شبيبة القبائل : أسبقية تاريخية ... وتكتيكية !
يُقال أن لكل نجاح سرّ، أمر ينطبق على شبيبة القبائل التي تميزت عبر تاريخها المجيد بتألقها وتعملقها على الصعيدين المحلي والقاري، ليس فقط لتنظيمها الاداري المحكم واستقرارها فنيا، بل لأسبقية تكتيكية استطاعت أن تصنع من خلالها مجدا وتاريخا حافلا بالتتويجات، رافقه أداء رفيع المستوى، فنيا وتكتيكيا، بفضل مدربين ولاعبين تمكنوا من الإبداع وانجاح منظومات تكتيكية لم يسبقهم اليهم أحد محليا وحتى قاريا.
خطة الدفاع المسطح: الجـامـبــوجــات 1981-1990:
بداية التميز كانت بنجاح احدى المنظومات التكتيكية التي كانت شبيبة القبائل سباقة اليها على الصعيدين المحلي والقاري، من خلال الاعتماد على الدفاع المسطح وخطة التسلل في العصر الذهبي والسنوات الرائعة التي شهدها النادي بعد تتويجه بكأس افريقيا للأندية البطلة سنة 1981، تطور الفريق واستقراره على كافة الأصعدة، خاصة مع تواجد المدربين التاريخيين للفريق، خالف وزيفوتكو.
حتى وان لم تكن الشبيبة الفريق الوحيد الذي استعمل هذه المنظومة الدفاعية الحديثة في الجزائر وافريقيا، الا أن اسود جرجرة اشتهروا بتطبيقها المحكم، حتى صارت علامة فارقة ومكسبا هاما للفريق، كان يمكنه من التحكم في نظام الدفاع المتقدم والضغط العالي، والسيطرة الكاملة على المنافس.
ولأن اللاعبين كانوا دوما أداة أساسية في نجاح أي خطة، كان لقلب الدفاع الأسطوري للشبيبة رشيد أدغيغ دور محوري في نجاح تلك الخطة، بتحكمه في أساسياتها، وتسييره الجيد لدفاعه المكون من حفاف، لرباس وصادمي، مع جلب لمسة جديدة بالقدرة على بناء اللعب من الخلف، سواء بالتمريرات القصيرة أو حتى الطويلة التي كانت في منتهى الدقة، مما يجعل الكثيرين يجمعون على أن أدغيغ أفضل مدافع مر على تاريخ الشبيبة، وكان من بين افضل المدافعين في الجزائ، خاصة لفنياته العالية ودقة كراته، وهو أمر لكن شائعا لدى المدافعين، ما عدا مدافعين قلائل، كان أبرزهم فضيل مغارية الذي شارك أساسيا في مونديال المكسيك 1986، وهي السنة التي حققت فيها شبيبة القبائل افضل موسم لها في التاريخ.
خطة الدفاع المسطح جعلت من الشبيبة آلة هجومية حقيقية، خاصة في ظل الانسجام الكبير لعناصر الدفاع، رغم اختلاف خاصياتهم، لكنهم شكلوا رباعيا صلبا ومتكاملا، كان قاعدة أساسية للفريق الذي عرف بقوته على الأجنحة، خاصة مع الدور الكبير للظهيرين صادمي ولرباس، وهو أمر لم يكن شائعا أيضا في الجزائر وافريقيا ككل، حيث كان يقتصر صعود الأظهرة على منظومات لعب معينة اشتهر بها لاعبو أمريكا اللاتينية فقط، خاصة مع خطة 3-5-2 التي اشتهرت آنذاك (مونديال 1986)، بدليل تتويج المنتخب الأرجنتيني بالمونديال معتمدا على هذه الخطة.
