من الأندلس... المورسكيون وتخيلات "خندق الجنة"
أسطورة خندق الجنة لدى الموريسكيين 11612
في كتابه "أحلام اليقظة للمتجول الوحيد"، نبّه روسو إلى أن كذباً لا يلحق ضرراً بالذات أو بالآخر لا يعد كذباً. هو، على حد وصف الفيلسوف السويسري، مجرّد "تخيلات"، فعندما "نعطي نقوداً زائفة لمن ليس له في ذمتنا شيء، نحن بالتأكيد نخدعه، لكن لا نختلس منه شيئاً"، ويحكي التاريخ عن أكاذيب كبرى ليست أبعد من كونها "تخيلات"، فمن روّج لها لم يقصد اختلاس شيء لا يخصه، بل كان غرضه، في أغلب الأحيان، استعادة ما له، فلجأ إلى الحيلة بعدما أعيته القوة.
من هذه الحكايات حكاية تشرف على شجن من شجون ثقافتنا العربية: الأندلس، أما حبكة الحكاية فكذبة نبيلة، تمثل ما أسماه جاك دريدا "فن الكذب"، يعني أن الكذبة جاءت مفارقة لضحالة اشتكى أوسكار وايلد، قبل دريدا، من تردي الكذب إليها، فرغم مرور ما يزيد على أربعة قرون لازال للكذبة التاريخية شاهد ضخم يحجّ الناس إليه وتقام الاحتفالات حوله.
تعود الكذبة أو الحكاية إلى زمن محاكم التفتيش في إسبانيا، كان المسلمون قد خسروا أندلسهم إلى الأبد، ليعانوا من اضطهاد ألجأ كثيرين إلى إخفاء عقيدتهم، وحُرموا كذلك من التحدث بلغتهم العربية، وتتمددت معاناتهم عقوداً طويلة، حتى لم يعد بدّاً من الثورة (1568–1571) لتقمع بعنف ويطرد أغلب المورسكيين (الذين بقوا من المسلمين بالبلاد واعتنقوا المسيحية وتسموا بأسماء إسبانية)، من غرناطة، المدينة التي تزعمت الثورة، إلى قشتالة.
هذه الصورة القاتمة في الداخل لا تعكس وضع إسبانيا الخارجي وقتها، ففي القرن السادس عشر، في عهد الملك فيليب الثاني تحديداً، حيث تقع أحداث قصتنا، بلغت إسبانيا ذروة مجدها بفضل اكتشاف العالم الجديد وما حمله إليها من خيرات.

اكتشافات تعود إلى زمن المسيح
ومنتشية بقوتها، قدّمت المملكة الكبيرة نفسها حامية للكاثوليكية، لتخوض حروباً عدة تحت راية مذهبها الديني، لهذا كانت سعادة الملك فيليب ونبلائه كبيرة بتلك الاكتشافات، التي كان أولها صندوق معدني عثر عليه في جدار صومعة قديمة، وحوى الصندوق رقاً منقوشاً عليه نص باللاتينية، وآخر بلغة عربية قديمة ونصف خمار (نسب إلى مريم العذراء فيما بعد) ورفات آدمية.
تبع هذا الكشف ثان: ألواح رصاصية مكتوب عليه بالعربية أيضاً، في منطقة تعرف بـ "سكرومانتي" أو "خندق الجنة"، مثلما كانت تسمى أيام الحكم الإسلامي.
ألهبت الاكتشافات حماسة الإسبان، فتابعوا التنقيب ليقعوا على ألواح أخرى وإن كانت أصغر حجماً، ودلت حالة الاكتشافات أنها تنتمي إلى عهد السيد المسيح، لكن أحداً لم يفهم شيئاً من النقوش المكتوبة بعدة لغات، منها عربية قديمة غير منقوطة، مسماة بالسليمانية، أما الألواح الرصاصية التي بلغ مجموعها 223 لوحاً، فاعتقد الإسبان أنها إنجيل خامس وجّهته مريم العذراء إلى إسبانيا.
حاول الفاتيكان منع إجراء أي بحوث حول الكنز الأثري، وشكّك البعض في أثريته، لكن كنيسة غرناطة أكّدت صحة الاكتشافات، وتحدى رئيس الأساقفة، بيدرو دي كاسترو، قرار بابا روما بمنع فحص الألواح، ليستدعي أفضل مترجمين في المملكة.
كانوا أربعة، لويس فاخاردو، أستاذ اللغة العربية بجامعة سالامانكا، فرانسيس لوبيز تاماريد، ألونسو دي كاستيو (طبيب ومترجم موريسكي في بلاط الملك فيليب) وميجيل دي لونا (طبيب موريسكي ومترجم اللغة العربية الخاص بالملك).
عكف المترجمون على فك شفرة الكتابة، إلى أن تمكن ميجيل دي لونا بمساعدة دي كاستيو من حلها، فتبين أن الرفات تعود إلى القديس ستيفانو، وأن الذي أمر بدفن الصندوق هو القديس سيسيل، أول من أدخل المسيحية إلى إسبانيا، كما حكت النقوش على الرق حكاية غريبة عنه.

