“حُروب الرّدة”: حين كشف أبو بكر عن وجهه الآخر! 2/1
كان أبو بكر منذ أن أسلم معروفا بلين الجانب ورقة القلب. لكنه، في مقاومته لـ”الردة”، لم يحمل العرب على الدخول طوعا أو كرها فيما خرجوا منه وحسب، بل أقسم أن يثأر لمن قُتل من المسلمين، وأن يجعل من قتلوهم لغيرهم نكالا.
لأنه لم يترك وراءه أي حكومة تدير شؤون دولة الإسلام الفتية في المدينة، تقول الروايات السنية، خلفت وفاة النبي محمد، بوصفه قائدا روحيا وسياسيا للمسلمين، أزمة خطرة في دواليب هذه الجماعة الناشئة.
يومها، لم يكد الصحابة (أو معظمهم) يتغلبون على هذه “المحنة”، باختيارأبي بكر خليفة للمسلمين، حتى برزت عقبة أخرى أمام السلطة المركزية، في شكل اضطرابات قوية، أعقبت إعلان أبي بكر خليفة بعد وفاة النبي مباشرة.
الذي حدث، أن القبائل اهتاجت مخلفة فوضىً عارمة في أجزاء مختلفة من الجزيرة العربية؛ إذ راح كثير منها، وفق الرواية الإسلامية التقليدية، يعلن انفصاله عن المدينة… عبر التوقف عن أداء الزكاة، أو اتباع "أنبياء "آخرين.
حركة التمرد تلك، يطلق عليها في ذات الرواية اسم “الردة ارتبطت خلافة أبي بكر في التاريخ الإسلامي بعمليتين كبيرتين: قمع “ردة القبائل” هذه، وفرض الإسلام فرضا نهائيا وبالقوة؛ ثم إطلاق عملية “الفتح”.
في حين كانت هذه “الردة” ترتدي شكل تمرد على فريضة الزكاة، فإن القبائل كانت مستعدة لمواصلة ممارسة الصلاة… العنصر الديني لم يكن إذن هو الذي يضايق هذه القبائل”.
أبو بكر لم يكن يعلم حينها، أن موقفه المتصلب من “المرتدين” سيتحول داخل الحقل المعرفي السني، إلى سلطة مرجعية نافذة، يُستند إليها في بناء مواقف معادية واستئصالية من الآخر المخالف.
مفهوم “الردة” في التاريخ الإسلامي، يشير إلى تنصل القبائل في الجزيرة العربية من الإسلام بعد وفاة النبي… أما المفهوم اللصيق بها؛ “حروب الردة”، فإلى الحرب التي أخضع بها الخليفة الأول، أبو بكر، تلك القبائل للسلطة المركزية في المدينة.
يقول الأكاديمي الفلسطيني إلياس شوفاني، في كتابه “حروب الردة”، إن رمي تلك الحركات المتمردة بعد وفاة النبي بـ”الردة”، يرتكز على القناعة بأن الأخير نجح في هداية معظم تلك القبائل العربية إلى الإسلام في حياته.
تلك فكرة سال بشأنها مداد كثير، كما سنرى في الجزء القادم لكن، والحال أنها قناعة راسخة آنذاك، فإن ارتداد القبائل عن الدين بعد وفاة النبي، يضيف شوفاني، أوجب قتالها لهدايتها ثانية.
إجمالا، ارتبطت خلافة أبي بكر في التاريخ الإسلامي بعمليتين كبيرتين: قمع “ردة القبائل” هذه، وفرض الإسلام فرضا نهائيا وبالقوة؛ ثم إطلاق عملية “الفتح”، يذكر المفكر التونسي، هشام جعيط، في كتابه “الفتنة… جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر”.
على أن المؤرخين أولوا اهتماما ضئيلا لهاذين الحدثين، يقول إلياس شوفاني، إذ يبدو في المصادر أن خالدا بن الوليد يخطف جل الأضواء في هذه الفترة… حتى من الخليفة أبي بكر نفسه.
ما يهمنا أن “الردة” كانت، حسبما يذهب إليه جعيط، نقضا لتواصل الدولة بالذات، ذلك أن الرابطة التي كانت تجمع القبائل بالنبي، كانت تدرك كرابطة شخصية قابلة للنقض… وهو ما حدث عند وفاته.
وإذا كانت الدولة والدين وجهين لعملة واحدة، فإن تصدع الولاء للدولة… يعني عمليا الارتداد عن الإسلام.
ثم إنه، في حين كانت هذه “الردة” ترتدي شكل تمرد على فريضة الزكاة، فإن القبائل كانت، وفق جعيط، مستعدة لمواصلة ممارسة الصلاة.
ما نخلص إليه إذن، أن العنصر الديني لم يكن هو الذي يضايق هذه القبائل تماما، كما سنناقش ذلك في الجزء القادم
… كما يقول شاعر آنذاك من أصحاب المتنبئ طليحة الأسدي:
أطعنا رسول الله ما كان بيننا … فيا لعباد الله ما لأبي بكر
أيورثنا بكرا إذا مات بعده … وتلك لعمر الله قاصمة الظهر
واضح أن تلك القبائل كانت لَقاحا بشكل عام؛ أي أنها كانت تبغض السلطة، وها هي في ذعر صارخ… تتوجس من أن يعهد أبو بكر إلى ابنه بكر بالخلافة من بعده.
الذي حدث ببساطة، يقول المفكر العراقي هادي العلوي في كتابه “فصول من تاريخ الإسلام السياسي”، أن العرب أطاعوا محمد لكونه رسول الله… لا لكونه الحاكم !
أيا يكن، فموقف أبي بكر من “الردة”، يقول الأديب المصري طه حسين في كتابه “الشيخان”، يجلو خصلتين متناقضتين تماما للرجل.
كان أبو بكر منذ أن أسلم معروفا بلين الجانب ورقة القلب، يوضح طه حسين. لكنه، في مقاومته لـ”الردة”، لم يحمل العرب على الدخول طوعا أو كرها فيما خرجوا منه وحسب، بل أقسم أن يثأر لمن قُتل من المسلمين، وأن يجعل من قتلوهم لغيرهم نكالا.
أبو بكر، بعد نقاش مع عمر بن الخطاب حاول فيه الأخير أن يثنيه عما يرمي إليه حقنا للدماء ومنعا للحرب، أصدر حكما بتكفير مانعي الزكاة بل وباجتثاثهم…
كان صلبا في موقفه، مصرا عليه، ذلك أنه بناه على حديث (متفق عليه) قال إنه سُمع عن النبي يقول فيه:
“أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله”.
أبو بكر لم يكن يعلم حينها، يقول الباحث التونسي الأسعد النجار في مقاله “جدل الإيمان والسياسة في بواكير الدولة الإسلامية”، أن ذلك سيتحول داخل الحقل المعرفي السني، إلى سلطة مرجعية نافذة، يُستند إليها في بناء مواقف معادية واستئصالية من الآخر المخالف مثل ذلك، ما يقوله ابن تيمية فتواه في التتار: .
“كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة، رضي الله عنهم، مانعي الزكاة


“حُروب الرّدة”: حين كشف أبو بكر عن وجهه الآخر! 2/1 Sans_133