مَعَيْرَةُ الْلُّغَاتِ بَيْنَ الْبُعْدَيْنِ الْأَكَادِيمِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ - اَلْلُّغَةُ الأَمَازِيغِيَّةُ فِي الْمَغْرِبِ أُنْمُوذَجاً -2- 

 مَعَيْرَةُ الْلُّغَاتِ بَيْنَ الْبُعْدَيْنِ الْأَكَادِيمِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ - اَلْلُّغَةُ الأَمَازِيغِيَّةُ فِي الْمَغْرِبِ أُنْمُوذَجاً -2-  101412
 اَلْبُعْد الْلَّهَجِيِّ: عبر تبنّي أحد الأشكال اللّهجيّة السّائدة أو بناء نمطٍ جديدٍ يتأسّس على الأشكال المنتشرة في المنطقة عند الشّروع في عمليّة المعيرة، وهذه الطريقة الأخيرة هي الّتي تمّ اختيارها لمعيرة اللّغة الأمازيغيّة في المغرب.
 اَلبُعْد الْمُعْجَمِيّ: من خلال العمل على خلق وحداتٍ معجميّةٍ جديدةٍ استناداً إلى الآليّات النّيولوجيّة المعروفة في علم المفردات والمصطلحيّة، مثل: النّحت والتّرجمة والاقتراض…، لتتمكّن اللّغة الأمازيغيّة من التّعبير عن مضامين خاصّةٍ كان التّعبير بها يتمّ بلغةٍ أخرى (السّياسة، أو الاقتصاد، أو العلوم التّجريبيّة…). وقد أصدرت، في هذا الإطار، مراكز “التّهيئة اللّغويّة” و”الدّراسات التّاريخيّة والبيئيّة” و”البحث الدّيداكتيكيّ والبرامج التّربويّة” بالمعهد الملكيّ للثّقافة الأمازيغيّة عدداً كبيراً من المعجمات والأعمال اللّغويّة الّتي غطّت جوانب كثيرةً من الحقول المعرفيّة، مثل:
 المعجمُ الأمازيغيُّ الجيولوجيُّ )فرنسيّ – أمازيغيّ / أمازيغيّ – فرنسيّ(: صدر تحت إشراف سعيد كامل سنة (2006م)؛
 معجمُ اللّغةِ الأمازيغيّةِ (Vocabulaire de la Langue Amazighe (Français – Amazighe)): أصدره مركزُ التّهيئة اللّغويّة (CAL) سنة 2006؛
 المصطلحاتُ الأمازيغيّةُ في تاريخ المغربِ وحضارتهِ: مسردٌ مصطلحيٌّ مهمٌّ أصدَرهُ مركز الدّراسات التّاريخيّة والبيئيّة تحت إشراف محمّد أحمّام سنة 2006م؛
 مُعجمُ الإعلامِ )عربيّ – أمازيغيّ – إنجليزيّ – فرنسيّ(: مسردٌ خصّه مركز التّهيئة اللّغويّة بالمعهد للمصطلحات الإعلاميّة والاتّصاليّة، ضمّ حوالي 774 مصطلحاً، وصدر سنة (2009م)؛
 مُعجمُ النّحو )فرنسيّ – أمازيغيّ – إنجليزيّ – عربيّ(، ضمّ حوالي 352 مصطلحاً، وصدر سنة (2009م)؛
 مُعجمُ اللّغَةِ الأمازيغيّة )أمازيغيّ – عربيّ / عربيّ – أمازيغيّ(: معجمٌ تربويٌّ صدر سنة (2009م)؛
 مُصطلحيّةُ الاتّصَالِ السّمعيِّ البصريِّ: مسردٌ وظيفيٌّ صدر سنة (2012م)، وضمّ حوالي 335 مدخلاً، عبّر عنها بالعربيّة والفرنسيّة والانجليزيّة؛
 مُعجمُ “المصطلحات الجغرافيّة الأمازيغيّة”: معجمٌ أصدره مركز الدّراسات التّاريخيّة والبيئيّة بالمعهد سنة (2011م) تحت إشراف حسن رامو؛
 الْمُعجمُ المدرسيُّ(Lexique Scolaire) : عملٌ معجميٌّ موضوعاتيٌّ أصدره مركز البحث الدّيداكتيكيّ والبرامج التّربويّة سنة 2011م؛
 الْمُعجمُ النّحويُّ للأمازيغيّةِ (Vocabulaire Grammatical de l’Amazighe): لمفتاحة عامر وفريق مركز التّهيئة اللّغويّة، صدر سنة 2011م؛
 مُصطلحيّةُ الإدارةِ (الأمازيغيّة – العربيّة – الفرنسيّة): لمفتاحة عامر وأعضاء مركز التّهيئة اللّغويّة، صدر سنة 2015م؛
 الْمُعجمُ العامُّ للّغةِ الأمازيغيّةِ (Dictionnaire Général de la Langue Amazighe): يعتبر أهمّ الأعمال المعجميّة الّتي أشرف المعهد على إصدارها منذ تأسيسه، بالنّظر إلى حجمه ومدى استقصائه لمفردات اللّغة الأمازيغيّة، صدر سنة 2017م؛
