاج لم تكن مستعدّة لذلك، وكلّفت القائد هانو (Hanno) أن يقنعهم بقبول تخفيض أجورهم، وقد تفطّن هؤلاء الجند إلى نوايا حكومة قرطاج، وكان عددهم حوالي 20000 من أعراق عديدة من الإسبان والغاليين والليغوريين والإغريق وخاصّة العنصر الليبي الذي كان يمثّل الأغلبية الساحقة (8).
 لم يكن خطر اكتساح الجند لقرطاج يخفى على القلّة الحاكمة في قرطاج، ولذلك بادرت بإرسال مندوبين لتهدئمة الأوضاع وتقديم الوعود بأنّ قرطاج ستزوّدهم بانتظام بالمؤون في مقابل مستحقّاتهم من الأجور والمكافآت.
تحوّل الاحتجاج إلى ثورة


تاريخ ثورة الجند المأجور بقيادة المتمرد الامازيغي ماطو على مدينة قرطاج 196px-Poirson3_-_Mato


 كانت مطالب الجند تتمثّل في الحصول على القمح، وعلى تعويض أفراسهم التي خسروها في الحرب، وأخذت أوضاعهم مع توالي الأيام تزداد سوءا، ومطالبهم    تزداد حدّة، فلم يجد مجلس الشيوخ القرطاجي بدّا من الاستجابة ولكن باستعمال التفاوض لكسب الوقت وللتهدئة، وإمعانا في التحايل عبّر المجلس عن استعداده للتوسّط مع قادتهم العسكريين، وانتدب لمهمّة التفاوض والتهدئة القائد جيسكو، الذي ذهب إلى سيكا محمّلا بمبالغ مالية معتبرة، وبالمؤن لتوزيعها على عائلات الجند ! في سيكّا، اعتمد جيسكو على الدهاء، فتعمّد أن يتفاوض مع كلّ مجموعة عرقية على حدة ونجح في إقناع الأغلبية منهم بأن ينتظروا مدّة لتسوية أوضاعهم، وكاد الأمر أن ينتهي على هذا النحو لولا انكشاف نوايا القائد القرطاجي المفاوض، الذي كان يتماطل لكسب الوقت، فارتفعت الأصوات وسط الجموع الحاشدة بأنّ الأرستقراطية التجارية الحاكمة في قرطاج لا تريد أن تنفق من ثرواتها الطائلة على من كانوا يفتدونها بأرواحهم في الحرب، وكان على رأس من كشفوا تلاعب القرطاجيين اثنان أحدهما: ماطو (Mathos) وهو ليبي يمتاز بالشجاعة والجرأة، والثاني هو سبنديوس(Spendius) وهو من أصل كمباني، وكان عبدا ولكنّه أبدى في حرب صقلية شجاعة جلبت له احترام الجميع (9) .
    توجّه الاثنان : ماطو وسبنديوس إلى الليبيين وهم الأغلبية الساحقة في الجند المأجور، وكشفا لهم عن نوايا الطغمة الأرستقراطية في قرطاج التي تنوي دفع مستحقّات الفرق الأجنبية وترحيلها إلى بلدانها الأصلية ثمّ إنزال أشدّ العقوبة بالليبيين (10) والنوميد أبناء البلاد، وجعْلهم يدفعون ثمن التحريض الجماعي، خاصّة وأنّ علاقة الطغمة التجارية في قرطاج مع الأهالي أصبحت تقوم على القسوة والاستعلاء، وفي كلّ مرّة تخسر الحرب كانت تعوّض خسائرها بفرض المزيد من الضرائب الباهظة عليهم، وتقوم بنهب منظّم لممتلكاتهم، ولذلك وجد خطاب ماطو استجابة قويّة، وانقلب باقي الجند على جيسكو وفرقته المتكوّنة من سامي الضبّاط، فقتل منهم عدد هامّ عندما دوّت صيحات الحرب من كلّ جانب، وفحواها عبارة : اضرب ! المفهومة في كلّ لغات ذلك الخليط من الأجناس ولم ينجح جيسكو في تهدئتهم، وانقضّ الثائرون على أمتعته ومعدّاته فنهبوها وتمّ الاستيلاء على الأموال التي كانت ستُدفع لقادة الجند المأجور، ثمّ قُبض على جيسكو نفسه وعلى كلّ ضبّاطه ووضعوا رهن الأسر (11) . أحسّ ماطو ومعه كلّ الليبيين والنوميد في الجند المأجور بنوايا الغدر بهم من قبل الأرستقراطية التجارية الحاكمة في قرطاج التي عوض أن تعتبرهم جيشا وطنيا فتمنحهم الاعتبار والحقوق للدفاع عن البلاد، هاهي تفضّل عليهم الفرق الأجنبية، وفوق ذلك هاهي تضمر لهم شرّ انتقام، وهذا كان كافيا لأن يحرّك كلّ النوميد في ما وراء القطر القرطاجي وفي عمق كلّ البلاد المغاربية (12) . أصدر ماطو نداء إلى كلّ الأفريقيين، وأرسل مساعديه الأقربين إلى كلّ جهات البلاد يستنهض همم الشعب لحمل السلاد، فقد جاءت الفرصة للتحرّر من حكم الأوليغارشية التجارية القرطاجية، فاستجابت له البلاد ووصله الدعم من كلّ الأنحاء، وبعد تلقّيه المدد قام بتسيير فرق نحو مدينتين رفضتا المساهمة في دعمه وهما:
    أوتيكا (Utica) وهيبودياريتوس (بنزرت) (Hippo diarrhytus) لأنّهما كانتا مركزا لجالية بونية لا تختلف في جشعها عن الأوليغارشية الحاكمة في قرطاج (13) .وجدت قرطاج نفسها في مأزق كبير، فإنّها ما كادت تخرج من هزيمتها في حرب صقلّية دون بحرية، دون سلاد ودون جيش، حتّى وجدت نفسها في مواجهة ثورة الأهالي، وحتّى الموالين لها منهم انتفضوا، وظهرت مطالب جديدة، فالريفيون طالبوا بأن تقدّم لهم التعويضات في شكل ملكيات زراعية لتعويض نصف مستحقّاتهم، أمّا سكّان المدن فطالبوا بتخفيض الضرائب الثقيلة على نشاطاتهم الحرفية والتجارية إلى النصف، واتّسعت موجة التذمّر لتشمل المدن والأرياف على السواء وكان القهرالمسلّط على السكّان من قبل الأشفاط (Suffètes) المحلّيين لا حدّ له، ومن النساء من تبرّعن بحليهنّ لتمويل المجهود الحربي، ومن تلك الأموال دفع ماطو لكلّ جندي التعويضات والمكافآت التي وعدهم بها، ووجّه نداء إلى باقي الجند المأجورمن على اختلاف أعراقهم للانضمام إليه، وأنّه سيدفع لهم أجورهم إن هم تعهّدوا بالعمل معه والولاء له (14) .
