اللغة واللهجة بين الأم والوليدة
اللغة واللهجة بين الأم والوليدة 11020
في حياتنا اليومية نحتاج دائما إلى التواصل والتعبير، إلى التحدث و إقامة علاقات مع الآخرين عن طريق الحوار، إذ أصبحت حاجة لا مفر من إشباعها حتى لذى الأطفال والبكم، و لا يحصل هذا الإشباع إلا عن طريق اللغة، التي عنيت منذ القديم باهتمام عظيم لمكانتها البالغة ودورها الضروري، وقد حاول العديد من العلماء المسلمين وضع تعريف لها، بحيث أعطى كل تعريفا خاصة مستنبط من منظور تخصصه، فقد عرفها ابن خلدون على أنها فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام ، أما ابن جنى فقد قال عنها أنها عبارة عن “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضه”، إلا أنه لم يتوقف الاهتمام باللغة عند المسلمين فقط بل كانت مصب بحث الغرب كذلك بحيث رآها ديوي أنها “أداة اتصال وتعبير، تحتوي على عدد من الكلمات بينها علاقة تركيبية، تساعد على نقل الثقافة والحضارة عبر الأجيال”، ومنه فبإمكاننا تعريف اللغة بأنها مجموعة من الأصوات التعبيرية التي قد تكون إما عبارة عن مركب من الكلمات أو مجموعة من الرموز التي يُسعى من ورائها إلى التعبير عن فكرة ما.
اللغة واللهجة بين الأم والوليدة 1-153
ما نعلمه جميعا اليوم أن أغلب إن لم نقل كل اللغات نجد أنها قد تفرعت عنها عدة لهجات مختلفة، لكن ما لا يدريه سوى البعض منا أن كل لغة هي في الأصل لهجة، فنأخذ على سبيل المثال اللغة العربية، لغة الأدب والكتابة اليوم، كانت في زمن من الأزمان السالفة لهجة انحدرت من السامية الوسطية، بجانب السامية الشمالية واللغات الجنوبية العربية القديمة، والتي بدورها -السامية الوسطية- انحدرت من السامية الغربية التي يعود أصلها إلى السامية البدائية التي تعتبر من اللغات الآفرو-آسيوية البدائية إلى جانبها مجموعة من اللغات الأخرى من بينها الأمازيغية البدائية والمصرية البدائية وأيضا التشادية البدائية، إذا فاللغات تتطور عبر الزمن لتواكب تطور الإنسان ذاته، ومن مراحل هذا التطور أن اللغة تقوم بقفزة نوعية لتنتقل من كونها مجرد لهجة للتواصل بين مجموعة من الأشخاص يتشاركون في مجموعة من الأشياء، إلى أن تصبح لغة، تكتب وتنطق ولها مكانة أعلى، وهنا وبذكرنا مصطلح “اللهجة”، ف”اللهجة” في تعريفها مشتقة من فعل لهج، يلهج، لهوجا، أي اعتاد الشيء وأصبح مولعا به، ويعرفها الدكتور عبد الغفار حامد هلال فيقول أنها “طريقة معينة في الاستعمال اللغوي، توجد في بيئة خاصة من بيئات اللغة الواحدة “، واللهجة كانت منذ القديم وليست ظاهرة حديثة على ألسنة الشعوب، فحتى عند العرب وقبل أن تسود وتوحدهم عربية عصر الجاهلية، فقد كانت تتداول بينهم عدة لهجات مختلفة، من قبيل الحميارية والسبئية، وكما سلف الذكر فظهور العديد من اللهجات من رحم لغة واحدة يعود لعدة من العوامل، ولعل من أهمها العامل الجغرافي، فاللغة متى تواجدت على نطاق واسع مختلف التضاريس استحال الاحتفاظ بها كما هي لأمد طويل، ومن المؤكد أنه ستتولد عنها لهجات التي قد تكون فيما بعد لغات، فجغرافية الوسط في هذه الحالة تلعب دورا هاما، فاللهجة التي تنشأ في المناطق الصحراوية من الواجب أن تتميز أصواتها بالخشونة ذلك أن الأصوات في ذاك الوسط تنتشر على نطاق واسع دون أن يمنعها مانع، على عكس المناطق الحضرية التي تميل إلى الهمس وذلك لأن الأصوات تنتشر على نطاق أضيق، إضافة إلى هذا فإننا نجد أن العامل الاجتماعي له دخل في هذا الأمر، ف “الأصل في تشعُّب اللغات تشعب الجماعات، لأن اللغة بنت الاجتماع”، بحيث أنه في المجتمع الواحد نجد لهجات مختلفة، وتعتبر التفاوتات الطبقية هي السبب الأول، فنجد أن للطبيب لهجته المكونة من مجموع كلمات لا يمكن للحرفي فهمها لأنه أيضا له لهجته الخاصة ونفس