 مُعجمُ المصطلحاتِ القانونيّةِ (أَمَاوَالْ ازْرْفَانْ) سنة 2018م؛
اَلبُعْد الكِتَابِيِّ: يتأسّس هذا المستوى على بناء وتشكيل نمطٍ خطّيٍّ للّغة الشّفويّة، أو تغيير الخطّ المعتمد فيها سلفاً، أو أن يمسّ التّغيير فقط نظامها الألفبائيّ حذفاً أو إضافةً. وقد كانت هذه المسألة من أهمّ النّقط الخلافيّة الّتي واكبت عمليّة التّدخّل في اللّغة الأمازيغيّة قبل ترسيم “تيفيناغ”، حيث أفرزت انقساماتٍ حادّةً بين الفرقاء والباحثين الأمازيغيّين، بسبب الخلفيّات التّاريخيّة والثّقافيّة والإيديولوجيّة والدّينيّة… وقد قام هذا الخلاف على ثلاثة مستوياتٍ من الرّسم:
    اَلرَّسْم الْلَّاتِينيّ: دافعت عن هذا الخيار بعض التّوجّهات الفكريّة الّتي استندت إلى فعاليّة اللّغة اللّاتينيّة لدى الشّعوب الّتي تبنّت حروفها، مثل: الرّوسيّة والتّركيّة وبعض فروع اللّغة الجرمانيّة..(40) ، لا سيّما مع توفّر قاعدةٍ تعليميّةٍ تعلّميّةٍ مبنيّةٍ بهذا الخطّ، إضافةً إلى عددٍ مهمٍّ من الأعمال الإبداعيّة (شعر وقصّة ومسرح ورواية…) بقيت منذ الاستعمار الفرنسيّ. غير أنّ تبنّي هذا الحرف يحمل في حيثيّاته أبعاداً إيديولوجيّةً تكرّس التّبعيّة واستدامة الاستيطان الغربيّ، وهو نابعٌ عند بعض مناصريه من عقدة الغير و”التّلذّذ بالتّبعيّة”، ومن عقدة “كره الجلّاد وعشقه في آنٍ واحد (41).
مَعَيْرَةُ الْلُّغَاتِ بَيْنَ الْبُعْدَيْنِ الْأَكَادِيمِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ - اَلْلُّغَةُ الأَمَازِيغِيَّةُ فِي الْمَغْرِبِ أُنْمُوذَجاً -2-  11027 
ويعترف روني باصي René Basset)) نفسه بصعوبة القبول به خياراً تقنيّاً ومنهجيّاً: «حاولنا مراراً استعمال الحروف اللّاتينيّة، لكن لم تفلح أيّ صيغةٍ من تلك الصّيغ في بلوغ الدّقّة المطلقة” (42).  بينما يستند معارضوه إلى التّجربة الصّينيّة خلال أربعينات القرن الماضي، حين اضطرّت الدّولة إلى تبنّي الرّسم اللّاتينيّ بدعوى أن الرّسم الصّينيّ معقّدٌ ومتخلّفٌ، ولا يساير المستجدّات الثّقافيّة والحضاريّة المعاصرة، فصدرت صحفٌ كثيرةٌ بالرّسم الجديد، لكنّ الصّينيّين أعرضوا عنه، وأجبروا الدّولة على التّراجع عن قرارها، والعودة إلى الرّسم القديم الّذي يحمل هويّتهم وفكرهم (43).
 الرّسْم الآرامِيّ العَربَيّ: استند مناصرو تبنّي هذا الخطّ لكتابة اللّغة الأمازيغيّة على القواسم المشتركة بين اللّسانين العربيّ والأمازيغيّ وبالنّظر للتّداخلات الّتي وجدت بينهما، خاصّةً أنّ أوّل رسمٍ عرفته الأمازيغيّة هو الرّسم العربيّ، وقد كتبت به في المغرب إلى غاية السّبعينات، عدا بعض كتابات المعمّرين وضبّاط المخابرات الّتي دوّنت باللّاتينيّة. كما يظهر الاستعمال أيضاً قواسم صوتيّةً ودلاليّةً كثيرةً في زخم الاحتكاكات اللّغويّة على مستوى الاستبدالات الّتي جرت في السّاحة الجيولسانيّة إلى أن وصلت حدّ اضمحلال الأمازيغيّة أو ذوبانها في العربيّة (44). فضلاً عن عوامل كثيرةٍ، مثل:
 كتابة الأمازيغيّة بالحرف العربيّ سيساهم في التّقارب الأخويّ بين العرب والأمازيغ وطنيّاً واجتماعيّاً ونفسيّاً…
 مواكبة اللّغة العربيّة للتّطوّر المستمرّ الّذي تشهده الإعلاميّات الآليّة والتّكنولوجيّات الحديثة عكس “تيفيناغ”.
