رحلة (جوليا باسترانا) المأساوية، من ”المرأة القرد“ إلى ساحة المشاهير
رحلة (جوليا باسترانا) المأساوية، من ”المرأة القرد“ إلى ساحة المشاهير 12057
(جوليا) التي على الرغم من تمتعها بقدرات قلما امتلكها الناس العاديون في الرقص والغناء والتحدث بلغات متعددة، إلَّا أنها لطالما وُصِفَت بـ”نصف إمرأة“ أو ”المرأة الهجينة“، وبدأت قصة هذه الفتاة المسكينة منذ ولادتها بجسم يكسوه الشعر الأسود الكثيف، إلا أن والدتها كانت مقتنعة بأن قوى الطبيعة الخارقة كفيلة بأن تُصلِح الأمر.
على الرغم من أن السجلات ليست دقيقة تماما، فإنه يعتقد أن (جوليا باسترانا) ولدت في وقت ما حوالي سنة 1834 في المكسيك، بالضبط على المنحدرات الغربية لجبال الـ(سييرا مادري)، وكانت منذ ولادتها طفلة صغيرة الحجم يكسو جسمها شعر أسود كثيف يغطي جميع مناطقه تقريبا، وكانت قد ولدت لامرأة أمريكية أصلية فقيرة جدا.
كتب (جان بونديسون) في مجلة (عيادة لغرائب الطب): ”وفقا للقصص المبالغ فيها التي أوردتها مناشير المعارض آنذاك، انفصلت امرأة هندية تدعى (إسبينوزا) عن عشيرتها في سنة 1830، واعتُقد أنها قضت غرقا. بعد ستة سنوات، عثر عليها بعض رعاة البقر المكسيكيون داخل كهف. أخبرت (إيسبينوزا) رعاة البقر بأنها اختطفت وأسرت من طرف أفراد قبيلة معادية من الأمريكيين الأصليين الذين احتجزوها في ذات الكهف، لكنهم لم يعثروا على أي إنسان في أي مكان قريب من ذلك الكهف“. كان بصحبة (إيسبينوزا) طفلة صغيرة عندما عُثر عليها، لكنها أخبرت منقذيها أن الطفلة لم تكن ابنة لها، لكنها كانت تعتني بها وتحبها، وكانت هذه الطفلة هي (جوليا باسترانا) التي ستصبح شهيرة فيما بعد، يستطرد (بونديسون) كاتبا: ”توفيت والدة (جوليا) المحتملة، وأُرسلت الطفلة على إثر ذلك إلى مدينة قريبة“.

في مقال لها على صحيفة The Public Domain Review؛ تصف (بيس لوفجوي) مؤلفة (أرقد في قطع منفصلة: الأقدار الغريبة للجثث الشهيرة) أصول (جوليا باسترانا) بشكل مختلف، لكن وصفها كان أوضح بكثير، فكتبت: ”كانت العشائر والقبائل المحلية الأصلية تلوم جنسا من المستذئبين يعرفون باسم الـ(ناوالي) على وفيات الأطفال لدى الولادة وعلى التشوهات الخلقية التي تطالهم، ويعتقد أن والدة (جوليا باسترانا) قد همست بأسمائهم بعد رؤيتها لطفلتها لأول مرة لدى ولاتها. فرّت بعد ذلك من عشيرتها -أو طُردت- بعد فترة وجيزة“. وفقا لـ(لوفجوي)، عُثر على (جوليا) ووالدتها (إسبينوزا) بعد سنوات لاحقة داخل كهف وتم اصطحابهما إلى مدينة قريبة، حيث وضعت الطفلة في ميتم ليتم الاعتناء بها.
وفي كلتا القصتين، خرجت (جوليا باسترانا) من رحم والدتها سوداء البشرة ويكسو جسمها الشعر الكثيف، كما يميز وجهها شفتان غليظتان وأذنان واسعتان. لم يكن أحد قادرا على تفسير ذلك.
توجد كذلك العديد من القصص حول أصولها التي تداولت بكثرة آنذاك، معظمها غريب وقاتم وبعيد كل البعد عن الحقيقة، ولا يعكس سوى النظرة البشعة التي كان يُنظر بها إليها، من بينها ما رواه عنها مدير أعمالها لاحقا وزوجها في نهاية المطاف الذي وصفها بأنها عبارة عن جنس هجين بين القرد والإنسان، كما وصفها كذلك بأنها ”المرأة الدب“، وأضاف بأن والدتها تاهت في الجبال المكسيكية حيث تزاوجت مع القرود، والبابون، والدببة.