الاستعدادات في المعسكرين وإعلان الحرب
   قامت قرطاج بتجنيد كلّ من يستطيع حمل السلاد واستعانت بجند مأجور من عناصر غالية وإسبانية، كانوا متواجدين في المدينة، وأصدرت نداء إلى السكّان بالمشاركة في تمويل الدفاع عن المدينة، كما تلقّت المدد من روما، وفي ذلك مناورة رومانية غاية في الدهاء فقد انتزع الرومان من قرطاج جزيرتي سردينيا وكورسيكا مستغلّين تداعيات الحرب البونية الأولى ولكنّهم من جهة أخرى زوّدونها بالمؤن ليوهموها بتحسُن العلاقة بين الطرفين أمّا الغرض الحقيقي الذي يخفونه فهو الوقوف إلى جانبها لتقضي على ذلك الجيش الذي قد تستخدمه يوما في حال الصلح معه في حروبها ضدّهم. كان جند ماطو يزداد كلّ يوم، فقد وصلته نجدات من داخل البلاد من أمراء القبائل النوميدية، وارتفع عدد أفراد جيشه إلى 60000 رجل، ممّا ساعده على تعزيز معسكراته قرب تونس بالتحصينات، وشدّد الحصار على مدينتي أوتيكا وهيبودياريتوس ولحماية أوتيكا القريبة من قرطاج [أنظر الرقم (1) في الخريطة أدناه]، أسرع القائد القرطاجي هانو لنجدتها على رأس جيش كبير وأكثر من 100 فيل، ومجانيق ومقذوفات ونبال من كلّ نوع، ثمّ عسكر قبالة المدينة وحاول اقتحام معسكر الثائرين، وكاد أن ينجح في دفعهم إلى التقهقر، وأمام هذا الهجوم المباغت قام ماطو بسحب جيشه إلى أعلى هضبة مجاورة للتمركز فيها، غير أنّها لم ت تّسع لجنده الكبير، فتفرّق بعضهم في السهول المجاورة، واعتقد هانو أنّه انتصر فتراجع إلى المدينة ولم ير جنده حرجا في التجرّد من أسلحتهم، وفي تلك الأثناء أمر ماطو الذي كان يراقب خصمه بدقّة بالهجوم لمباغتة- المعسكر القرطاجي، وهجم الثائرون فانهزم الجيش القرطاجي وتمّ الاستيلاء على الأمتعة والأسلحة وكلّ آلات الحرب التي تركها خلفه! (15) . امتدّ الرعب إلى القلّة الحاكمة في قرطاج، فقرّر أشفاطها عزل هانو من القيادة، وتعيين هاميلكار باركا خلفا له، وجهّزوه ب 20 فيلا وكلّ من استطاعوا جمعهم من جنود أجانب وكلّ من يستطيع حمل السلاد في المدينة، حتّى بلغ عدد الجند الذي حشدوه حوالي 10000 فرد ما بين مشاة وخيالة (16).
      ما إن خرج هاميلكار باركا من قرطاج حتّى وجد نفسه وجها لوجه أمام الثائرين، وبدا له أنّ المهمّة التي كلّف بها ليست سهلة، وليس أمامه سوى الدفاع عن نفسه وعن الطبقة الحاكمة في المدينة، فصفّف جنده استعدادا للمعركة، ولكن الجيش القرطاجي لم يصمد وانهزم باتّجاه أسوار المدينة للاحتماء بها [أنظر الرقم (4) في الخريطة أدناه] وفي هذا الموقف الحرج تمكّن القائد هاميلكار باركا الذي كان يمتلك خبرة حربية كبيرة من الاحتفاظ برباطة الجيش للاستفادة من أيّ خطأ يُرتَكب في معسكر العدو لتحويل الهزيمة إلى نصر، وقد تحقّق توق عه، فما إن لاحظ جند الثائرين منتشين بانتصارهم دون تماسك حتّى أمر بالهجوم المضادّ، وضرَب الضربة الخاطفة، فأوقع هلعا كبيرا في صفوف الثائرين وأباد منهم ستّة آلاف واقتاد ألفي أسير وأطلق العنان لجنده الذين استرجعوا ثقتهم بالنفس، فقاموا بنهب المدن والقرى والأرياف المجاورة عقابا لها على تأييد الثائرين، وعادوا بغنائم معتبرة (17) . في تلك الأثناء كان ماطو لا يزال يحاصر هيبو دياريتوس، ولمّا وصلته أخبار انهزام جيش سبينديوس أسرع في طلب المدد من كلّ المدن والقبائل الليبية النوميدية في الداخل، ثمّ طلب من أنصاره تحاشي المواجهة الحربية في الأراضي السهلية لتفوّق القرطاجيين بخيالاتهم وفيلتهم، وأمر بأن يستدرج الخصم دائما إلى الأرض الجبلية لتكون الطبيعة عونا لهم في المعركة (18) .
    تلقّى سبينديوس وقائد الجند الغالي: أوطاريت (Autarite) مددا من القبائل الليبية  النوميدية وكانا على رأس الجيش الثائر الذي أخذ على عاتقه مهمّة حصار قرطاج، وأخذا يتابعان عن قرب مسيرة هاميلكار باركا، حتّى عسكر في سهل محاط بتلال غابية، فعسكرا هما أيضا قبالة خصمهم في موقع محاط بخنادق، وجعلوا على الأطراف وفي المؤخّرة لإحكام الحراسة المشاة النوميد المسلّحين بالرماد والنبال  – (19) .