الشيء بالنسبة للأثرياء لهم لهجتهم التي تميزهم عن غيرهم إذ تتضمن شيئا من الوقار والهيبة واحترام الذات، عكس الطبقة المتوسطة والفقيرة، ذلك أن الأثرياء يسعون إلى الحفاظ على مكانتهم المرموقة في المجتمع لكن هذا لا يعني أن الأثرياء يتكلمون بلسان واحد، فمن هذا الباب يدخل العامل الفردي ليجعل لكل فرد لهجته الخاصة التي توافق خصائصه النطقية والتعبيرية، من بصمة صوتية وعادات لغوية تظهر في عملية التلفظ، كذلك الشعور بالانتماء المهني والحرفي لدى الأفراد وأثر هذا القاموس اللغوي عند كل متكلم، إضافة إلى الأخطاء اللغوية والنطقية التي يقوم بها الأطفال، إذ ينطقون الكلمة بالمقلوب وهناك من الآباء من يشجع هذا لتسهيل النطق على الأطفال، كل هذه الاختلافات بين الأفراد تؤدي إلى خلق لهجات جديدة مع مرور الزمن لكن يمكن اعتبار كل ما سبق من العوامل أسبابا غير مباشرة لخلق اللهجات، والتي يقع الصراع اللغوي (احتكاك اللغات) خارج دائرته كسبب مباشر، ويكون هذا الاحتكاك بين اللغات إما عن طريق الغزو، والذي ينقسم إلى حالتين :
اللغة واللهجة بين الأم والوليدة 1-910
– الحالة الأولى: يكون فيها الغزاة قليلي العدد، بدأوا بممارسة حياتهم السياسية مع أهل الأر ض المغزوة بعد أن هدأت الحرب، ولقلتهم و ضعف أثرهم بدأ المستوطنون منهم يهجرون لغتهم الأصلية إلى اللغة الجديدة، (لغة السكان الأصليين لذاك البلد).
-الحالة الثانية: يكون فيها الغزاة كثيروا العدد، وتتبعهم هجرات للشعب الغازي، فيشاركون في الحياة المهنية والحرفية، ويحتلون الطبقة العليا والمتوسطة، في حين يحتل الشعب المغزو قاع الهرم الاجتماعي، فما تلبث لغة هذا الأخير مع اللغة الغازية في صراع إلا زمنا قصيرا، لتبدأ بالاندثار، وتصبح لغة الدخيل لغة العام و الخاص.
يتحقق هذا الصراع أيضا عن طريق هجرة شعب إلى أرض معمورة، دون غزو منظم تقوم به الجيوش وإنما الأمر منافسة في طلب العيش.
كما لكل فعل رد فعل، ولكل سبب نتيجة، فلهذا الصراع أيضا نتائج لايمكن أن تتحقق جميعها، إنما تتحقق نتيجة واحدة فقط، فإما أن تصمد اللغة الأصلية في وجه عدوتها (ولن تجد سبيلا إلى ذلك إلا في حالة توفرها على حضارة وثقافة قوية وأيضا بكثرة الناطقين بها)، وإما أن تعيشا هتان اللغتان معا في وسط واحد مما سيخلق لنا لهجة أو لهجات جديدة كنتيجة للصراع الدائم بين اللغتين، وإما أن تنتصر اللغة الجديدة، وفي هذه الحالة لا يعني أن اللغة الجديدة لن تتأثر باللغة الأصلية، بلى ستتأثر، إلا أن تأثيرها -اللغة الجديدة- سيكون أقوى على اللغة الأصلية ذلك أن لقوة التأثير والتأثر أسباب من بينها:
– الغلبة في الصراع و الانتصار في الحروب، والمغلوب في هذه الحالة يكون مولعا بتقليد الغالب خاصة إذا كانت لهذا الأخير حضارة وثقافة قوية وليس للمنهزم شيء من ذلك:
الهجرة القومية، والاستعمار الثقيل (الاستعمار الثقافي)،ولعل هذا ما حدث مع المغرب بعد الاستعمار الفرنسي، بحيث مارست عليه فرنسا استعمارا ثقافيا، فنرى أن “الدارجة المغربية” قبل الاستعمار، ليست هي نفسها “الدارجة المغربية” اليوم الغنية بالألفاظ الفرنسية، ونفس الأمر مع الجزائر أيضا.
لاحتكاك عن طريق المجاورة، التجارة، الحروب والعلاقات الثقافية والحضارية بين الشعوب.
اللغة واللهجة بين الأم والوليدة 1--276
إلا أن هذا لا يجعل الغلب للغة الغازية، فكي تكون لها الغلبة يجب أولا أن تكون لها حضارة وثقافة متجذرتين ويكون شعبها متحضرا راقيا، و أن تبقى غلبتها مع استمرار قوتها زمانا طويلا لبسط نفوذها، وأخيرا أن تكون هناك جالية كثيرة العدد والنفوذ تقيم بصفة دائمة في بلا د الشعوب التي غُلبت.
إذا فالآن بإمكاننا فهم أن بين اللغة واللهجة علاقة انسجام، فاللهجة هي أصل اللغة وفي الآن ذاته هي وليدتها.

بقلم: مينة حك