بعد ذياع صيتها داخل الميتم الذي وضعت فيه في فجر أيامها، وعندما صارت شابة يافعة، أخذها حاكم ولاية (سينالوا) إلى منزله، وكان هدفه من وراء ذلك هو دراسة جسمها المثير للجدل. عملت (جوليا) كخادمة في منزله لكنها هربت منه في سنة 1854 بسبب المعاملة السيئة التي كانت تعامل بها، وفي طريق عودتها إلى قريتها الأم، التقت بمدير العروض الأمريكي (إم رايتس) الذي نجح في إقناعها بالذهاب معه في جولاته لتأدية العروض في الولايات المتحدة.
رحلة (جوليا باسترانا) المأساوية، من ”المرأة القرد“ إلى ساحة المشاهير 1-357
لوحة مرسومة لـ(جوليا باسترانا)
وفي خضم العروض التي كانت تؤديها مع مدير أعمالها الأول (إم رايتس) قابلت مدير عروض مسرحية أمريكي آخر مشهور يدعى (تيودور لينت)، الذي أقنعها بأن نجاحها سيكون معه على خشبة المسرح، ومنه ستتحول هذه المرأة اللطيفة التي وُلدت بعيب خلقي مؤسف إلى امرأة مشهورة جدا في منتصف القرن التاسع عشر.
لكنها على الرغم من مواهبها المتعددة التي كان الرقص من بينها، فإن الجمهور لم يكن يحضر عروضها إلا ليشاهد ”المرأة القرد“.
ساهم الكثير من مدّعي العلم في نشر هذه الدعاية الزائفة بأن الفتاة المسكينة كانت ”نصف قرد“، حيث كانوا يرددون دوما بأنها ليست إمرأة على الإطلاق بل نوعا جديدا هجينا من الكائنات النصف إنسان ونصف قرد. لكنها التقت بأطباء وعلماء حقيقيين نفوا كل هذه الادعاءات ودحضوها وأكدوا على أنها امرأة طبيعية على الرغم من شكلها غير المألوف، كان من بين هؤلاء العلماء السير (تشارلز داروين) الذي وصفها بأنها: ”امرأة مرحة وودودة بشكل ملحوظ“، على الرغم من امتلاكها لحية كثيفة وامتداد الشعر حتى على مستوى جبهتها.
رحلة (جوليا باسترانا) المأساوية، من ”المرأة القرد“ إلى ساحة المشاهير 1-358
كان يُروج لـ(جوليا باسترانا) على أنها “امرأة قرد”، وكانت تجذب السواح من مختلف المناطق من الولايات المتحدة وأوروبا – صورة: Wellcome Collection
أصبحت (جوليا باسترانا) فيما بعد شهيرة جدا لدرجة أن مدير أعمالها (لينت) بات يخشى خسارة نجمته، لذلك فكر في خطة مُجدية لربطها به، وهي الزواج.
تثبت الأحداث التي تلت ذلك بأن الرومانسية لم يكن لها أي مكان في قلب (لينت)، لكن وعلى النقيض تماماً كانت (جوليا) مخلصة له بشكل مطلق. اتخذت خطته منعطفاً جديداً عندما أصبحت (جوليا) حاملاً عام 1859 خلال سفرهما إلى (موسكو)، فقد كانت إمرأة صغيرة بطول متر ونصف فقط، وكان حوضها ضيقاً لدرجة أن الأطباء كانوا يخشون من أن الولادة ستكون صعبة جداً، وقد أثبتت صحة مخاوفهم، ذلك أنهم كانوا بحاجة إلى ملقط للوصول إلى الرضيع مما أدى لحصول تمزقات عديدة في جسد الأم المسكينة.
رحلة (جوليا باسترانا) المأساوية، من ”المرأة القرد“ إلى ساحة المشاهير 1--136
ملصق يعلن عن عرض ”لا يوصف“ لـ(جوليا باسترانا) في قاعة (ريجنت) في لندن – صورة: Wellcome Collection
لم يعش المولود الحديث سوى يوما واحدا، بالإضافة إلى كونه هو الآخر لم يسلم من الجين الذي تسبب في شهرة أمه، حيث ولد وجسمه مغطى بشعر أسود كثيف، وبعد ولادته بخمسة أيام، توفيت (جوليا) هي الأخرى متأثرة بتداعيات الولادة العسيرة التي خاضتها، وبذلك خسر (لينت) مولوده وزوجته وتحول إلى شخص فقد بريقه ومصدر رزقه وسبب شهرته.
لم يمض وقت طويل على وفات (جوليا) ورضيعها حتى قام (لينت) ببيع جثتيهما إلى محنّط، وهو البروفيسور (سوكولوف) في جامعة موسكو. انتشرت شهرة مومياء (جوليا) وابنها وصارتا تجذبان الكثير من الفضوليين الذين كانوا يقصدون المتحف التشريحي لجامعة موسكو من أجل رؤيتهما.