 الرّسْم بالتّيفيناغ: كانت للّغة الأمازيغيّة كتابةٌ قديمةٌ خاصّةٌ بها «ذات طبيعةٍ أبجديّةٍ صامتيّةٍ، وما يزال يستعمل وجهٌ من أوجهها في وقتنا الرّاهن لدى أمازيغيّي المناطق الصّحراويّة “الطّوارق” الّذين يطلقون عليها تسمية «تِيفِيناَغْ». وبهذه الألفبائيّة تمّ تحرير المنقوشات القديمة الّتي تسمّى “اللّيبيّة الأمازيغيّة” (45). وإن كان الثّابت لدى الباحثين في الأركيولسانيّات أنّ الأمازيغ لم يخلّفوا إنتاجاً علميّاً أو أدبيّاً بهذه الحروف، في حين كتبوا باللّغات اللّاتينيّة والعربيّة والبونيقيّة، وحتّى عندما أسّسوا دولاً خاصّةً بهم على غرار النّوميديّة والمرابطيّة لم يختاروا الكتابة بلغتهم، وحافظت بالتّالي على شفهيّتها إلى يومنا هذا (46). ولأنّ المحيط المعقّد حيث نعيش يفرض على المجتمعات الانتقال باللّغات إلى الأنساق الكتابيّة، ليس فقط لتطوّر “اللّغة الأمازيغيّة” وثقافتها، وإنّما أيضا لبقائهما، والعالم الّذي كان يحمل الشّفاهيّة بدأ ينهار تحت أعيننا والمجتمعات الّتي كانت تحملها انشطرت (47).
 مَعَيْرَةُ الْلُّغَاتِ بَيْنَ الْبُعْدَيْنِ الْأَكَادِيمِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ - اَلْلُّغَةُ الأَمَازِيغِيَّةُ فِي الْمَغْرِبِ أُنْمُوذَجاً -2-  11028
وهكذا تكونُ كتابة الأمازيغيّة بالتّيفِيناغ سعيٌ حثيثٌ للاحتفاظ بشخصيّتها، لأنّ “المكتوب به ليس وسيلةً أو رزمةً نلفّ بها أيّ سلعةٍ، بل إنّ الخطّ رمزٌ للشّخصيّة، كما أنّه حاملٌ لحمولةٍ ثقافيّةٍ وانتماءٍ حضاريٍّ” (48)، ومن ثمّ قد يكون أفضل حلٍّ للأمازيغيّة في المغرب، على الرّغم من كلّ الانتقادات الّتي يمكن أن يجرّها هذا الخيار مثل صعوبته ومحدوديّة انتشاره وقابلية تطويره إعلاميّاً. وكلّها أمورٌ مستبعدةٌ لأنّ التّقدّم المعلوميّاتي قد استوعب ثمانية آلاف حرفٍ صينيّ فكيف لا يدمج ثلاثةً وثلاثين حرفاً من تيفيناغ كتلك الّتي وضعها خبراء المعهد الملكيّ للثّقافة الأمازيغيّة. لا سيّما أنّه لا كمال لأيّ خطٍّ مهما كان، والخطوط على أشكالها وألوانها قابلةٌ للتّطوير والتّجويد (49). وما تحتاجه هو فقط المواكبة السّياسيّة الفعّالة.
2-3- اَلْمَعْيَرَةُ السِّيَاسيَّةُ لِلُّغَةِ الْأَمَازِيغِيَّةِ في الْمَغْرِبِ
واكبت الجبهة السّياسيّة، من جهتها، معيرة اللّغة الأمازيغيّة، وإن كانت تدخّلاتها متأخّرةً نسبيّاً عن السّيرورة اللّسانيّة الْأَكَادِيمِيَّة، ممّا جعلها تتعرّض لانتقاداتٍ شديدةٍ من لدن الفعاليّات الفكريّة والثّقافيّة الأمازيغيّة. ويمكن إجمالُ هذه التّدخّلات في جانبين كبيرين: ترسيمها في الدّستور سنة 2011م، وإصدار القانون التّنظيميّ (50) 26-16 سنة 2019م.
2-3-1- اَلْلُّغَةُ َالْأَمَازِيغِيَّةُ فِي الدُّسْتُورِ الْمَغْرِبِيِّ لِسَنَةِ 2011م
خصّ الدّستورُ الْمَغْرِبِيُّ الفصلَ الخامسَ ببنوده السّتّة لتشريع الموارد الضّابطة للحقّ الثّقافيّ واللّغويّ وتقنينه، وقد جاء فيه: “تظلّ العربيّة اللّغة الرّسميّة للدّولة. وتعمل الدّولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها. تعدّ الأمازيغيّة أيضاً لغةً رسميّةً للدّولة، باعتبارها رصيداً مشتركاً لجميع المغاربة، بدون استثناءٍ. يحدّد قانونٌ تنظيميٌّ مراحل تفعيل الطّابع الرّسميّ للأمازيغيّة، وكيفيّات إدماجها في مجال التّعليم وفي مجالات الحياة العامّة ذات الأولويّة، وذلك لكي تتمكّن من القيام مستقبلاً بوظيفتها، بصفتها لغةً رسميّةً” (51).
وإذا كان هناك من يرى أنّ ترسيم الأمازيغيّة قد يشكّل كارثةً خطيرةً بالهويّة المغربيّة وبالوحدة اللّغويّة والحضاريّة للمغاربة، بالنّظر إلى مساهمة ذلك في إضعاف هذه اللّغة فضلاً عن العربيّة، ممّا سيزيد من قوّة اللّغة الأجنبيَّة “الفرَنسيّة”، الّتي تعرف ديناميّةً كبيرةً في المجتمع المغربيّ على مستوى الخطاب اليوميّ والمعاملات التّجاريّة والإداريّة... فإنّ الإقرار بالأمازيغيّة لغةً رسميّةً للدّولة، واعتبارها رصيداً مشتركاً لجميع المغاربة دون استثناءٍ، تترتّب عنه حقوقٌ لغويّةٌ وثقافيّةٌ يتّمتع بها المغاربة دون تمييزٍ، تتمثّل خاصّةً في استعمال اللّغة الأمازيغيّة للتّواصل بمختلف أشكاله ووظائفه ودعاماته، كما يترتّب عنه التزام الدّولة بضمان تعليمها وتعلّمها.