انضمام القائد ناراواس إلى المعسكر القرطاجي
      في تلك الأثناء وصل إلى معسكر هاميلكار قائد فرسان نوميدي من درجة رفيعة اسمه ناراواس (Naravas) ، وكان قد غادر جيش ماطو ومعه مائة فارس، وطلب مقابلة هاميلكار باركا شخصيا، فاستقبله هذا الأخير بحفاوة وطلب منه أن يفصح عن غرضه فأجابه بأنّه يكنّ مودّة وإخلاصا للبونيين وأنّه يريد أن يكون الصديق الحميم والرفيق الدائم له في كلّ أعماله (20) وجد هاميلكار في حديث هذا القائد النوميدي الشابّ صراحة بريئة فلم يتردّد في الإعلان له بأنّه سيجعله مستشارا له، بل وتعهّد بأنّه سيزوّجه بابنته إن بقي على وفائه لقرطاج، غير أنّنا لا نعتقد بأنّ الأحداث التاريخية تسير بهذه العفوية والبراءة، ولا ريب أنّ القرطاجيين سعوا إلى كسب بعض القيادات النوميدية إلى جانبهم على أمل أن تستعمل تلك القيادات نفوذها فينضمّ إليها المزيد من الأنصار ممّا يستنزف قوى الثائرين، ولا ننسى بأنّ ناراواس هذا هو أحد ملوك الأسرة الماسلية، وأنّ تزويج الملوك النوميد بأميرات قرطاجيات يدخل ضمن الصفقات “التجارية” التي يبرمها حكّام قرطاج لضمان نفوذهم في المملكة النوميدية (21) . عاد ناراواس إلى معسكره، وفي الوقت المناسب خرج منه والتحق بالمعسكر القرطاجي، ولا ريب أنّ ذلك كان من أسباب النصر الذي حقّقه هاميلكار باركا في المعركة الرهيبة [أنظر الرقم (3) في الخريطة أدناه]  التي خاضها بعد انضمام ناراواس إليه، فقد انهزم الثائرون تاركين وراءهم عشرة آلاف قتيل وأربعة آلاف أسير، وكانت هذه المعركة هي بداية العدّ العكسي بالنسبة لهم، واسترجع هاميلكار تفوّقه وأصبح الآخذ بزمام الحرب (22) . بعد هذا النصر الساحق، قرّر هاميلكار باركا أنّه يقبل في صفوف جيشه كلّ من يريد خدمة قرطاج، على حدّ تعبيره، وأطلق باقي الأسرى بعد أن تعهّدوا له بأنّهم لن يحملوا السلاد ضدّه.
     عندما بدا لهاميلكار أنّ المواجهة العسكرية غير كافية، جاء دور الحرب التي نسمّيها اليوم الحرب النفسية، فقد كان هاميلكار باركا يريد بذكائه أن يثبت بأنّه متسامح وأنّه لن يعاقب من تخلّى عن حمل السلاد ضدّه، ولذلك وجد ماطو وحليفه سبينديوس نفسيهما يواجهان وضعا صعبا، فقد يغري”سخاء” هاميلكار بإعلان إطلاق سراد الأسرى –جندهما ولكن من جهة أخرى ليس صعبا أن يتفهّم جنده حقيقة الأهداف التي يسعى إليها هاميلكار باركا، وهم يعرفون مقدار استعلاء القرطاجيين عندما تكون الغلبة لهم، وعلى العموم فإنّ الجند يكون قد توجّس الانتقام الشديد خاصّة من العنصر الأهلي وهو الذي يمثّل الأغلبية، فإطلاق بعض الأسرى لا ينسي إطلاقا إبادة عشرة آلاف جندي، ولذلك وقع هيجان كبير في جند ماطو، أدّى إلى التنكيل بالأسرى القرطاجيين الذين كانوا يتحرّشون ويتوعّدون الجميع بالإبادة علىيد باركا مثلما حدث في المعركة التي قادها سبينديوس وأوطاريت (23) .
    أصبح هاميلكار القائد الأوحد بمباركة الأشفاط، كما أنّ انتصاره الساحق خلّف رعبا كبيرا في صفوف الثائرين، ولم يعد أحد يقوى على المجازفة بمواجهته، فتحوّل إلى اعتماد أسلوب حرب الكمائن، وكلّ أسير يقع بين يديه يأمر بتقطيعه إربا، ورمي جثّته للوحوش الضارية (24) . لا ندري كيف تحوّلت المدينتان : هيبو دياريتوس وأوتيكا إلى صفّ الثائرين ضدّ قرطاج، ولعلّ العداوة التقليدية بين أوتيكا وقرطاج عادت من جديد (25) ، فقد قام الأوتيكيون بإبادة الحامية القرطاجية في مدينتهم وكان قوامها حوالي خمسمائة رجل وقذفوا بجثثهم في خندق (26) . عندما اطمأنّ ماطو إلى ولاء هيبودياريتوس وأوتيكا، عاد إليه الأمل في مواصلة الحرب، وزحف إلى قرطاج، وفور وصوله إليها، شرع في حصارها، ويبدو أنّ هاميلكار قد أهاله تجمّع خصومه حول المدينة، فلم يجازف بالخروج بجنده لمواجهتهم، ولذلك لجأ إلى خطّة أخرى؛ فقد أمر بتشديد الحراسة على الأسوار واستخلف ابنه هانيبال على المدينة، وخرج متخفّيا على رأس فرق صغيرة للإغارة على الأرياف الليبية النوميدية، لمضايقة الجند المحاصر لقرطاج ومحاولة فكّ الحصار عنها، وكذلك للحيلولة دون وصول المؤن إلى الثائرين، ولا ريب أنّ ناراواس كان الساعد القويّ لهاميلكار في كلّ خططه. لم تجد قرطاج بدّا من طلب الإعانة من الإغريقي هيرون (Héron) ملك سيراقوسة (Syracuse) وكذلك من مجلس الشيوخ الروماني لأنّ الحصار حرمها من التموّن برّا، ولم يبق أمامها سوى محاولة التموّن من جهة البحر فاستجاب هيرون – وأرسل مؤنا وعددا من المأجورين، إلاّ أنّ روما منعت السفن الإغريقية من تقديم العون لقرطاج خشية حصول تقارب بين الطرفين يهدّد مصالحها، وقد يتحوّل إلى حلف ضدّها، لأنّ مصلحة روما تكمن في بقاء قرطاج ضعيفة أفضل من زوالها، وسمحت لسفنها بتموين قرطاج بالمؤن والعتاد، وكان وصول المدد من روما عامل قوّة لهاميلكار وحليفه ناراواس، فتمكّنا من إجبار ماطو على رفع الحصار عن المدينة( 239 ق.م ) كان ماطو يريد أن يسدّد الضربة الحاسمة لخصمه، فأوهمه بأنّه ينسحب، وكلّف قائده زارزاس (Zarzas) بمهاجمة الجيش القرطاجي من الخلف، وقام هو بنصب كمين بعيدا عن أنظار هاميلكار حتّى يأخذه على حين غرّة غير أنّ تلك المناورات لم تكن تخفى على هاميلكار وحليفه ناراواس اللذين استدرجا بدورهما فرقا من معسكر الثائرين للإيقاع بها، ولمّا شعرا أنّهما استرجعا قوّتهما وأنّ بإمكانهما أخذ زمام المبادرة قرّرا مباشرة حصار معسكر الخصم، فأمرا بالتمركز في كلّ الممرّات والمعابر الضيّقة الموصلة إلى معسكر الثائرين، كما أمرا بحفر خندق وإقامة تحصينات عليه لحماية معسكرهما من هجوم مباغت، وبتنفيذ هذه الخطّة أصبح معسكر الثائرين محاصرا وليس في إمكانه أن يتلقّى النجدات ولا أن يبادر لا إلى المعركة ولا حتّى إلى الانسحاب، وهو مهدّد بالمجاعة، وأخذت الأمراض تنتشر في صفوفه وفتكت بالكثير من الأسرى والعبيد وح تّى الخيول، ومع ذلك كلّه لم يبادر هاميلكار بالهجوم رغم أنّ في استطاعته أن يفعل ذلك، وكأنّه ينتظر أن ينهار خصمه نهائيا، ثمّ يكرّ عليه كرّة واحدة فيسحقه نهائيا، وفي هذا الوضع الصعب حاول أوطاريت وسبينديوس وزارزاس وقادة آخرين الاتصال بهاميلكار للتفاوض معه، ولكن هاميلكار اشترط كما يقول المؤرّخ بوليب أن يسلّم عشرة من الثائرين يختارهم هو أنفسهم له، وسيطلق سراحهم، أمّا – – الباقي فيسرّحون دون سلاد ودون لباس إلاّ ما يستر عوراتهم ! (27) .
    أمضى المفاوضون الاتفاق واختار هاميلكار سبينديوس وأوطاريت و زارزاس وسبعة آخرين كما جاء في الاتفاق، وقد تمّ ذلك كلّه دون علم الجيش الثائر ودون علم القائد الأعلى ماطو، وقد انكشفت خيانة المفاوضين عندما لم يعودوا إلى معسكرهم لعرض نتائج المفاوضات، وانتشر الذعر في صفوف الثائرين الذين تأكّدوا بأنّ حياتهم في سيوفهم، فأخذوا أسلحتهم واستعدّوا للحرب (28) . تدلّ هذه الوقائع بأنّ القائد القرطاجي تمكّن من كسب الحرب النفسية واخترق صفوف خصمه، ولم يبق إلاّ الاشتباك، ولذلك أمر بدفع الفيلة تجاه الثائرين، وتمّ الهجوم ونشبت المعركة، فتراجع جيش الثائرين والجيش القرطاجي يتعقّبه حتّى أجبره على الاحتماء بمضيق بين الجبال يحتمل أن يكون فجّ المنشار (Défilé de la Scie) (على بعد حوالي 12 كلم غربي الحمّامات)، [أنظر الرقم (2) في الخريطة أدناه] وهناك واجه الثائرون مصيرا رهيبا، فقد أبيد منهم عدد كبير ذهب ضحية خيانة القادة المفاوضين الذين آثروا الاحتفاظ بحياتهم مقابل التضحية بذلك العدد الضخم، إنّها “الحرب التي لا تُغتفر”، حيث وقع ذلك الجيش الكبير من الثائرين من جهة بين قادة جبناء ذهبوا للتفاوض وتركوه يلاقي مصيره دون قيادة وخصم شرس متعطّش للدماء من جهة أخرى.
     عاد الجيش القرطاجي نحو عاصمته، وجاء دور المفاوض سبينديوس وباقي الأسرى ولم يشفع لهم استسلامهم، حيث صُلبوا على مرأى من ماطو وجيشه الذي كان يرابط بجانب أسوار قرطاج، وفي تلك الأثناء أبصر ماطو القائد القرطاجي هانيبال ابن هاميلكار وهو غير مكترث لثقته الكبيرة في القوّة القرطاجية المنتصرة، فأمر بالهجوم على المعسكر القرطاجي الذي يقوده هانيبال، وقتل عددا معتبرا من جيشه، واقتاد معه هانيبال ذاته أسيرا، وأمر بصلبه وتعذيبه في مقابل ما اقترفه أبوه في حقّ الثائرين من جرم لا يغتفر، ولمّا وصل خبر أسر هانيبال إلى والده هاميلكار، لم يتوان في إعلان الزحف للالتحاق بمعسكر هانيبال (29) حيث افتكّ ابنه من الأسر وأبعد خطر الثائرين عن قرطاج، وكان يخطّط لاستدراجهم بعيدا عنها للإجهاز عليهم.