ومن أبرز عوامل نجاح خطة الضغط العالي، اصرار خالف على اقحام لاعب يلعب بالرجل اليمنى على الجهة اليسرى من الدفاع، بالاعتماد على لرباس ومن ثم بوزار، لتمكينهما من التوغل والدخول الى الوسط والعمق كما يحدث حاليا في مركز الجناح الذي شهد طفرة حقيقية مع مرور السنوات، بجعل اللاعب اليساري يلعب على اليمين، واقحام صاحب الرجل اليمنى في منصب الجناح الأيسر، وهو نفس الامرغ الذي قام به ناصر سنجاق مع نسيم حملاوي الذي أدى أفضل موسم له في مسيرته خلال ملحمة لقب البطولة الوطنية 2003/2004، بلعبه كمظهير أيسر، رغم أنه لاعب وسط ميدان دفاعي، برز بفضل قدراته الفنية وسرعته، وقدرته على الدخول إلى العمق بالارتكاز على رجله اليمنى، رغم أنه كان في البداية حلا اضطراريا، ليكون اكتشاف الموسم بامتياز.
خطة المهاجم الوهمي : 2000/2001
لم تكن شبيبة القبائل سباقة فقط في تطبيق وانجاح خطة الدفاع المسطح والمتقدم خلال العصر الذهبي للجامبوجات، بل عرف النادي فترة رائعة بمنظومة لعب اعتمدت على المهاجم الوهمي، عوض اللعب بقلب هجوم حقيقي، في اطار خطة صارت موضة العصر، وعادت بقوة في السنوات الأخيرة على المستوى الأوروبي، واشتهر بها مدرب الانتر الحالي والسابق لروما سباليتي مع فرانشيسكو توتي الذي لعب هذا الدور وتوج هدافا للكالتشيو 2007، وتعملق بها غوارديولا الذي أخرج أفضل ما في جعبة ليونيل ميسي حين طبق هذا الفكر التكتيكي وأقحمه في منصب المهاجم الوهمي في حقبته مع برشلونة منذ موسم 2008/2009.
وان كان أصل هذا الأسلوب يعود الى سنوات السبعينيات بفضل الهولنديين وكرتهم الشاملة، فان الاعتماد على منصب المهاجم الوهمي عوض المهاجم الحقيقي لم يكن أمرا اعتياديا، خاصة في افريقيا والجزائر، لكن شبيبة القبائل تميزت بهذا الأسلوب بصفة اضطرارية ومن ثم إبداعية، وذلك خلال موسم 2000/2001.
في بداية هذا الموسم، اقحم المدرب نجم الدين بلعياشي منير دوب في مركز المهاجم الصريح، رغم انه جناح ايمن في الأصل، لكن إصابة صحراوي جعلت الفريق يعاني من غياب قلب هجوم حقيقي ينسي الجماهير في محبوبهم المتوفي حسين ڨاسمي، وتواصل البحث عن مهاجم حقيقي الى درجة تم فيها تجريب المدافع الحر إبراهيم زافور في مركز رأس الحربة، خاصة وان الدفاع كان في مأمن في ظل تواجد عكريش ودريوش، ولم يستمر الامر اكثر من جولة واحدة افتتاحية أمام شبيبة بجاية في تيزي وزو، أين تمكن زافور من تسجيل هدف الفوز في آخر دقيقة من اللقاء، لكن الأداء كان مهتزا ومتواضعا للغاية، وسط انتقادات لاذعة لهذا الخيار رغم الفوز.
وبعد أزمة عرفها النادي بالإقصاء من نصف نهائي كأس الجزائر امام وداد تلمسان (المنافسة كانت خاصة بالموسم الذي سبق وتواصلت الى غاية بداية الموسم الجديد)، حل الثنائي محي الدين خالف وناصر سنجاق مكان المدرب المقال نجم الدين بلعياشي، وكانت البداية امام الإسماعيلي المصري في مباراة الذهاب لنهائي كاس الكاف 2000، والتتويج بعدها باللقب في مباراة كبيرة بملعب 5 جويلية، وأداء جماعي ملفت، مع تطبيق رائع لخطة المهاجم الوهمي في الشوط الثاني من النهائي الكبير امام الدراويش، مع دخول عباسي في مكان مدان، حيث صنعت الشبيبة في شوط واحد أكثر من 6 فرص حقيقة للتسجيل، بنيت كلها بكيفية جمالية رائعة.