وعلى الرّغم من أنّ قراءة النّصوص القانونيّة وتفكيك مضامينها هو من اختصاص فقهاء القانون والباحثين في قضاياه، إلّا أنّ ما يهمّ في هذا الصّدد هو فحص الجانب المتعلّق باللّغة الأمازيغيّة، الّذي يمكن اعتباره عنصراً جديداً في الوثيقة الدّستوريّة الجديدة، ولعلّه يعدّ أهمّ قيمةٍ مضافةٍ انطوت عليها، حيث أقرّت باعتمادها لغةً رسميّةً ثانيةً. وإن كان هذا الإقرار يشوبه بعض اللّبس والغموض، ويتعلّق بطبيعة السّياقين النّصّيّ والواقعيّ الّذي جاء فيه (52). فعندما نقرأ العبارة الّتي ورد فيها معطى ترسيم اللّغة الأمازيغيّة، ندرك أنّها أنصفت هذه اللّغة بقدر ما كشفت أيضاً عن عجزٍ واضحٍ في التّعاطي مع وضعيّتها الهشّة، الّتي لا تُؤهّلها لأن تتبوّأ موقع لغةٍ رسميّةٍ “ثانيةٍ” في المغرب، ثمّ إنّها لم تفسّر جيّداً المقصود منها.
مَعَيْرَةُ الْلُّغَاتِ بَيْنَ الْبُعْدَيْنِ الْأَكَادِيمِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ - اَلْلُّغَةُ الأَمَازِيغِيَّةُ فِي الْمَغْرِبِ أُنْمُوذَجاً -2-  102110
فاللّغة العربيّة تعتبر من خلال هذه الفقرة هي اللّغة الرّسميّة الأولى، ثم تليها اللّغة الأمازيغيّة، ممّا يعني أنّ هذه الأخيرة تأتي في الدّرجة الثّانية بعد اللّغة العربيّة، وهذا ما قد يؤوله أيّ أمازيغيّ بشكلٍ «سلبيٍّ»، ليس لأنّ اللّغة الأمازيغيّة وردت في المرتبة الثّانية على مستوى النّصّ، وإنّما لأنّ وضعيّتها الرّاهنة لا تسمح بأن تكون رسميّةً إلّا على مستوى النّصّ الدّستوريّ، أمّا على مستوى الواقع، فهي في مسيس الحاجة إلى البناء والتّفعيل والإدماج، ليس بسبب غياب الجاهزيّة اللّسانيّة «الأكاديميّة»، ولكن لغياب إرادةٍ سياسيّةِ حقيقيّةٍ، ممّا يرسّخ منطق التّسويف والتّأجيل، عوض الانكباب الفوريّ على ترقيتها وتأهيلها..
وهذا ما يستحضر تاريخيّاً سيناريو الاعتراف بالأمازيغيّة وإحداث المعهد الملكيّ للثّقافة الأمازيغيّة، وإدخال هذه في المنظومة التّعليميّة المغربيّة الرّسميّة؛ إذ بعد مضي زهاء عقدين من الزّمن عن ذلك، اكتشف الأمازيغ أنّ تنزيل الدّستور على أرض الواقع يتمّ بشكلٍ بطيءٍ جدّاً. ومن هنا ينشأ التّخوّف من أن يتكرّر السّيناريو نفسه، فيظلّ هذا التّرسيم مجرّد إجراءٍ دستوريٍّ لا غير، جاء ليمتصّ غضب الشّارع الأمازيغيّ.
ويقرّ هذا النصّ الدّستوريّ، من جهةٍ أخرى، بأنّ اللّغة الأمازيغيّة تحتاج قانوناً ينظّم مراحل تفعيل ترسيمها وإدماجها في شتّى مناحي الحياة العامّة، لكنّه في الوقت ذاته يتحدّث عن لفظة “مستقبلاً”، ما سيجعل المدّة الزّمنية لترسيمها تعرف نوعاً من التّمديد. كما أنّه لم يشر إلى إعادة الاعتبار إلى اللّغة الأمازيغيّة الّتي قاست من ويلات الحيف والاقصاء منذ الاستقلال إلى تاريخ صدور الدّستور. ما دامت الدّساتير الخمسة السّابقة لم تشر إلى هذا المضمون السّوسيولسانيّ بشكلٍ مطلقٍ، ممّا يستدعي، ولو رمزيّاً، التّفكير فيما قد يسهم في إحياء الذاكرة الجماعيّة للمجتمع المغربيّ، بوصفه نوعاً من جبر الضّرر.
