أنت شجرة، ولكن بلا جذور… غجر الجزائر
أنت شجرة، ولكن بلا جذور… غجر الجزائر 11327 
مغيبون رسمياً، لا يتأثرون ولا يؤثرون، يعيشون غرباء ويموتون غرباء، فليس ثمة بيت مستقر يمكنهم العودة إليه، ولا تتوفر إحصائيات رسمية أو غير رسمية عن عددهم، لأنهم لا يدخلون المدارس، وكتاتيب القرآن، ولا يسجلون أنفسهم في سجلات الحالة المدنية، فهم وبكل بساطة لا يملكون شهادة ميلاد، وبطاقة الهوية الوطنية، ولا دفتراً عائلياً يثبت قران الزوجين.
الغجر
تردد اسم "الغجر" أو كما يلقبون محلياً بـ"بني عداس"، و"بني هجرس"، و"العمريون" في الشرق الجزائري، على مسامعي منذ كنت طفلة صغيرة، عندما كنت أقطع كيلومترات عديدة رفقة عائلتي لزيارة خالتي مليكة، القاطنة في مدينة قالمة (تقع في شمال شرق البلاد، تبعد عن العاصمة الجزائرية 537 كلم)، وأيضاً بيت جدي الواقع في بلدة ذراع الميزان (غرب محافظة تيزي وزو، تقع على بعد 100 كلم شرق العاصمة الجزائر).
على حواف الغابات والأراضي، التي يترك بها المزارعون مخلفات الحصاد، مثل قش القمح، سيقان الذرة والحمص، ينصب الغجر خيامهم المصنوعة من الخيش، وبقايا البلاستيك والخشب، ووسط هذه الأراضي الشاسعة التي يطغى عليها اللون الأصفر، تتوزع قطعان الغنم والبقر، التي ترافقهم أينما حلوا وارتحلوا.
حكايات أمي
سألت والدتي بفضول: من هم؟ وماذا يفعلون هنا؟ فأجابت: "قوم متجولون، طبيعة حياتهم القاسية قائمة على الصراع من أجل البقاء. يأكلون من مخلفات مواسم حصاد الأرض، حيث يفضلون الاستقرار صيفاً، خاصة القمح والشعير، حيث يجمعونه ويصفونه من التراب العالق به، ثم يقومون بطحنه وطهيه فوق مواقد النار التقليدية، المكونة من المواد القابلة للاحتراق مثل الخشب".
"يستقرون لفترة في هذه السهول الصفراء، ثم يرحلون وهم متخمون بحمولة بقايا الحبوب التي جمعوها، ويتركونها شبيهة بالصحراء القاحلة، ويعودون في مشهد يتكرر كل موسم، فليس لهم دولة ولا خريطة ولا سيادة، يمتثلون لعادات وتقاليد خاصة، مثل: الزواج العرفي، والتداوي بالأعشاب، وممارسة طقوس السحر".
ولا زلت أتذكر حديث جدتي أيضاً عنهم: "هم غجر لكنهم أثرى منا بكثير، لأنهم يحترفون التسول في المدن الكبرى، التي ينزحون إليها شتاءً".
أخبرتني صبية عشرينية، وجهها جميل، وعيونها صافية، وثمة وشم فوق حاجبيها وأسفل فمها، تغطي شعرها بوشاح أسود، ورائحة الدخان المحترق تنبعث من ملابسها، أنهم "شعب" كالشجر ولكن بلا جذور
ومن العلامات الفارقة التي تميزهم عن باقي الغجر في العالم، ميولهم إلى الأقمشة الفضفاضة والخفيفة السوداء، عكس التنانير، والفساتين الطويلة المنقوشة بالزهور، والمزركشة، والمخططة التي تكشف مفاتن الجسم الأنثوي، وهوسهم بالزينة، والحلي كالخواتم النحاسية الخشنة، وبشرتهم السمراء التي تظهر عليها تدريجات الأحمر الصارخ، فتجعلهم مختلفين عنا وملفتين للنظر، والأوشام والرسومات التي تكسو أجساد النساء والرجال معاً باعتبارها مظهراً اجتماعياً، يعكس هويتهم في ظل ارتحالهم المستمر في البرية.