المواجهة النهائية
    لم يكن في وسع الطرفين أن ينتظرا أكثر وكان لا بدّ من معركة فاصلة، وأخذ ميزان القوى يميل لصالح القرطاجيين الذين تأكّدوا من الإرهاق الذي لحق بجيش خصومهم الثائرين، وهي فرصة لم يشأ القائد القرطاجي هاميلكار تضييعها، فأعلن الحرب ودارت المعركة غير بعيد عن لمطة (Leptis Minor) [أنظر الرقم 5)) فيالخريطة أدناه]، حيث استجمع الطرفان قواتهما، وبذلك يكون هاميلكار قد تمكّن من إبعاد الخطر على قرطاج واختار أن يكون ميدان المعركة الفاصلة في هذه المنطقة البعيدة عن العاصمة البونية ليجنّبها خطر الاستيلاء عليها من طرف الثائرين في حال انتصارهم، وأكثر من ذلك تمكّن من حشد جيش ضخم من النجدات التي جاءته من المدن الموالية له، ولذلك تحقّق له النصر (حوالي 237 ق.م.)، وتمّ القبض على ماطو قائد الثورة و أُعدم بفظاعة، واحتفل القرطاجيون بانتصارهم وأطلق هاميلكار العنان لجيشه للهجوم على العزّل ونهب كلّ شيء، واعتبر تلك الغنائم مكافأة لجيشه لقاء النصر الذي حقّقه . كان القائدان هاميلكار وهانو قد تصالحا، بعد طول خلاف، فكافأتهما الأوليغارشية التجارية القرطاجية بترقيتهما إلى رتبة القيادة العليا، وفي نهاية الحرب قرّرا الانتقام من مدينتي أوتيكا وهيبودياريتوس اللتين وقفتا إلى جانب الثائرين، ويحدّثنا المؤرّخ أبيان عن حملة قرطاجية ضدّ النوميد أيضا، الذين يكونون قد استمرّوا في المقاومة بعد مقتل القائد الليبي ماطو، ولعلّ خشية هاميلكار من تكرار ما حدث من تمرّد هو الذي جعله ينقل جيشه إلى إسبانيا للتوسّع هناك من جهة ولإبعاد الجند عن مدينة قرطاج من جهة أخرى.
الخاتمة
   وبعد متابعة وقائع هذه الحرب نحاول تسجيل بعض الاستنتاجات التي نرى أنّها تحمل دلالات عميقة ومنها استنتاج في شكل تساؤل عمّا إذا كان القرطاجيون يشعرون بانتمائهم كما نقول اليوم إلى المنطقة المغاربية (30) أم أنّ انتماءهم كان قاصرا لا يتجاوز تعلّقهم بالمال والتجارة ممّا جعل بلين يقول عن أسلافهم الفينيقيين أنّ التجارة هي اختراع فينيقي بحيث صعُب عليهم استبدال حبّ المال بالتضحية بقسم منه في الإنفاق العسكري، ويبدو أنّ تمسّكهم بالثروة كان أكثر بكثير من تشب ثهم بالأرض، ولعلّ فكرة الوطن عندهم لم تكن تتجاوز في أحسن الحالات أسوار قرطاج إلى الحدّ الذي جعل البعض يصف قرطاج بالسفينة الراسية التي يمكن أن تنتقل إلى أيّ ميناء آخر متى رأت أنّ ذلك ضروريا، وإذا كان الرومان قد بدءوا بتوحيد إيطاليا قبل خوض الحروب خارجها فإنّه لا توجد لدينا مؤشّرات تدلّ على أنّ البونيين فكّروا في “الوحدة المغاربية”، وإذا كان الرومان يحاربون بجيش “وطني” بالأساس فإنّ القرطاجيين اعتمدوا صيغة الجند المأجور ومارسوا الإقصاء على الشعوب المغاربية وظلّوا يعتبرونها أقواما غريبة عنهم عوض دمجها سياسيا وعسكريا لمواجهة الخطر القادم من وراء البحر الذي عندما يزحف لا يبقي ولا يذر، وأكثر من هذا أبادت قرطاج ذلك العدد الكبير من المجنّدين المغاربيين وبذلك فإنّها عمّقت الشعور بالقهر والكراهية لدى الشعب الذي يمثّل عمقها الاستراتيجي وظهرها الذي تستند إليه، وكأنّها تطبّق على نفسها سياسة التجرّد من السلاد.
   في الجانب النوميدي يدلّ الدعم المادّي والمعنوي الذي تلقّاه ماطو ومن معه من قبل الشعب الأفريقي على أنّ حركته تعبّر عن إرادة شعبية حقيقية للتحرّر من الأوليغارشية التجارية القرطاجية الجشعة التي فضّلت اكتناز الأموال على الوفاء بالتزاماتها إزاء جندها، كما أنّ اختيار ناراواس التحالف مع تلك الأوليغارشية دليل على أفقه الضيّق، وطموحه المحدود الذي لم يكن على ما يبدو يتجاوز الظفر بالزواج من بنت هاميلكار، وقد رأينا كيف كان ذلك التحالف السبب الأكبر في قهر الجند المأجور والتنكيل به، وإذا كانت الأرقام الواردة في المصادر حقيقية فإنّ إبادة أربعين ألفا كان بمثابة قتل جماعي للشعب كلّه، ممّا جعل بوليب يقول عن هذه الحرب بالحرف: ” ليس هناك حرب –إطلاقا–  على حدّ علمي، أشدّ قذارة من هذه، لفظاعتها وجُرمها  (31) ” ! في حقّ ذلك الشعب الذي ستحتاجه قرطاج ذات يوم في مستقبل أيّامها ليذود عنها، ولكن لن تجده.
بقلم الدكتور المؤرخ محمّد العربي عڨـون بروفيسور بقسم التاريخ والآثار جامعة سيرتا (قسنطينة)
جاء المقال في دراسة أكاديمية بعنوان :  من تداعيات الحرب البونية الأولى على قرطاج… ثورة جندها المأجور (241-237 ق.م )
 
هوامش وتعاليق
 
.1 استعملنا هنا عبارة الثورة [يقصد عنوان الدراسة ” من تداعيات الحرب البونية الأولى على قرطاج… ثورة جندها المأجور (241-237 ق.م ) ” ]لأنّنا نرى أنّ مضمونها الاجتماعي يتوافق مع هذا الاصطلاح، ويسمّيها بوليب : الحرب الليبية: –   Polybe, I, 65, 6  أمّا تيت ليف فيسمّيها : الحرب –الأفريقية : Tite-Live, 1, XXI, 4 ونرى أنّ عبارة الجند المأجور التي استعملناها أخفّ من عبارة حرب المرتزقة (Guerre des Mercenaires) التي استعملها اغزال، وحسب هذا الأخير فإنّ نصّ ديودور الصقلّي يطابق في أحيان كثيرة نصّ بوليب، ممّا يدلّ على أنّهما أخذا من مصدر واحد، ولكن يبقى بوليب هو المصدر الأساسي لهذه الحرب، أنظر :- S. Gsell, “Histoire Ancienne de l’ Afrique du Nord”, Ed. Hachette, Paris 1928, Tome III, p. 100.