تقول الحكاية إن رجلين عربيين سمعا عن معجزات علاجية قام بها المسيح، فانطلقا إليه طمعاً في الشفاء من مرض ألمّ بهما، وما إن مثلا أمام المسيح حتى مسح بيده عليهما فشفيا، وذكرت النقوش أن عيسى أطلق لقبا على أحدهما، سيسيل، الذي أمسى بعدها القديس سيسيل، من أدخل إسبانيا في المسيحية.
تحدثت الألواح أيضاً عن "أصول مسيحية لغرناطة" ترجع إلى قدوم الحواري يعقوب بن زيدي برفقة تلامذته: إيسثيو وسيسيل وتسيفون إلى المدينة، وأنهم تنقلوا بين كهوفها، حيث قاموا بكتابة الألواح، ليعثر الإسبان على رفاتهم بتلك الكهوف.
اتقدت النفوس بإسبانيا حماسة، فنصبوا القديس سيسيل حامياً لمدينة غرناطة، وأمر الملك بإنشاء كنيسة ضخمة في موضع الاكتشافات، سميت كنيسة دير سكرومانتي، ليودع فيها الرفات والألواح المقدسة، وأمست بعدها مزاراً يحج إليه الناس.
أما مضمون الألواح التي اكتشفت تباعاً (1595–1595) فقد بشر بعقيدة أقرب إلى تصور الإسلام عن المسيحية، فالمسيح ليس ابن الله بل هو روح من الله، وتحدثت النقوش عن أن مريم العذراء حملت بعيسى "من غير دنس"، وأنها أثنت على العرب ليُكرم لسانهم فيُكتب به الإنجيل الخامس، وأن الله اصطفاهم بأن يجيء نبي آخر الزمان منهم.
هذه الدعوة دفعت البعض إلى التشكيك في مصداقية الاكتشافات، لكن دي كاسترو رئيس أساقفة غرناطة نافح عنها بقوة، خاصة وأن ما أوردته الألواح اتفق مع ما كان المطران يروج له قبل ظهورها، من أن السيدة مريم حملت بالمسيح بلا دنس، وهي العقيدة التي رفضتها روما على الدوام.
حكى أحمد بن قاسم الحجري في معرض حديثه عن رحلة قام بها إلى إسبانيا، قصة الاكتشافات، فقال: ولما فتشوا في الغار وجدوا بعض الحجار معقودة، فكسروها، ووجدوا في قلب كل حجر كتاباً ورقه رصاص مكتوب بالعربية، فأمر القسيس الأندلسي المذكورين: الأكيحل والفقيه الجبس، رحمهما الله، وغيرهما بترجمة الكتب.

بالعودة إلى الأسماء الأربعة التي كلفت بالترجمة نجد اثنين من المورسكيين، هما: ألونسو دي كاستيو وميجيل دي لونا، وبهذا يكون واحد منهم هو الأكيحل والآخر الفقيه الجبس. معنى ذلك أن الاثنين ظلا على إسلامهما سراً بعد اعتناقهما المسيحية
الأكيحل والفقيه الجبس! لا تذكر المصادر الإسبانية أي أسماء عربية بين المترجمين المكلفين بالترجمة، فمن هو الأكيحل ومن يكون الفقيه الجبس؟! مفاجأة ثانية أوردها الحجري، أنه اشترك أثناء وجوده بغرناطة في ترجمة نقوش الرق بطلب من رئيس أساقفة المدينة دي كاسترو.
بالعودة إلى الأسماء الأربعة التي كلفت بالترجمة نجد اثنين من المورسكيين، هما: ألونسو دي كاستيو وميجيل دي لونا، وبهذا يكون واحد منهم هو الأكيحل والآخر الفقيه الجبس. معنى ذلك أن الاثنين ظلا على إسلامهما سراً بعد اعتناقهما المسيحية.
إذا أفردنا هنا جميع خيوط الحكاية سنقع على قديسين أدخلا إسبانيا إلى المسيحية، وأنبأ الرق أنهما من العرب، وألواح تبشر بمذهب قريب الشبه مما وقر في الإسلام عن المسيح ومريم العذراء، لتمدح النقوش أمة العرب وتوصي بهم، ومترجمين مورسكيين يخفيان إسلامهما، وهما وحدهما من نجحا في ترجمة ما جاء في الألواح، ومسلمين، بصفة عامة، يعانون الأمرين من محاكم التفتيش.
كأن كنز غرناطة كان غرضه إيصال رسالة أن الديانة التي تسببت في كل هذا العداء والتباعد هي في ينابيعها الأولى تدعو للتآلف والتقارب، وأن لغة جرى حظر تعلمها والحديث بها قد كرمها المسيحيون الأوائل فكتبوا بها ألواحهم المقدسة.
كانت كذبة نبيلة اختلقها من أولها إلى آخرها المورسكيون، وتحديداً أسماء حامت حولها الشبهات مثل: ألونسو دي كاستيو وميجيل دي لونا أو الأكيحل والفقيه الجبس وغيرهما، ومع أن الكذبة لم تُبلغ المورسكيين ما طمحوا إليه من العيش واعتناق ما شاءوا من معتقدات، آمنين على أنفسهم وأهاليهم، حيث أصدر الملك فيليب الثالث قراراً بطردهم من البلاد (1609).
لكن الإسبان احتفظوا بكنيسة سكرومانتي، وقبلوا هدية المورسكيين "رفات القديس والشهداء"، ليُحتفى بها وتعرض إلى اليوم في المهرجانات الدينية الشعبية، وفي الأحد الأول من شهر فبراير من كل عام، يذهب المؤمنون إلى كنيسة دير ساكرامونتي، حيث تقبع رفات القديس سيسيل للتبرك بها، التبرك بـ "تخيلات" خندق الجنة.




المصدر: مواقع ألكترونية