بقيت تلك الصور محفورة في ذاكرتي إلى أن كبرت، وعرفت أنهم غجر الجزائر "المنبوذون" اجتماعياً، يقرأون الكف أو الفنجان وكتابة الطلاسم وفك التعاويذ، ويطلق عليهم تسميات مختلفة، مثل: "بني عداس" و"الجيتانو" و"العمريون"؛ ينتشرون بكثرة في سهول وتلال محافظة سطيف (ولاية جزائرية تقع في شمال شرق البلاد)، لأن هذه المدينة معروفة كثيراً بزراعة مادتي القمح الصلب واللين إلى جانب الشعير والشوفان (الخرطال)، كما أنهم يتوزعون خارج مدينة سيدي عيسى أو كما يحلو تسميتها للبعض "عواس" (بلدة جزائرية تقع جنوب شرق الجزائر العاصمة، تبعد عنها بمسافة 171 كلم).

الغجريات
تعرفتُ على نسائهم أكثر في القطارات، كان مظهرهن الخارجي يثير فضولي، ويذكرني بعادات وتقاليد المرأة في القبائل الإفريقية، إذ كن يضعن أطفالهن على ظهورهن، ويربطنهم على أجسادهن بقطعة قماش واحدة، وكأنهن نازحات لاجئات، يضبطن إيقاع حياتهن اليومية على توقيت القطارات، يستقلنها أكثر من خمس مرات في اليوم، بعضهن يحترفن التسول، وأخريات يستعملن حيلاً ذكية لكسب المال، مثل بيع المناديل الورقية المبللة، والمعطرة، والمياه المعدنية.
لا زلت أذكر تلك الفتاة التي كانت في العشرينيات من العمر، صاحبة وجه جميل، وعيون مشرقة، وصافية. ثمة وشم فوق حاجبيها وأسفل فمها، تغطي شعرها بوشاح أسود يعكس صعوبة الظروف التي تعيشها وضغوطات التهميش والاحتقار، ورائحة الدخان المحترق تنبعث من ملابسها، كانت تتحدث بطلاقة وسرعة كبيرة، ولغة يشوبها الغموض، وكأنها عصية على الكتابة.
أخبرتني أنهم يميلون قسراً إلى العزلة، فالمجتمع ينبذهم، ويعتبرهم خارجين على القيم والعادات والتقاليد، لذا فإن "شعبها" يُعرف بعدم الاستقرار في مكان واحد، وظلوا هائمين على وجوههم، فهم كشجرة من دون جذور، ولكن الشيء المميز عندهم هو العاطفة القوية الجياشة، التي تشملهم جميعاً، فمشاعر المودة والتآلف والتآخي هي سمة إنسانية عندهم.
تبين لي من خلال الحديث معها، أن للمرأة شأناً عظيماً عندهم، فهم يفضلون المرأة على الرجل، عكس ما هو رائج في مجتمعنا، كما أن مراسيم الزواج عندهم تختلف كثيراً عن عاداتنا وتقاليدنا، فالزواج عندهم يحدث في سنّ أقل من الثامنة عشرة، وقد يكون في الرابعة أو الثالثة عشرة من العمر.
خيال روائي
كثير من الأمثلة الشعبية التي تلوكها ألسنتنا تقدح في حضورهم الاجتماعي، وأبرزها: "ترخصي يالزرقا ويركبوك بني عداس"، وهو مثل يتردد كثيراً على ألسنة سكان الشرق الجزائري، وهو يرمز إلى الشيء الثمين الغالي حين يرخص، ويصبح في متناول "رعاع" الناس.
ومحدودة جداً هي الروايات التي عنيت بحياة الغجر، ومنها "الدوائر والأبواب" للروائي والقاص الجزائري عبد الوهاب عيساوي، صدرت عن دار ميم للنشر والتوزيع، وفازت بجائزة سعاد الصباح عام 2017.

بطل الرواية هو الشاب "بابا أحمد"، ابن إحدى العائلات الإباضية المتدنية القاطنة في "وادي ميزاب" (هي في الأصل واحة تقع في وادي عميق وضيق، تتألف من خمس مدن مسورة، وتقع داخل الصحراء على بعد حوالي 600 كلم جنوب الجزائر العاصمة)، تتجلى حضارة هذه المنطقة في تمسك السكان بدينهم وأصالتهم وعاداتهم.
أحمد "لمزابي" هو الابن الوحيد لوالده عبد القادر، إمام مسجد منطقته، وأحد شيوخ الزاوية التيجانية سي عبد الرحمان بابا. سعى عبد القادر جاهداً ليكون أحمد وريث هذه العائلة المتدينة، غير أنه شق عصا الطاعة، وتمرد على النظام الداخلي للقصر، فلم يكن يعجبه شيء سوى أمه "لالة زهرة"، وحواف الواحة حيث يقيم غجر الجزائر أو "بني عداس"، فأصبحت تربطه علاقات بأبناء هذا العالم، فصاحَب "آغيل" الغجري، وأدمن على رقصهم الغريب، ووقع في حب الفتاة الغجرية "جلا"، وتعلق بـ"اللاقمي" (عصير يميل لونه إلى الرمادي، يخرج من جمار النخل، يشبه إلى حد بعيد عصير الأناناس، ويتكون داخل جذع النخلة، وهو غني جداً بالمعادن).