وقد دامت هذه الثورة التي أطلق عيها أحمد صفر عبارة الكفاد التحريري ثلاث سنوات وأربعة أشهر من نهاية سنة 241 إلى بداية سنة237 ق.م. أنظر: صفر (أحمد)، مدنية المغرب العربي في التاريخ، دار بوسلامة للنشر، تونس 1969 ، ص 208.
.2 نتساءل عن العلاقة ما بين إسم مؤسّسة قرطاج وهو إليسّا والكلمة التي لا تزال تُستعمَل إلى يومنا هذا في لهجات اللغة الأمازيغية في صيغة الجمع وهي: ثولاّس (Thullas) وتعني النساء، وكلمة أخرى قريبة منها في النطق وتعني أخت الزوج، وإذا كان هذا المقال لا يتّسع لمناقشة مثل هذه المسائل فإنّنا أردنا لفت الانتباه إليها لا غير.
.3 استعملنا عبارة جالية في مقابل العبارة اللاتينية (Colonie) التي ألف المستعربون مقابلتها بمستعمرة، مع أنّ هذه الكلمة منفّرة لأنّها مرتبطة في الأذهان بالاستعمار.
.4 ليبيا في الجغرافيا القديمة وعلى الخصوص في المصادر الإغريقية هي ما نسمّيه اليوم المغرب الكبير أو أفريقيا الشمالية وقد يعمّم الاسم للدلالة على كلّ القارّة الأفريقية، والليبو -فينيقيون هم الليبيون المتفينقون أي مجموع الأهالي في القطر القرطاجي، أمّا النوميد فهم الليبيون المستقلّون عن قرطاج أي رعايا المملكة النوميدية.
.5 الحروب البونية هي سلسلة من الصراعات الحربية بين قرطاج وروما وكانت جزيرة صقلّية على الخصوص هي ميدان الحرب البونية الأولى ( 264- 241 ق.م. ) أمّا الحرب البونية الثانية(  218- 201 ق.م.) فكان ميدانها إيطاليا ولكنّها انتهت في زاما بأفريقيا، وفي الحرب البونية الثالثة(194-146 ق.م.) وهي الأخيرة التي قُضي على قرطاج نهائيا  .
.6 كانت خسائر القرطاجيين كبيرة منها إغراق 50 سفينة والاستيلاء على  70 أخرى وأسر عشرة آلاف، وقد جمع الرومان كلّ الغنائم واتّجهوا بها نحو ميناء ليليبيا، ولم يجد القرطاجيون بدّا من طلب التفاوض والصلح، فأملى عليهم الرومان شروطا غاية في القسوة منها:
– جلاء القرطاجيين عن صقلّية.
– ألاّ يدخل القرطاجيون في حرب ضدّ حلفاء روما.
– إطلاق سراد كلّ الأسرى الرومان.
– دفع 2200  وزنة فضّة … – . ، أنظر: صفر (أحمد)، مرجع سابق، ص ص 233- 234
.7 يقدّم بوليب رقما كبيرا هو 20000 وهو عدد جند قرطاج المأجور: Polybe, I, LXV, 13 ، وهؤلاء ليسوا كلّهم مرتزقة بمعنى الكلمة فلقد كانت الأغلبية الساحقة منهم من الليبيين رعايا قرطاج وفي هؤلاء عدد هامّ من المجنّدين قسرا أو الذين كانت قرطاج تعتبر تجنيدهم شكلا من أشكال الضريبة الواجب تقديمها من قبل رعاياها من الأهالي الليبيين. أنظر:
Gsell, H.A.A.N., T. II, p. 304, N°6.
.8 وجّه الجند المأجور اللوم إلى قرطاج لأنّها أرسلت إليهم قائدا لم يحاربوا تحت قيادته، وهو هانو المعروف بالغلظة في حقّ الأهالي: -Id., T.III, p. 106
.9 كان الثائرون قد قبلوا جيسكو حكما في قضيّتهم لأنّهم يحتفظون له بالتقدير أمّا هاميلكار فلميكونوا يطمئنّون له ؛ أنظر
Gsell, op. cit., pp. 103-104  ،Polybe, I, LXVIII
.10 الليبيون في اصطلاد النصوص القديمة هم الأفريقيون (المغاربيون Maghrébins كما نقول اليوم) من رعايا قرطاج وفي بعض المصادر يشار إليهم باسم الليبو فينيقيين(Libyphéniciens)، – أنظر : – Diodore de Sicile, XXV, 2, 2.
وقد شارك الليبيون بوصفهم رعايا لقرطاج في جميع حروب صقلية، وهي حروب قرطاج ضدّ الإغريق ثمّ الرومان من آخر القرن الخامس إلى منتصف القرن الثالث ق.م.، كما شاركوا في حروب توسّعات قرطاج في إسبانيا ابتداء من 237 ق.م.، وفي حروب هانيبال في إيطاليا في ما يُعرَف بالحرب البونية الثانية، وذكرت المصادر بأنّ عدد الليبين في فرق المشاة في جيش هانيبال في إيطاليا كان 12000 جندي، وفي جيش أخيه أسدروبال كان العدد 11850 ، أنظر:. صفر (أحمد)، مدنيّة المغرب العربي في التاريخ، مرجع سابق، ص 169
.11 إنّ انضمام الآلاف من الأهالي الليبيين والنوميد إلى الجند المأجور في رأينا حوّل التمرّد إلى ثورة حقيقية، ولا ريب أنّ موجة التذمّر التي امتد ت إلى جميع السكّان لم تتوقّف عند حدّ، بما في ذلك البونيون أنفسهم، ونحن لا نتبنّى تأويل المؤرّخين الغربيين الذي انساق وراءه الكثير والذي يجعل الحرب بين شعب وشعب، بل نرى أنّ الثورة “جماهيرية” وعواملها كانت كامنة، تنتظر الفرصة السانحة لا غير، وهي ثورة الجماهير على نظام طبقي، يقوم على حماية مصالح أوليغارشية تجارية، لا تتردّد في ارتكاب أيّ جرم مقابل الاحتفاظ بنفوذها وثرواتها، وما الإبادة التي تعرّض لها الجند المأجور لأنّه طالب برواتبه إلاّ دليل قاطع على ذلك.
