مسألة الهويّة الوطنية في الجزائر : من التلاحم الشعبي الي التوظيف الإيديولوجي ثم التوجّه نحو التعايش الوطني -1-

مسألة الهويّة الوطنية في الجزائر : من التلاحم الشعبي الي التوظيف الإيديولوجي ثم التوجّه نحو التعايش الوطني -1- 4120

مقدمة : لقد عانى الشّعب الجزائري لمدة قرون من ويلات الاستعمار المتعاقبة،بدءا ًبالرومان وصولاً الى الاستعمار الفرنسيّ، أفقدته سيادته و أُقصي عن المشاركة في بناء وتسيير الدولة ووضعِ أسسها ومعالمها، عملت جميعها على طمس هويته، و لكن رغم كل ذلك احتفظ بهويته من انتماء و لغة و دينٍ، و عرف وحدة و تكاملا شعبيا حقيقيا بعيدا عن الصراعات الإثنية و الطائفية. ولعلّ أول من خاض و وظف مسألة الهوية كان الاستعمار الفرنسي في اطار حملته الاستيطانية المبنية على سياسة “فرِق تسد”، فحارب العنصر العربي بالأمازيغي قبل ثورة المقراني عام 1871 ثم حارب الامازيغي بالعنصر العربي خلال القرن 19 وبداية القرن العشرين بعد ميلاد و تصاعد القومية العروبية بالمشرق بدعم فرنسيي ثم حارب العنصر العربي بالعنصر البربري بعد الحرب العالمية الثانية. فأولد بذلك صراعا لدى النخبة ثم انتقل الى الحركة الوطنية السياسية، إلا أن ذكاء مناضلي المنظمة الخاصة التى تولدت عن حزب الشعب الجزائري كان اكبر من دهاء الفرنسيين، لما ّتجاوزوا الجدل بإعلان حرب تحريرية جزائرية لا شرقية و لا غربية. فاِلتف الجميع حولها محققة الإنتصار المنشود، استرجعت الجزائر سيادتها بعد قرون من الإستبداد. لكن المجموعة التى استحوذت على السلطة عقب الاستقلال انتهجت نفس مسار السياسة الاستعمارية، فواجهت خصومها من المعارضين السياسيين و البربريين (قبايل، مزابيين وشاوية) بتبنيها سياسة الإقصاء و القمع باسم القومية العروبية في عهد الحزب الواحد. و بعد تبني الجزائر التعددية السياسية، واصلت على نفس النهج، فحاربت الامازيغية بالإسلاميين و العروبيين في اواخر القرن العشريين، كما واجهت الإسلاميين المتشددين ببعض السياسيين المدافعين عن الأمازيغية لإجهاض المخطط والمشروع الاسلاموي ومكافحة الارهاب، في اطار سياسية ” فرق تسد”. وشهدت بداية القرن الواحد والعشرين مغادرة العديد من الوجوه السلطة الفعلية في البلاد، الذين كانوا يلعبون بملف الهوية و وتر الجهوية منذ الاستقلال، وتراخي ايديولوجية القومية العربية، تزامن ذلك مع نضج الطبقة السياسية بعد فترة من تجربة التعددية و تقبلهم لبعضهم البعض على الصعيد السياسي، باختلاف انتماءاتهم الفكرية، كلها ظروف جعلت مسألة الهوية تأخذ مجراها الطبيعي بتقبل الجميع العناصر المشكلة للهوية الجزائرية. فماهي هذه التطورات و التداعيات التى عرفتها مسألة الهوية في الجزائر؟ للإجابة عن الاشكالية ،تعرضت
(أولا) للموقف الشعبي من الهوية أثناء الاستعمار الفرنسي ثم الى توظيف المسألة من طرف السلطة الاستعمارية ثم والنخب الوطنية في اطار الصراع الإيديولوجي، وبعد الاستقلال لم يفصل في المسالة فواصلت السلطة توظيفها و نتج عن ذلك عدة تداعيات
( ثانيا)، وبعد تجربة التعددية و حدوث تغيرات على مستوى اعلى هرم السلطة ، وجدت مسألة الهوية طريقا نحو الحل، بالاعتراف المتبادل لعناصر الهوية من سلطة و نخب فكرية وأحزاب سياسية، لتتوافق مع الطرح الشعبي (ثالثا).
1- التكامل الشعبي للهوية الجزائرية : إذا تأملنا في مكونات الشعب الجزائري الظاهرة بعيدا عن الإيديولوجيا و التعصب العرقي و الديني ، فإننا نتحدث عن ثلاثة عناصر تميز المجتمع ، وهي اللغة و الدين و العادات.