2-3-2- الْأَمَازِيغِيَّةُ فِي الْقَانُونِ التّنْظِيمِيِّ 26.16
              عادةً ما تكتبُ الدّساتير بصيغٍ عموميّةٍ تؤكّد على مبادئ عامّةٍ، ثمّ تأتي التّفاصيل الدّقيقة والمضامين الصّريحة في القوانين التّنظيميّة. وبالنّسبة للّغة الأمازيغيّة، فقد أصبحت من خلال المنطوق الدّستوريّ لغةً رسميّةً للدّولة المغربيّة منذ 2011م، إذ يقول: «يحدّد قانونٌ تنظيميٌّ مراحل تفعيل الطّابع الرّسميّ للأمازيغيّة، وكيفيّات إدماجها في مجال التّعليم، وفي مجالات الحياة العامّة ذات الأولويّة، وذلك لكي تتمكّن من القيام مستقبلاً بوظيفتها، بصفتها لغةً رسميّةً” (53). وهو ما تحقّق بعد مصادقة البرلمان على القانون التّنْظِيمِيِّ 26.16 في يوليوز 2019م. فما الجديد الّذي حمله معه هذا القانون؟ وإلى أيّ حدٍّ استجاب لمطالب الحركة الثّقافيّة الأمازيغيّة؟
2-3-2-1- تَوْصِيفُ الْقَانُونِ التَّنْظِيمِيِّ 26.16
يتكوّن هذا القانون التّنظيميّ من 35 مادّةً موزّعةً على عشرة أبوابٍ. يتضمّن الباب الأوّل منها أحكاماً عامّةً (المادّتان الأولى والثّانية)، ويتعلّق الباب الثّاني بإدماج الأمازيغيّة في مجال التّعليم (المواد 3-8)، والثّالث بإدماج الأمازيغيّة في مجال التّشريع والتّنظيم والعمل البرلمانيّ (المواد 9-11)، والرّابع بإدماج الأمازيغيّة في مجال الإعلام والاتّصال (الموادّ 12-17)، والخامس بإدماج الأمازيغيّة في مختلف مجالات الإبداع الثّقافيّ والفنّيّ (الموادّ 18-20)، والسّادس باستعمال الأمازيغيّة بالإدارات وسائر المرافق العموميّة (الموادّ 21-26)، والسّابع بإدماج الأمازيغيّة في الفضاءات العمومية (الموادّ 27-29)، والثّامن بإدماج الأمازيغيّة في مجال التّقاضي (المادّة 30)، والتّاسع بمراحل تفعيل الطاّبع الرّسميّ للأمازيغيّة وآليّات تتبّعه (الموادّ 31-34)، والعاشر بأحكام ختاميّة (المادّة 35).
وبناءً على هذه الموادّ، يجب على الدّولة المغربيّة أن تصدر القطع والأوراق النّقديّة والطّوابع البريديّة وأختام الإدارات العموميّة باللّغة الأمازيغيّة إلى جانب اللّغة العربيّة، إضافةً إلى الوثائق الّتي يُسلّمها ضبّاط الحالة المدنيّة، والوثائق الصّادرة عن السّفارات والقنصليّات بالمملكة. كما ينبغي على الدّولة في مجال القضاء أن تضمن للمتقاضين والشّهود النّاطقين بالأمازيغيّة الحقّ في استعمال اللّغة الأمازيغيّة والتّواصل بها خلال إجراءات البحث والتّحرّي، بما فيها مرحلة الاستنطاق لدى النّيابة العامّة وإجراءات التّحقيق والجلسات بالمحاكم والتّرافع وإجراءات التّبليغ والنّطق بالحكم.
كما يجب بمقتضى هذا القانون استعمال اللّغة الأمازيغيّة في أشغال الجلسات العموميّة للبرلمان، بحيث يلزم توفير التّرجمة الفورّية من اللّغة الأمازيغيّة وإليها، ونقل الجلسات التّشريعيّة مباشرةً على القنوات التّلفزية والإذاعات العموميّة الأمازيغيّة مصحوبةً بترجمةٍ فوريّةٍ. ويجب على القنوات والإذاعات العموميّة بثّ الخطب والرّسائل الملكيّة والتّصريحات الرّسميّة للمسؤولين العموميّين مصحوبةً بترجمتها الشّفهيّة أو الكتابيّة إلى الأمازيغيّة، إضافةً إلى استعمالها في اللّوحات وعلامات التّشوير المثبتة على الواجهات وداخل مقرّات الإدارات والمؤسّسات العموميّة. ويقضي هذا القانون أيضاً بتحرير الوثائق الرّسميّة باللّغة الأمازيغيّة كالبطاقة الوطنيّة للتّعريف وعقد الزّواج وجوازات السّفر ورخص السّياقة وبطاقات الإقامة المخصّصة للأجانب ومختلف الشّواهد المسلّمة من قبل الإدارة المغربيّة.