.12 إنّ اشتراك الشعب في الحرب (ليبيون، نوميد…) أعطى للثورة بعدا أعمق، ويبدو أنّ المسألة تتخطّى قضيّة الأجور، وأنّ حالة التذمّر العامّ من نفوذ الأوليغارشية التجارية في قرطاج، وتعسّفها، كانت عامّة، وشملت البونيين أيضا، وحتّى العبيد انخرطوا في صفوف الثوّار: 3 II, Appien, ، وذكر زوناراس بأنّهم عبيد مدينة قرطاج: Zonaras, VIII, 7 ؛ كما ذكر بوليب بأنّ كلّ رعايا قرطاج من الليبيين أصبحوا يتقاسمون التذمّر والشعور بالقهر مع الجند المأجور Polybe, I, 70,9، وكان القرطاجيون قد فرضوا على السكّان في الأرياف خلال الحرب ضدّ روما تقديم نصف المحصول وضاعفوا الضرائب على سكّان المدن، أنظر: S. Gsell, op. cit., T. II, p. 303 ، ومنه نستنتج أنّ الاستعداد للثورة كان موجودا وأنّه ينتظر الوقت المناسب لا غير.
.13 أوتيكا، هي من أولى مراكز الاستيطان الفينيقي في المغرب القديم، وكان بينها وبين قرطاج تنافس كبير وصل إلى حدّ العداوة، بعد أن تبوّأت قرطاج المكانة الأولى، وموقع هذه المدينة في المكان المسمّى حاليا بوشاطر، عند مصبّ نهر المجردة، أمّا هيبو دياريتوس فقد بنيت على أنقاضها مدينة بنزرت الحالية.
.14 إنّ انضمام الآلاف من الأهالي الليبيين والنوميد إلى الجند المأجور في رأينا حوّ ل التمرّد إلى ثورة حقيقية، ولا ريب أنّ موجة التذمّر التي امتدّت إلى جميع السكّان لم تتوقّف عند حدّ، بما في ذلك البونيون أنفسهم، ونحن لا نتبنّى تأويل المؤرّخين الغربيين الذي انساق وراءه الكثير والذي يجعل الحرب بين شعب وشعب، بل نرى أنّ الثورة “جماهيرية ” وعواملها كانت كامنة، تنتظر الفرصة السانحة لا غير، وهي ثورة الجماهير على نظام طبقي، يقوم على حماية مصالح أوليغارشية تجارية، لا تتردّد في ارتكاب أيّ جرم مقابل الاحتفاظ بنفوذها وثرواتها، وما الإبادة التي تعرّض لها الجند المأجور لأنّه طالب برواتبه إلاّ دليل قاطع على ذلك.
.15 ذكر بوليب أنّ عدد من تجنّد من الليبيين بلغ سبعين ألفا : – Polybe ; I. 73,3. ، وهذا رقم كبير ومبالغ فيه حسب اغزال : S. Gsell, op. cit., T. III, p. 106 .
Id. p. 108.
.17 كان ماطو يسيطر على المنافذ المؤدّية إلى قرطاج، وخاصّة الجسر الوحيد الذي يسمح بعبور نهر باغرادا )مجردة(، ويقابل المدينة التي لا يمكن لأحد الخروج منها أو الدخول إليها بعيدا عن أنظاره، إلاّ أنّ هاميلكار هو الآخر كان يبحث عن مخرج من الحصار المضروب حول قرطاج، وبينما هو يراقب الوضع لاحظ أنّ الرياد القوية التي تهبّ على مصبّ نهر باغرادا
تملأه بالرمال ويكوّن شبه معبر يمكن المرو منه إلى الجهة الأخرى، وهي نقطة بعيدة عن أنظار المعسكر الآخر، فاحتفظ بهذه الملاحظة وعند نزول الليل أمر بانطلاق جيشه للعبور من ذلك المنفذ دون أن يثير انتباه عدوّه، وهكذا بوغت معسكر الثائرين الذي كان تحت قيادة سبينديوس هذا الأخير لم يجد بدّا من المواجهة الحربية، وأكثر من ذلك قام هاميلكار باعتماد حيلة غاية في الدهاء بحيث رتّب جنده : الفيلة في الأمام، ثمّ الفرسان وبعدهم المشاة، ثمّ أوعز إلى جيشه أن يوهم الخصم بأنّه انهزم، وأعلن الانسحاب بسرعة، وعندما لحق جيش الثائرين في نشوة استدار جيش قرطاج حسب الخطّة فكانت الضربة قاضية للثائرين، أنظر: Polybe, I.,76,1-10 .
S. Gsell, op. cit. p. 112.
.19 لا يقدّم بوليب معلومات كافية حول موقع المعركة، أنظر الفقرات: ; LXXVI, 10; LXXVII,6 Polybe, I., LXXV, 3. ومن المرجّح حسب اغزيل أن يكون المكان المسمّى :
خنقة الحجّاج (Néphéris) بالقرب من زغوان، أنظر: S. Gsell, op. cit. p. 109 .__
Ibid., T. III., p. 113.