أ- ثنائية اللغة : يظهر حاليا من خلال الاحتكاك بالمجموعات السكانية من الشرق الى الغرب و من الشمال الى الجنوب وبين المناطق النائية من جبال وصحاري و بين الأرياف و البوادي و المدن أن اللغات التى يتحدث بها السكان هي الأمازيغية بلهجات متنوعة من منطقة الى أخرى، و العربية العامية بلهجات مختلفة من منطقة لأخرى ،أما بالنسبة للمتعلمين نجد منهم من يكتب و يقرأ بالعربية الفصحى و بدرجة أقل باللغة الفرنسية، أما اللغة الأمازيغية فيكتبها فئة قليلة بسبب شفويتها وعدم التكفل بها من قبل الدولة إلا بعد 1995، و ما يميز هذه اللغات وجود مفردات مشتركة بيها جميعا نتيجة للإحتكاك اليومي و العلاقات المتينة بين هذه الفئات السكانية. وإذا عدنا الى الوراء قرنين أو ثلاثة من الزمن نجد نفس لغات التواصل بين الجزائريين، و يقع الإختلاف في لغة الكتابة، فالكتابة لم تكن منتشرة في أوساط الشعب فالأدب و الشعر و الرواية كان شفويا لدى الناطقيين بالأمازيغية و كذا المتحدثين بالعامية، أما الكتابة باللغة العربية فقد كانت منحصرة لدى رجال الدين في المساجد و الزوايا و القضاة و الخوجات الذين نصبهم الأتراك لخدمة مصالح الدولة العثمانية، ماعدا فئة من السكان تعلموا العربية لحاجة دينية متمثلة في قراءة القرآن و حاجة ادارية و قضائية تتمثل في توثيق العقود وتحرير الأحكام بالخط العربي المشرقي أو العثماني أو الأندلسي. اما المناطق الناطقة بالأمازيغية، فلم تصلنا كتابات باللغة الامازيغية (التيفناغ)، ما عدا النقوش الحجرية المنحوتة بخط التيفناغ و الموروثة عن العصر الليبي والنوميدي، أما كتابة الامازيغية بالخط العربي فهذه الوظيفة كانت يستأثر بها رجال الزوايا من مرابطين و “أشراف”، و فيها نجد من العوام من يحفظ القرأن لكن دون القدرة على فهم اللغة العربية الفصحى أو كتابتها ، أو استنباط معاني القرآن.
ب- وحدة الدين : لقد اعتنق الشعب الجزائري الديانة الإسلامية بعد غزو شمال افريقيا فيما يسمى الفتح الإسلامي، فانتشر الإسلام تدريجيا في أغلب المناطق ليحل محل الديانة الوثنية و المسيحية واليهودية سواء بفعل العوامل السياسية (الفتوحات وقيام الدويلات) و التبادلات التجارية بين المشرق والمغرب والتجارة الداخلية ثم ازدهر بعد طرد الاندلوسيين من اسبانيا، و تم الاعتناء به طواعية بدليل أن أغلب المساجد والكتاتيب التى انشأت كان بناءها على يد السكان و تمويل الخيريين، ونفقات تسييرها و انتداب المشايخ فيها من اختصاص العرش أو الجماعة فأصبحت املاكا وفقية يشترك فيها الجميع. و لم يكن دور هذه المنشئات الدينية للعبادة فحسب، بل كان أيضا فضاءا لحفظ القرآن و الفصل في الكثير من القضايا والنزاعات.

مسألة الهويّة الوطنية في الجزائر : من التلاحم الشعبي الي التوظيف الإيديولوجي ثم التوجّه نحو التعايش الوطني -1- 4012

ت- تنوع العادات والتقاليد : لقد حافظ الشعب الجزائري على بنيته الاجتماعية رغم تعدد ويلات الاستعمار على مدى قرون، فنجد أن الكثير من المناطق ما تزال تحتفظ بالنظام القبلي و العشائري الذي امتدت جذوره في العصر النوميدي، و امتزج مع الإرث الاسلامي، فخلق نمطا اجتماعيا خاصا بالجزائر و شمال افريقيا . سواء من حيث تسيير القبيلة او المدينة، و النظام القضائي و العادات الاجتماعية، بدرجات متفاوتة، فتشترك أغلب المناطق في اللباس كالقشابية و البرنوس و العمامة للرجال وتنوع في الجبة والحلي للنساء بين المناطق، و تشترك في الأطباق التقليدية كالكسكس و الرغيف، كما تشترك في عادات الزواج و الختان و الاحتفال بيناير راس السنة الامازيغية و المولد النبوي و عاشوراء و الصيام و الاحتفال بالعيدين الكبير و الصغير، كما تشترك في النشاط الاقتصادي لا سيما الرعي وتربية المواشي مع اختلاف بين الشمال و الجنوب. أما الفلاحة فلكل منطقة خصوصياتيا الزراعية من السهول الى الجبال الى الصحاري، لكنها تتكامل من حيث الاحتياجات. أما بخصوص الفنون فنجد تنوعا ثقافيا ثريا و طبوعا غنائية مميزة لكل منطقة متزجة بين الفن الامازيغي و الاسلامي. اما حاليا ومع التطور والتمدن و الانفتاح على العالم الخارجي، اختلفت درجات المحافظة على هذا الموروث الثقافي والاجتماعي والتقليدي من منطقة الى اخرى، فبرزت انماط معيشة دخيلة، تتصارع من جهة بين الاصالة و العصرنة، و بين عادات المشرق العربي و عادات الغرب من جهة اخرى من خلق وملبس و مآكل و تزاوج و تربية و غيرها بفعل الايديولوجيا و الغزو الثقافي الديني و العلماني. فنستخلص مما سبق أن مشكلة الهوية لم تكن مطروحة على المستوى الشعبي الإجتماعي، فقد عرف تكاملا بين العناصر الثلاثة، فشكلت تنوعا لغويا و ثقافيا موحدا للشعب الجزائري.