 2-3-2-2- قِرَاءَةٌ نَقْدِيَّةٌ لِلْقَانُونِ التّنْظِيمِيِّ 26 – 16
لقد استهدف هذا القانون التّنظيميّ إعادة الاعتبار إلى الأمازيغيّة من خلال تعزيز الأبحاث العلميّة المرتبطة بتطويرها، وكذا تشجيع دعم الإنتاج الإبداعيّ الأمازيغيّ، وتوسيع دائرة تداولها في مختلف جوانب الحياة العامّة. ورغم ذلك تشوبه عيوبٌ كثيرةٌ، لعلّ من أهمّها:
 
    الاهْتِمَام بِالتَّعْبيَراتِ وَالتَّنَوُّعَاتِ اللِّسَانِيَّةِ الْمُتَدَاوَلَةِ عَلَى حِسَابِ الْلُّغَةِ الْمِعْيَارِ: فإذا كان هذا القانون يقدّم ضماناتٍ تشريعيّةً تلزم الدّولة بالمحافظة على الأمازيغيّة في غناها وتعدّدها اللّسانيّين، فإنّ السّؤال يبقى مطروحاً بخصوص وظيفة «اللّغة الأمازيغيّة المعيار» في مجال التّربية والتّكوين ومختلف اتّجاهات الحياة العامّة. وبما أنّ الأمازيغيّة تعدّ حقّاً لجميع المغاربة بدون استثناءٍ، فإنّ تدريس لغةٍ واحدةٍ مشتركةٍ موحّدةٍ وممعيرةٍ في كلّ جهات المملكة يعدّ المدخل الأساس المحقّق لهذا المطلب، فضلاً عمّا يستوجبه ذلك من مواردٍّ بشريّةٍ مؤهّلةٍ ووسائل لوجيستيكيّةٍ كافيةٍ.
    تَكْرِيس التَّلْهِيجِ عِوَضَ الْمَعْيَرَةِ: تقول الفقرة الثّانية من المادّة الأولى: «ويقصد باللّغة الأمازيغيّة في مدلول هذا القانون التّنظيميّ مختلف التّعبيرات اللّسانيّة الأمازيغيّة المتداولة بمختلف مناطق المغرب، وكذا المنتوج اللّسنيّ والمعجميّ الأمازيغيّ الصّادر عن المؤسّسات والهيئات المختصّة». ومن ثم تخرق النّصّ الدّستوريّ الّذي يقول: «تعدّ الأمازيغيّة أيضاً لغةً رسميّةً للدّولة»، مستعملاً لفظ «الأمازيغيّة» بصيغة المفرد، وليس بصيغة الجمع كما جاء في الفقرة السّابقة. كما أنّ الدّستور يعني الأمازيغيّة الواحدة والموحّدة، وليس تعبيراتها اللّهجيّة المختلفة، والدّليل على ذلك أنّه خصّص الفقرة الخامسة من الفصل الخامس للعناية بالتّنوّعات اللّهجيّة، دون أن يذكر ضمنها الأمازيغيّة: «تعمل الدّولة على صيانة الحسّانيّة وعلى حماية اللّهجات والتّعبيرات الثّقافيّة المستعملة في المغرب” (54).
    هُلَامِيَّة الزَّمَنِ وَاسْتِعْمَال الْلُّغَةِ التَّسْوِيفِيَّةِ: لقد جاءت المصادقة على القانون متأخّرةً جدّاً بالنّظر إلى صدور الدّستور سنة 2011م، كما أنّه لا يلزم الدّولة بأمور محوريّةٍ تتعلّق بالتّعليم والإعلام، حيث جاء بعباراتٍ فضفاضةٍ وحمّالةٍ لأوجهٍ يمكن تأويلها في كلّ الاتّجاهات. فإذا كان القانون عامّةً عبارةٌ عن قواعد ملزمةٍ، فإنّ صياغتها في هذا القانون يطغى عليها الطّابع الإنشائيّ اللّغويّ – الفنّيّ، حيث تعطى قراءة موادّه انطباعاً بأنّها ذات حمولةٍ أخلاقيّةٍ معياريّةٍ تتّخذُ صورة تصريحٍ بالشّرف أو إعلان مبادئ، وليس قواعد قانونيّةً ملزمةً. كما يؤشّر طغيانُ استعماله لكلمة «يمكن» الّتي تتكرّر في نصّه ثلاث مرّاتٍ (المادّة: 5، والمادة: 6، والمادة: 9) على غياب أيّ إلزاميّةٍ له، ممّا يفسح المجال للتّماطل تحت ذريعة الاٍمكانات والظّروف العامّة. فضلاً عن عدم الحفاظ على المكتسبات السّابقة في مجال المؤسّسات العاملة في مجال تطوير الأمازيغيّة (المعهد الملكيّ للثّقافة الأمازيغيّة).
وإذا كان منطق تنزيل الحقوق يقتضي التّدرّج بالتّوازي مع مختلف الإمكانات والاعتبارات مقبولٌ نسبيّاً، إلّا أنّ المدد الزّمنيّة المحدّدة في هذا القانون يُعتبر مؤشّراً سلبيّاً على غياب رغبةٍ حقيقيّةٍ لدى أصحاب القرار في الأجرأة. فمن أصل 35 مادّةً، نجد 20 مادّةً محدّدة زمنيّاً؛ ففيما يتعّلق بخمس سنواتٍ على الأكثر نجد (الموادّ 4 –”الفقرة الثّانية” و7 و9 و10 “الفقرة الأولى” و12 و13 و14 و15 و20 و24 و27 و28 و29)، وبخصوص عشر سنواتٍ على الأكثر، نجد (الموادّ 4 “الفقرة الثّالثة” و6 و10 “الفقرة الثّانية” و21 و22 و26 و30) وفيما يتعلّق بخمس عشرةَ سنة على الأكثر، نجد المادّتين 11 و23.