وضعت مومياء (جوليا) داخل فستان رقص روسي نسائي، أما رضيعها فأُلبس بزة بحار صغير، وكان أحد علماء الحيوان الإنجليز وخبراء التاريخ الطبيعي الذي رأى (جوليا) في فترة حياتها قد تنقل هو الآخر إلى متحف التشريح في جامعة موسكو ليرى جثتها محنطة، ووصفها كما يلي: ”أقنعني تفحصي بشكل أقرب للجثة بأنها حقيقية، ومهيأة بطريقة رائعة، فقد حافظت شفتاها الغليظتان وأنفها المفلطح العريض على هيئتهما كما لو كانت حية تماما، كما لم يتغير مظهر لحيتها والشعر الخفيف الذي كان يكسو وجهها وبقي على حاله“.
سرعان ما أقنعت شعبية جثة (جوليا باسترانا) ورضيعها زوجها السابق (لينت) بضرورة استعادتهما، وهو الأمر الذي قام به بالفعل، وخلال السنوات العشرة التالية، كان يأخذ جثة زوجته الميتة وابنه في جولات عروض ترفيهية في كامل أنحاء أوروبا، كما كان قد اصطحب خلال ذلك زوجته الجديدة (ماري بارتيل) التي قام بتغيير اسمها إلى (زينورا باسترانا)!
رحلة (جوليا باسترانا) المأساوية، من ”المرأة القرد“ إلى ساحة المشاهير 1--137
إعادة تجسيد جسم (جوليا باسترانا) من طرف George Wick اعتمادا على جثتها المحنطة – صورة: Wellcome Collection
تقاعد (لينت) في نهاية المطاف واعتزل مهنة تقديم العروض واقتنى متحفا للأعمال الفنية المصنوعة من الشمع في (ساينت بيترسبرغ)، وعرض فيه جثتي زوجته (جوليا) وابنه اللتان كانتا تدران عليه مبلغا سخيا من المال، غير أنه أصيب بالجنون في نهاية المطاف سنة 1884. كتب (بونديسون) عنه: ”بدأ (لينت) يرقص في الشوارع ويمزق السندات البنكية وسندات الأسهم التي جناها بفضل العروض التي كانت زوجته السابقة (جوليا باسترانا) تؤديها، وكان يرمي بها في نهر (نيفا)“، نقل بعد ذلك إلى مصح عقلي، ثم قامت زوجته الحديثة بتنظيم عروض ومعارض ترفيهية عرضت فيها جثتي زوجته وابنه.
في سنة 1889، منحت (زينورا باسترانا) –زوجة (لينت)– المومياءتان الشهيرتان لرجل ألماني يدعى (جاي بي غاسنر) الذي عرضهما في عروض السيرك، والمعارض المختلفة، وكذا على خبراء الأنثروبولوجيا لدى زيارتهم له.

وكان هذا قدر (جوليا باسترانا) للقرن التالي كاملا: موضوعا لعروض ترفيهية تستقطب الفضوليين حول العالم، ثم اختفى اسمها لبعض الوقت وتم خلاله تخزين جثتها المحنطة إلى جانب جثة رضيعها.
عُثر بعدها عليهما مجددا وانتهى بهما المطاف في السويد، وفي سنة 1973 أصدرت السويد قانونا يجرم عرض الجثث البشرية لأغراض ترفيهية، فوجدت (جوليا) ورضيعها طريقهما مجددا إلى الأقبية السفلية للمباني حيث تم تخزينهما مرة أخرى.
كتبت (لوفجوي): ”بعد ثلاثة سنوات من صدور ذلك القانون، اقتحم مراهقون المبنى حيث كان يتم الاحتفاظ بجثة (جوليا باسترانا) ورضيعها وقطعوا ذراعها معتقدين أنها مجردة دمية كبيرة. استرجعت وحدات الشرطة لاحقا الجثتين، لكن جثة الرضيع تضررت جدا بحيث كان مستحيلا ترقيعها أو تصليحها، ومنه تم التخلص منها نهائيا“.

في سنة 1990، أُعيد اكتشاف جثة (جوليا) مرة أخرى، وبعد جدل واسع، تم عرضها مرة أخرى في معهد (علوم الطب الأساسية) في جامعة (أوسلو) بالسويد، ثم في سنة 2005، بدأت طالبة الفنون (لورا أندرسون باربارا) في جامعة (أوسلو) عريضة تهدف لدفن جثة (جوليا)، وبعد تدخل الحكومة المكسيكية، وجدت (جوليا) طريقها أخيرا إلى بلدتها الأم، حيث دفنت في سنة 2013 بالقرب من مكان مولدها في ولاية (سينالوا دي ليفا) بعيداً عن أعيُن المتطفلين.


المصدر: مواقع ألكترونية