أمسك ناصر سنجاق بزمام الأمور بمفرده بعدها، وواصل الاعتماد على محمد رضا عباسي في منصب المهاجم الوهمي، حيث كانت الشبيبة تلعب بوسط ميدان ثلاثي مكون من بلقايد كلاعب ارتكاز، نازف وبن دحمان متقدمين على الجهتين اليمنى واليسرى، مع اقحام دوب كجناح أيمن، وموسوني كجناح أيسر، وترك الحرية كاملة لعباسي للتمركز كقلب هجوم حقيقي عند انهاء الهجمات، خاصة وأن الفريق كان يركز كثيرا على فتح اللعب والاعتماد على الأطراف، بصعود سليمان رحو وعزيز بن حملات، وقدرة نازف على صنع التفوق العددي في كل مرة من الجهة اليمنى، ليدخل دوب الى العمق مرفوقا بعباسي، وتواجد موسوني في القائم الثاني، كما أن تواجد بن دحمان ونازف وقدرتهما على استرجاع الكرات وغلق المساحات عند صعود بلقايد جعل من أسلوب الشبيبة فعالا من الجانبين الدفاعي والهجومي، مع تقديم أداء جماعي جميل جعل تلك الحقبة رائعة بكل المقاييس، بعدد كبير من اللاعبين القادرين على تأدية دورهم الدفاعي والهجومي وفق منظومة تكتيكية محكمة وحديثة.
وعرفت فترة اشراف سنجاق على الشبيبة انتصارات عريضة وكبيرة كانت جلها من تسجيل ثلاثي الخط الامامي، حيث سجل عباسي وموسوني حين فاز الفريق على المولودية في 5 جويلية، كما سجل دوب وعباسي في تيزي وزو أمام اتحاد الجزائر، وسجل دوب على مرتين وعباسي وموسوني أمام شباب بلوزداد عند الفوز عليه برباعية كاملة، أمر جعل الفريق آلة هجومية مرعبة، جعلته ينهي مرحلة الذهاب بطلا شتويا عن جدارة واستحقاق.
رحيل سنجاق وعودة خالف تغيير لم يشعر به أحد، بل تواصلت النتائج الباهرة والسيطرة الكاملة على البطولة، وتواصل العروض الممتعة التي جعلت الكل يجمع على أن اللقب لن يفلت من الشبيبة، قبل أن تقع مشكلة خالف وبن حملات، ورحيل المدرب الأسطوري للكناري، واحداث الربيع الأسود التي جعلت النادي ينسحب من المنافسة رسميا.
اعتماد خالف وسنجاق على عباسي في مركز المهاجم الوهمي أخرج أفضل ما لدى اللاعب، كما ان الحرية المعطاة لدوب وموسوني جعلت الشبيبة تهاجم بأكبر عدد ممكن من اللاعبين، في ظل النزعة الهجومية للأظهرة رحو وبن حملات، وتواجد نازف وبن دحمان خلف المهاجمين باستمرار، مع ضمان التغطية من جانب نازف عند صعود رحو، ومن بن دحمان عند صعود بن حملات، وتميز بلقايد في التغطية كلاعب ارتكاز، وفق سمفونية تكتيكية حديثة وممتعة نادرا ما نشاهدها في دورينا، و حتى على المستوى القاري مع كبار الأندية في القارة التي كانت تعتمد في تلك الفترة على قلب هجوم حقيقي، على غرار النجم الساحلي آنذاك الذي كان يملك الجزيري وكوني، والأهلي المصري مع خالد بيبو، والإسماعيلي مع جون اوتاكا، والترجي التونسي مع علي الزيتوني وغيرها من الأمثلة التي تؤكد ان شبيبة القبائل كانت السباقة الى انتهاج هذا الأسلوب طيلة موسم كامل، محليا وقاريا، قبل ان يتغير كل شيء في الموسم الموالي مع مجيء كمال مواسة واستقدام عبد الحميد برقيقة، ورحيل فوزي موسوني الى كريتاي الفرنسي، فتغير اسلوب الشبيبة بعدها، واختفت تدريجيا هذه الخطة من الساحة ككل، لنشهد حاليا عودة هذا النهج الى الواجهة من خلال كبار الأندية والمنتخبات في العالم


 شبيبة القبائل : أسبقية تاريخية ... وتكتيكية ! Sans_211



 شبيبة القبائل : أسبقية تاريخية ... وتكتيكية ! Sans_212