وعندما نتأمّل هذه الأبعاد الزّمنيّة في مستوياتها الكرونولوجيّة، نصل إلى أنّ المنطق الّذي سعى إلى «إقصاء الأمازيغيّة» منذ الاستقلال ما يزال متواصلاً إلى غاية اليوم، وإلّا فلماذا انتظار عشر سنواتٍ لتفعيل المادّة 21 المتعلّقة بكتابة البيانات المتضمّنة في الوثائق الرّسميّة باللّغة الأمازيغيّة إلى جانب العربيّة كبطاقة التّعريف، وجواز السّفر، ورخصة السّياقة…؟
    تَرْسِيم التَّوَاصُلِ لَا الْاسْتِعْمَالِ الْكِتَابِيّ: يختزل القانون التّنظيميّ تفعيلَ الطّابع الرّسميّ للأمازيغيّة في هدفٍ وحيدٍ هو «التّواصل»: «ويهدف هذا القانون التّنظيميّ إلى تعزيز التّواصل باللّغة الأمازيغيّة في مختلف المجالات العامّة ذات الأولويّة، باعتبارها لغةً رسميّةً للدّولة” (55). وبالرّجوع إلى السّياقات العامّة الّتي جاءت فيها كلمة «تواصل» في هذا القانون، نجد أنّ المقصود بها هو فقط الاستعمال الشّفويّ للأمازيغيّة، وليس تفعيل طابعها الرّسميّ كما هو منصوصٌ عليه في الدّستور.
    اسْتِحَالَة التّطْبِيقِ الْحَرْفِيّ لِلقَانُونِ التّنْظِيمِيِّ: يظهر ذلك مثلاً في مجال «التّقاضي»، الّذي خصّه القانون بمادّةٍ واحدةٍ هي المادّة 30؛ إذ لا تتضمّن ما من شأنه، ولو بعد مدّةٍ طويلةٍ من التّأهيل والمعيرة، أن تُكتب يوماً ما باللّغة الأمازيغيّة الأحكامُ ومختلفُ القرارات القضائيّة، والمذكّرات التّرافعيّة، وسجلّات كتابة الضّبط، ومحاضر الشّرطية القضائيّة، كما تُكتب اليوم بالعربيّة. ولا تتضمّن أيضاً ما يفيد أنّ المواطنين سيكونون قادرين على تقديم طلباتهم وشكاياتهم إلى الإدارة محرّرةً بالأمازيغيّة، وستجيب عنها هذه الإدارة باللّغة نفسها. كما لا ينفي اللّجوءُ إلى التّرجمة بالنّسبة إلى الأمازيغيّة الطّابع الرّسميّ، بل يجعل منها لغةً أجنبيّةً، يُعطي القانون لمستعملها الحقّ في أن يستعين بمترجمٍ حتّى يتواصل مع الموظّف الّذي يستعمل لغته الرّسميّة (56).
    تَكْرِيس مَسْلَكِيَّاتٍ تَمْيِيزِيّةٍ سَابِقَةٍ لِلدُّسْتُورِ: لم يهتمّ هذا القانون التّنظيميّ بحقّ الأمازيغ في تسمية أبنائهم بأسماء أمازيغيّةٍ، وهي الّتي كانت محطّ دعاوى قضائيّةٍ عديدةٍ انتهى جلّها بتأييد القرارات الإداريّة. وبهذا حُرم عدد ٌ كبيرٌ من المواطنين المغاربة من تسمية أبنائهم بأسماء أمازيغيّةٍ.
 النُّكُوصِيّة وَالسّيزيفِيَّة عَلَى مسْتَوَى الْمُكْتَسَبَاتِ السَّابِقَةِ: عادت الدّولة بعد تقديمها للقانون رقم 04.20، المتعلّق بالبطاقة الوطنيّة للتّعريف الجديدة، إلى ما قبل سنة 2011م، أي إلى ما قبل التّرسيم الدّستوريّ للأمازيغيّة، وصدور قانونها التّنظيميّ، مستخفّةً بها وبكلّ ما تقرّر لصالحها، بعدما غيّبت حرف “تِيفِيناغْ” من واجهة هذه الوثيقة الرّسميّة، بما يذكّر بسيرة “سيزيف” (نسبةً إلى شخصيّة «سيزيف» في الأسطورة اليونانيّة الّذي حكمت عليه الآلهة بأن يحمل صخرةً إلى قمّة الجبل، فكان كلّما أوصلها تدحرجت منه إلى الأسفل ليعود إلى حملها من جديدٍ). وفُسّر هذا الغياب بوجود إشكالٍ تقنيٍّ مرتبطٍ بالشّيفرة البرمجيّة الأمنيّة، وبكون سجلّات المواطنين كشواهد الإقامة وعقود الازدياد غير مدرجةٍ بالأمازيغيّة. وقد تقدّمت الفعاليات الثقافية الأمازيغية، في هذا الإطار، بطلبٍ رسميٍّ لأجل كتابة بعض العبارات الثّابتة كاسم البطاقة بالحرفين العربّي والأمازيغيّ لتجاوز هذا المشكل، وتضاف لاحقا المعلومات الشّخصية عند تعديلها، لكنّه قوبل بالرّفض.
