ما يلي سرد مقتبس من مذكرات نقيب فرنسي يتحدث فيه عن أول مواجهة شعبية بين الجزائريين وقوات دي بورمون، قائد الحملة الفرنسية، بعد إستسلام الاتراك ومغادرتهم البلاد وترك الشعب الجزائري يواجه مصيره لوحده مع حصولهم على معاش لشهرين لكل جندي بالإضافة الى السماح للداي بنقل كنزوه كما نصت عليه معادة الاستسلام بتاريخ 5 جويلية 1830.
ففي 23 جويلية 1830 خرج دي بورمون الى البليدة برفقة 1200 جندي و100 فارس ومدفعيتين متفاخرا بقوته حتى تصادم بقوة أول مقاومة شعبية جزائرية بقيادة الزعيم أوزعموم أو ابن زعموم قائد أعراش فليسة أومليل(**) في منطقة القبايل الحالية حيث لم ينتظر سكانها قدوم الفرنسيين اليهم فتسلحوا بالايمان وسارو خلف الحاج محمد بن زعموم الى مشارف العاصمة بمتيجة يتربصون بالمحتل الجديد بعد خروج سالفه من الاتراك ، لقد انهزم دي بورمون وجيشه وفر الى العاصمة المحتلة في 25 جويلية من نفس العام مع جيشه المضطرب من هول المعركة وكانت النتيجة فقدانه ل60 جنديا (*) .
تذكر وثيقة لنقيب فرنسي أحداث تلك المعركة التي جرت بين دي بورمون و الشيخ ابن زعموم وجاء فيها :
” لما علم الحاج محمد بن زعموم بنية الجنرال القائد العام بالسير إلى البليدة ،كتب إليه من جديد ليثنيه عن عزمه، قائلا له، أنه بالرغم من الذهول الذي سببه انهزام الأتراك ،فإن العشائر الجبلية تستعد للقتال من أجل الدفاع عن وطنها وحثه على الامتناع عن التوغل في البلاد إلى غاية عقد معاهدة بالصيغة اللائقة تنظم علاقاتنا مع العرب .
لم يأبه السيد دي بورمون لهذه التحذيرات و لم يبال بها و سار إلى البليدة يوم 23 جويلية (1830) مع ما يتراوح بين 1000 و 1200 رجل من المشاة و مائة حصان و قطعتي مدفعية.لم يكن لهذه الجولة أي دافع سوى الفضول، ولم تكن لأية فكرة سياسية صلة بها . مر الرتل الصغير عبر جسر واد الكرمة، وتوقف للراحة مدة طويلة في بوفاريك... الواقعة في قلب وطن بني خليل، ووصل إلى البليدة في المساء و استقبل استقبالا حسنا من طرف السكان .
في اليوم الموالي لوحظ أن العرب و القبائليين كانوا يستعدون لمقاتلتنا ففي الصباح أطلقت بعض الطلقات النارية على مجموعة استطلاعية أرسلت عبر طريق المدية و لو أخفى العدو مشروعه بشكل أفضل لتمكن من ذبح كل الطابور لأنه (الطابور) لم يكن حذرا بالقدر اللائق, كان الطابور قد خيم عند أبواب مدينة أثارت فضول أفراده وتخلى كل الضباط و الجنود تقريبا عن مواقعهم للذهاب لزيارتها ، طالما أن الثقة كانت كبيرة. ولكن بعد أن أنذرتهم المظاهر الجزئية العدائية، هرعوا إلى عرباتهم.
عند منتصف النهار قتل قائد سرية من قيادة الأركان بطلقة نارية، وراء سياج نباتي، حيث قادته الضرورة الطبيعية. على الساعة الواحدة، صدر الأمر بالرحيل. و بمجرد انطلاق الرتل، انقض عليه جمع غفير من العرب و القبائليين وقتلت نيرانهم الكثيفة الكثير من رجالنا.لحسن الحظ ،أن الجنرال هوريل Hurel الذي كان يقود الطابور ،تذكر أن الطريق الذي سلك بالأمس،كان غائرا ومحصورا على امتداد مسافة كبيرة ،فسلك طريقا آخر قادنا إلى السهل مباشرة .و لولا هذا الإلهام لكانت المصيبة أكبر. لم يجرؤ القبائل على المغامرة في السهل لأنهم لم يكونوا يتمتعون بغطاء طبيعي ،و مع ذلك طوردنا و جرى تعقبنا إلى غاية سيدي حايد على مسافة فرسخ وراء بوفاريك. قام خيالتنا ببعض الهجمات الناجحة و كان النظام دائما و لم ينفرط في الطابور على الإطلاق.لم يتوقف طابورنا عن السير منذ الانطلاق من البليدة إلى غاية سيدي حايد.
لقد أعطت سرعة سيرنا لانسحابنا مظهر فرار . قضى الطابور الليلة في بئر توتة .
لقد أصبحت القطيعة مع بن زعموم أمرا واقعا ولم تتجدد أية محاولة للتفاوض بعد ذلك .
كان بن زعموم في -الفترة موضوع حديثنا - يبلغ من العمر حوالي 70 عاما. "
...........
صورة من الارشيف الفرنسي لمحارب من فليسة أومليل في منطقة القبايل تعود الى سنة 1900 .
* Gouvernement Général de l’Algérie : Correspondances du Duc de Rovigo, Tome.1, éditeur : Typographie Adolphe Jourdan (Imprimeur de l’Université), Alger 1914 , p.5
** تتشكل قبائل فليسة أومليل من عدة أعراش متحدة أهمها وهي الجهة الغربية لولاية تيزي وزو الجزء الشرقي لولاية بومرداس : إنزليون (Inezliouen) ذراع الميزان حاليا ، إمزلن (Imzalen) تيزي غنيف حاليا ، إمكيرن (Imkiren) تابعة لتيزي غنيف حاليا تسمى مكيرة (M'Kira)، إبوعزونن (Ibouazounen) وهي أيت يحيى موسى حاليا أو واد قصاري ، أيت أعريف هو بنفس الاسم حاليا وتابع لبلدية ثيرمثين ، أيت بوشناشة (Aït Bou Chenacha) ، سيدعلي بوناب(sidi ali bounab) أراش ألمناس (Arch Alemnas) في تدمايت وكل من أيت مقلع (Aït Mekla) ، ارمراسن (Iremracen) إرافن(Irafan) ، أيت بوروبا (Aït Bourouba) أيت عمران (Aït Amran) ...
وكل هذه القبائل كانت تشكل كونفيدرالية فليسة، يسميها أهلها من أمازيغ القبايل هناك اليوم إفليسن، إفليس في تمازيغت يعني القرصان، بعض الرحالة الأوروبيين ذكروا أن سكان هذه المنطقة كانوا مصدر ازعاج دائم للأتراك في الدزاير، في العهد الروماني كانت هذه الكونفيدرالية تسمى في اللاتينية ايزافلانس Isaflenses وقد كانت من الممالك المور المستقلة في العهد الروماني المتأخر والوندالي والبزنطي .
الشيخ أوزعموم أو إبن زعموم كان قائد هذه القبائل المتحدة في عهد الفرنسيين وقد عرض عليه الأمير عبد القادر أن يكون خليفته في المنطقة لكنه رفض تواضعا منه لكبر سنه فخلفه رفيقه المرابط سيدي السعدي الذي انظم الى قوات الأمير عبد القادر. منذ زمن قليل كانت بلدية الناصرية بولاية بومرداس تسمى لعزيب ن زعموم Laεzib n Ẓaεmum.
بقلم مصطفى صامت