لكن حلم أحمد بالزواج من "جلا" الغجرية لم يتحقق، لأنها اختفت بطريقة غامضة يوم زفافهما، ويومها انفصل أحمد عن هذا العالم وقرر الرحيل دون رجعة، وفي منفاه اكتشف مدينة مختلفة، وتعرف على امرأة تتقاطع دوائر حياته مع دوائر حياتها، وفي سن الخمسين أدرك أنها هي من كان يبحث عنها، إذ تجسدت فيها صورة الغجرية الأولى التي عشقها في صغره.
تاريخ غجر الجزائر
العثور على معلومات دقيقة عن غجر الجزائر ليس أمراً هيناً، فقليلا جداً ما يجري الالتفات إلى توثيق هذا العالم، وهو ما يجعل المتوفر عنه مقتطفاتٍ عامة وسطحية في الكتب وأبحاث الدراسات العليا، ولعل السبب الرئيسي في ذلك هو التاريخ، الذي لفظ حياة شعب لا يملك هوية أو جنسية، ولا تخلو حياته من الترحال والتشرد في البوادي والسهول، وهو ما أكده العديد من الباحثين، مثل دراسة لأشرف صالح محمد سد، مؤرخ وأكاديمي متخصص في تاريخ وحضارة العصور الوسطى، وعلا الطوخي إسماعيل، وفيها: "للغجر وجود في التاريخ العربي، ولكنهم ظلوا خلال هذا التاريخ يعيشون حياةً هامشية، مميزة وغامضة، غنية ومجهولة، مما جعلهم لغزاً عصياً على الحل".
"هناك فرق بين غجر جزيرة إيبيريا أو شبه الجزيرة الإيبيرية، التي كانت تسمى سابقاً بشبه جزيرة الأندلس أو شبه الجزيرة الأندلسية، وغجر الشرق الجزائري، الذين جاؤوا مهاجرين من مناطق حدودية أو انحدروا من أصول أخرى، فالبعض من غجر إسبانيا أصولهم عرب مسلمون، غير أنهم فروا إلى الجبال، وامتزجوا ببقية الغجر"
من هم الغجر؟ من أين قدموا وأين استقروا؟ يعتبر الباحث الأنثروبولوجي مراد سعدون، بأنهم "يعيشون بلا وطن، ولكن جميع الأوطان لهم، فكل مكان يمكن أن يكون مستقراً لهم".
"فالغجر ليسوا من السكان الأصليين، قدموا إلى الجزائر عن طريق الترحال، ولا يحوزون على وثائق رسمية أو جنسية جزائرية، فهم مجموعة من البشر يعيشون بعيداً عن الرقابة والقيود السائدة ومقصلة القانون".
وهناك روايات أخرى مرتبطة بأصل الغجر، كما يذكر الجامعي الجزائري سليم بوعجاجة، من كلية الآداب واللغة، والأستاذ السابق في الأنثروبولوجيا، في حديثه لنا: "هناك فرق بين غجر جزيرة إيبيريا أو شبه الجزيرة الإيبيرية، التي كانت تسمى سابقاً بشبه جزيرة الأندلس أو شبه الجزيرة الأندلسية، وغجر الشرق الجزائري، الذين جاؤوا مهاجرين من مناطق حدودية أو انحدروا من أصول أخرى، فالبعض من غجر إسبانيا أصولهم عرب مسلمون، غير أنهم فروا إلى الجبال، وامتزجوا ببقية الغجر".

وكشفت دراسة بعنوان "الغجر المهمشون في المجتمعات العربية... التاريخ والهوية" عن تباين الآراء حول أصل ومنبع الغجر حتى عن تواريخ بدء هجراتهم. ولكن قد يبدو كل ما يقال عن الغجر شبيه بما يمكن أن يصلنا، إن نظرنا إلى أنفسنا وإلى مجتمعاتنا، لا ككتل موحدة ثابتة، بل كمجموعات متفرقة، شكلها الترحال ولا يزال يصوغ هويتها، يلف الغموض والنسيان معظم تفاصيل حياتها.
 
  
المصدر:مواقع ألكترونية