 اِسْتِنْتَاجَاتٌ
لا مرية أنّه إذا سئل أيّ باحثٍ أو مهتمٍّ باللّغة الأمازيغيّة عن مدى قابليّة الوضع السّوسيولسانيّ الرّاهن في المغرب لترسيخ اللّغة الأمازيغيّة وتعميمها على سائر المؤسّسات الرّسميّة والحياة العامّة، سيكون جوابه بالإيجاب. لكنّه لا يعدُو أن يكون الجواب مرتبطاً بالشّقّ العلميّ لأداء كلّ الأدوار في انتظار جاهزيّة المقرّرات السّياسيّة لسنّ القوانين والمراسيم المناسبة واتّخاذ إجراءاتٍ ملموسةٍ وفعّالةٍ.
 تحتاج اللّغة الأمازيغيّة، على غرار كلِّ اللّغات العالميّة، في كلّ وقتٍ للتّحديث والعصرنة، وهو ما لن يكون متاحاً رسميّاً إلّا بعد استيفائها لمختلف مقوّمات التّهيئة اللّسانيّة. وطالما أنّه لا توجد لهجةٌ «كاملةٌ» أو مكتفيةٌ بذاتها، أو تتوفّر على جميع حاجات الحياة العامّة. فإنّه لا بدّ من التّكامل والتّبادل بين فروع اللّغة الأمازيغيّة، وعلى النّاطقين بها أن يدركوا أنّهم لا يستطيعون التّشبّث بالمفردات الّتي تتوفّر عليها لهجتهم فقط، بل يفترض بهم استعمال مفردات التّنوّعات اللّهجيّة الأخرى، لأنّ اللّسانيّين لا يبقون في عمليّة المعيرة على الدّخيل إلّا في الحالات النّادرة الّتي من بينها انعدام البديل في معجم اللّغة المعنيّة بهذه العمليّة.
    يكمن الحلّ الأمثل لمعيرة اللّغة الأمازيغيّة في المغرب في الانطلاق من التّنوّعات اللّهجيّة الثّلاث والتّقريب بينها في إطار مجموعةٍ لهجيّةٍ جديدةٍ، وتلافي المقوّمات المحليّة المعزولة، والرّفع من قيمة الشّائع والمشترك بينها (مقاربة الواحد والمتعدّد). وهو عملٌ يقتضي، مبدئيّاً، النّهوض بشكلٍ إيجابيٍّ بمختلف التّنوّعات اللّسانيّة الجهويّة حتّى تكون مهيّأةً للتّغيير اللّاحق.
    وذلك من خلال القيام بأعمالٍ تطبيقيّةٍ وبحوثٍ ميدانيّةٍ من أجل إغناء كلّ اللّهجات، فتؤخذ الكلمات الأساسيّة والّتي تحمل عناصر مشتركةً وجامعةً بينها، فضلا عن الدّلالات القديمة والكلمات المهملة والمهجورة، مع التّركيز على النّسق الفونيتيكيّ المشترك بينها. ولعلّ التّحدّي الأكبر هو الاشتغال على القواسم المشتركة بين اللّهجات، ولا يمكن القيام بهذه المعيرة إلّا بواسطة اللّغة الواصفة، بعيداً عن جميع التّنوّعات اللّهجيّة الأمازيغيّة، أو بفرض التّنوّع اللّهجيّ الّذي درّس أكثر من اللّهجات الأخرى (السّوسيّة أو الرّيفيّة)، وهذا الخيار هو الأكثر مجلبةً للسّلم اللّغوي في البلاد؛
    مهما كانت مزايا الرّسمين العربيّ الآراميّ واللّاتينيّ، وما دام انتقاء الرّسم المناسب للّغة للأمازيغيّة ليس عمليّةً تقنيّةً بسيطةً ومحايدةً، تعتبر حروف تيفيناغ جزءاً أصيلاً من الموروث الثّقافيّ الأمازيغيّ، لا سيّما أنّ تطوّر الأمم ليس قائماً بالضّرورة على نمط الخطّ الّذي تستعمله في كتابة لغاتها (التّجربة الصّينيّة في الرّسم)؛
    تعتبر مرحلة «تثبيت المعايير واستقرارها» المرحلة الأهمّ في هذه السّيرورة السّوسيولسانيّة “التّهيئة اللّسانيّة”، لأنّها تتحقّق تدريجيّاً في الزّمان، ويتحكّم فيها بشكلٍ حاسمٍ البعد السّياسيِّ من خلال توسيع الاستعمال وتوحيد القواعد المعياريّة داخل المؤسّسات الرّسميّة، وعبر توظيفها في الإبداع بكلّ صنوفه وأشكاله، واعتماد مرجعيّةٍ موحّدةٍ لتقييم وتحديد الصّائب والخاطئ فيما هو متداولٌ.


تابع البقية مَعَيْرَةُ الْلُّغَاتِ بَيْنَ الْبُعْدَيْنِ الْأَكَادِيمِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ - اَلْلُّغَةُ الأَمَازِيغِيَّةُ فِي الْمَغْرِبِ أُنْمُوذَجاً -3- 




http://anwarpress.com/271468.html?fbclid=IwAR2XLNVTBDWC4A0dsamMNsu95dBfacgW89Yf63KtZtqg8An9fN3vTnb8K_0