2- الإستغلال الايديولوجي في مسألة الهوية في عهد الإستعمار الفرنسي : لم تقتنع فرنسا بالإستحواذ على أراضي و أملاك الجزائريين وقطع رقاب الملايين منهم فقط بل تجاوز ذلك الى محاولة هدم الشخصية الجزائرية من الوجود، من خلال محاربة اللسان الجزائري الناطق بالأمازيغية و العربية، ومحاربة العقيدة الإسلامية، و لم يكن ذلك فقط برفض اللغة الفرنسية و الديانة المسيحية فحسب، بل تجاوز ذلك بزرع الفتنة بين أفراد و مكونات الشعب الواحد عن طريق محاربة كل عنصر بآخر.
أ‌- جذور ايديوجية الهوية : لم تكن مسألة الهوية مطروحة قبل الاحتلال الفرنسي، فأغلب المخطوطات و الكتابات العربية و اللاتينية قبل الاستعمار لم ترد عن حدوث صراعات اثنية أو طائفية بين الجزائريين بسبب اللغة أو الدين، ولم تكن متفقة على تسمية موحدة للشعب الجزائري، فكثيرا ما نجد مثلا في المخطوطات والخرائط المرسومة باللاتينية و الإسلامية تسمية المنطقة بالشمال الافريقي (تسمية جغرافية)، بلاد البربر (تسمية إثنية)، بلاد المغرب (نسبة للإنتماء الاسلامي)، الجزائر… وكانت التسمية المشاعة و المتفق عليها في بداية الاحتلال هي (الأهالي المسلمين – indigènes musulmans) وهذا ما نجده في النصوص و الوثائق الرسمية للسلطة الاستعمارية. وما بعد أن بدأت فرنسا تبسط نفوذها على المنطقة، حتى ظهرت عدة تسميات تداولها الضباط العسكريين ثم المدنيين (من حكام و رجال الدين و الأكادميين)، أولها كان : الأهالي المسلمين ، ثم انتقلت الى التمييز بين مجموعتين اثنيتين هما : القبائل (لفظ القبائل كان يقصد به الأمازيغ بصفة عامة) و العرب، ثم العرب و البربر، وهذا ما ورد في كتابات العسكريين الأوائل كالجنيرال دوفيفي – Duvivier في سنة 1841 و العقيد دوماس – Daumas في 1844، اللذين يعتبران أن الجزائر مشكلة من عنصرين هما : العنصر العربي و العنصر القبائلي (البربري). و منهم من ذهب للبحث في الفوارق بين العرب و البربر من حيث الشكل و الذكاء و القدرة على الاندماج مع السياسية الاستعمارية. عملت هذه السياسة الاستعمارية على زرع بذور التفرقة بين ابناء الشعب الجزائري، بخلقها كل من الأسطورة البربرية و الأطروحة العروبية، و قد عبر عن هذه الفكرة العقيد كاريت ،الذي قال : ” من المستحيل ان يتحالف القبائل مع العنصر العربي، لأن العرب انتصروا على القبائل وطردونهم الى الجبال …”
ب‌- ظهور ايديولوجيا ” الأمة العربية” المتنكر لإنتماء الأمازيغي كبديل لـ” الأمة الاسلامية” :
إن فكرة العروبة كايديولوجيا أولتها فرنسا الاستعمارية بهدف البحث عن منافذ للسيطرة على شمال افريقيا و المشرق،ثم استغلتها لتعريب المناطق البربرية الثائرة ضدها كسياسة انتقامية،ولكن مع انتشار القومية العربية بالمشرق وظهور الحركات التحررية، خشيت فرنسا من قدومها الى الجزائر بعد الحرب العالمية الثانية فحاولت مقاومتها بالبربرية كما حدث في المغرب ثم الجزائر. ت‌-