.21 إنّ المعلومات القليلة التي سجّلها بوليب وهو مصدرنا الأساسي لا تكفي، ويبقى التساؤل عن الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى انتقال ناراواس إلى المعسكر القرطاجي قائما، وليس من السهل اعتبار الإقدام على تلك الخطوة عملا ارتجاليا اندفاعيا، فهل كان السبب في ذلك قيام صراع حول القيادة ؟ أم أنّه الاستنكاف من العمل تحت أوامر ضابط “مأجور” !، لأنّ ناراواس من  أسرة ملكية وهو جدّ ماسينيسا ؟ صفر )أحمد( ؛ مرجع سابق، ص 207
.22 لقد كان انتصار القرطاجيين غاية في الدموية والتنكيل، والحقيقة أنّ ميزان القوى كان قد رجح لصالح هاميلكار باركا منذ أن انضمّ إليه ناراواس فضلا عن أنّ هاميلكار يعدّ من أبرع ضبّاط عصره وليس في معسكر خصمه من يضاهيه، وبذلك تكون الخبرة خاصّة على مستوى –التخطيط قد انتصرت على الإرادة، وإذاكن الرقم الذي سجّلته المصادر صحيحا فإنّ هاميلكار قلّ من يضاهيه في دمويّته، وبتلك المذبحة الرهيبة ستتّسع الهوّة بين الأوليغارشية التجارية في قرطاج وعمقها المغاربي.
.23 كان القادة الثلاث يدركون خطورة عواقب الحرب “النفسية” التي خطّط لها هاميلكار بدهاء كبير بدءا بعفوه عن الأسرى، وفي رأينا فإنّ هذا السخاء الذي أبداه ليس لمجرّد شعوره بالذنب في حقّ 10000 قتيل، بقدر ما هو ضرب لمعنويات الجند الثائر الذي سيجد نفسه بين شعور الخوف من انتقام هاميلكار منه، والأمل في الحصول على العفو، وهذان العاملان ليسا في صالح استمرار الثورة، لأنّهما يستبعدان الثقة في النصر، وقد وقف سبينديوس خطيبا في الجيش الثائر قائلا :… لا تغترّوا بما يتظاهر به هاميلكار من طيبة، إنّه مجرّد دهاء، وأنّه لا يريد سوى استدراجكم للوقوع بين يديه ثمّ يفتك بكم…، وأمر(سبينديوس) بأن يحتفظ بجيسكو
أسيرا، ويورد بوليب استعمال موفد منتحل من الجند المأجور في سردينيا، وكان الجند هناك أيضا في ثورة على قرطاج، لإبعاد فكرة الصلح نهائيا، وفي الأخير لم يجد الثائرون بدّا من الإصرار على استمرار الحرب مهما كلّفهم ذلك، وثأراً للعشرة آلاف قتيل قاموا بقتل الأسرى القرطاجيين، وكان عددهم حوالي 200 ، وكان في عدادهم جيسكو وهو من كبار قادة قرطاج، ونكّل بهم ثمّ رموا في خندق، ورفض الثائرون تسليم جثثهم لدفنها، وعلى العموم كان الهيجان والغضب الشديد قد بلغ أوجه : – Polybe, I., LXXIX, LXXXI.
Polybe, LXXXII, 1-2.
.25 غانم محمّد الصغير، التوسّع الفينيقي في غربي البحر المتوسّط، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر 1979 ، ص ص 95, 96
.26 لا ندري كيف انقلب الأوتيكيون على قرطاج، ففي بداية الحرب، كانت أوتيكا إلى جانب قرطاج، ولعلّ العداوة التقليدية بين المدينتين عادت إلى الظهور من جديد، ولا ندري ما الذي جعل اغزيل يعبّر عن تضامن المدينة مع الليبيين بأنّه دون سبب، وفي رأينا أنّ الوشائج تكون متينة بين أوتيكا وظهيرها على الأقلّ، وهذا الظهير (Arrière – Pays) يكون آهلا بالسكّان الليبيين، ولا ريب أنّ أوتيكا كانت سوقا لمنتجاتهم. للمزيد أنظر:
Gsell, op. cit., pp. 116-117.
.27 لم يكن القائد ماطو موجودا في المعسكر، وقد تصرّف أولئك القادة دون الرجوع إليه
– Ibid. p. 119, Note 1
.28 لا ندري مدى صحّة الرواية التي تتحدّث عن ثأر ماطو لسبينديوس الذي أعدمه القرطاجيون ونكّلوا به بقيامه بإعدام ثلاثين من الطبقة الأرستقراطية القرطاجية، وفي نفس المكان الذي صلب فيه سبينديوس، S. Gsell, Ibid. p. 122. ، مع أنّ تفاوض سبينديوس كان خطأ كبيرا ترتّبت عنه زعزعة المعنويات في معسكر الثائرين، ولعلّ عدم الانسجام في جيش الثائرين الذي يتكوّن من أجناس متعدّدة كان له دور أيضا في ارتباك معسكرهم، وإذا كان دافع النوميد والليبيين عموما هو التحرّر من الحكم الأرستقراطي القرطاجي، ومسألة الأجور هي الفتيل الذي أشعل الحرب، فإنّ باقي الجند من الجنسيات الأخرى كان يحارب لنيل أجوره لا غير.
.29   -Cornelius(Népos), Amilcar, II., 4 ; -Polybe, I, 85.ولا ريب أنّ ذكرى هذه الحرب ستظلّ شبحا مرعبا يحفر هوّة عميقة بين الأفريقيين (المغاربيون القدامى) والحكم الأوليغارشي في قرطاج.
.30 في هذا السياق يستنتج الأستاذ غانم محمد الصغير بأنّ البونيين ارتضوا لأنفسهم البقاء غرباء رغم استقرارهم في المنطقة أكثر من ثمانية قرون، أنظر: غانم محمّد الصغير، المملكة النوميدية والحضارة البونية، دار الأمّة، الجزائر 1998 ، ص 45 ، هامش 2
Polybe, I., 88, p. 6-7.












 

https://tafat.net/%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%86%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%a4%d8%ac%d9%88%d8%b1-%d8%a8%d9%82%d9%8a%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%aa%d9%85/?fbclid=IwAR2Q16aZ0j5W1aottkX4OSFOs6DiSrHwZHvDNTM-K6GU5LvocsjDLqLcgIw