أولا : العروبة فكرة فرنسية : ولعل أول من استعمل مصطلح “الأمة العربية” كان “نابليون الثالث” الذي احتك كثيرا بالأمير عبد القادر أثناء اقامته بفرنسا، لما أراد أن يؤسس لما يسمى ب”المملكة العربية “التى تمتد من المغرب الى المشرق تكون تحت وصايته سنة 1863، لكن هذه الفكرة لم يكتب لها النجاح بعد رفضها من طرف المجلس الفرنسي، وكانت الإدارة الاستعمارية الدنية أول من أنشأ ما يسمى ب : “المكاتب العربية – bureaux arabes” في الأقاليم وذلك بعد القضاء على ثورة المقراني 1871، ثم عمل على تعريب اسماء العديد من القرى و المدن في المناطق الأمازيغية ، و فرض ألقاب عربية على الأهالي في نفس المناطق سنة 1891، أي محاربة الأمازيغية بالعروبة. و تتجلى سياسة التعريب أيضا في السياسة المدرسية حيث الى غاية 1870 تم تأسيس أكثر من 30 مدرسة عمومية ابتدائية (فرنسية – عربية) و ثلاث ثانويات ( فرنسية – عربية) على نفقة الدولة، وهناك من المعمرين و الصحافة من انتقد هذا النوع من المدارس المختلطة. و بخصوص تعليم اللغة العربية اصدر جول فيري – Jules Ferry تعليمات سنة 1880 قائلا فيها “ليس في نيتنا تدمير اللغة العربية في الجزائر” وهي محاولة لإستدراك المعربين الى جنبهم ضد البربر. كما تقرر سنة 1895 منع التحاق الأهالي بمهنة القضاء إذا لم يكن قد دخل المدارس العربية، الامر الذي شجع الكثير من المتعلمين التوجه الى الازهر او القروين او الزيتونة والعودة بشهادات في العربية قصد توظيفهم من طرف الإدارة المدنية في القضاء و الأمن. و بخصوص الدراسات الجامعية تشير الاحصائيات لسنة 1914 أن عدد المجازين في اللغة العربية كان 33 مقابل 3 في اللغة الامازيغية.
ثانيا : التحول نحو الإيديولوجية العروبية : و مع بداية القرن العشرين بدأ ما يسمى بالقومية العربية في المشرق في الانتشار كمشروع لمواجهة بقيا الخلافة الاسلامية العثمانية في كل من السعودية و سوريا و مصر و لبنان، لا سيما بعد ظهور نخب جديدة من المشارقة في فرنسا و جونيف ترى فكرة الوحدة العربية panarabisme كبديل لمشروع الأمة الإسلامية الفاشل panislamisme. وحسب دعاتها أن المشرق يوحده اللغة العربية (العروبة) كعامل نهضة و يفرقه الدين الإسلامي بسبب وجود ديانات أخرى كالمسيحية و اليهودية، وهناك من الفرنسيين المهتمين من رأى أن القومية العربية ستصل لا محالة الى دول شمال افريقيا بسم الروح القومية، وتمكنت من عقد أول مؤتمر عربي سنة 1913 في باريس تحت نفوذ السوريون و اللبنانيين المقيمين بفرنسا، وقد صرح شكيب ارسلان : ” العالم العربي من الخليج الى الاطلسي بدأ يدرك وحدته العقائدية و الثقافية، وكانت العروبة و الوطنية تسيران جنبا الى جنب و أنهما ايديولوجيتين تعتمد على الوحدة اللغوية والعرقية و الدينية ” وكان شكيب ارسلان المقيم في جونيف ينشر دعايته من هناك من خلال مجلته “الوطن العربي – La nation arabe ” ذات الانتشار الواسع في المنطقة المغاربية. و قد نظم شكيب ارسلان مؤتمر القوميين العرب عام 1930 بمدينة القدس و ناقش هذا المؤتمر خطورة القضية البربرية بالمغرب، حيث كانت الجزائر الى ذلك العهد ، عكس المشرق يوحد شعبها الدين الاسلامي و ثنائية اللغة (الأمازيغية و العربية) في الأوساط الشعبية في المدن و الأرياف، و لكن نتيجة احتكاك بعض المثقفين الجزائريين بزملائهم بالمشرق و الجامعات الفرنسية تمكنت هذه النخب من الانضمام الى المشروع، لاسيما بعد الحرب العالمية الاولى وبدأت في نضالهما و التعبئة حول “مشروع العروبة” على حساب الانتماء الإمازيغي من أجل تجسيده في الجزائر كبديل للمشروع الاستعماري. من الرواد الاوائل لهذه الايديولوجية العروبية : التوفيق المدني، بن باديس، مبارك الميلي، الطيب العقبي، برعاية وغض النظر الإدارة الفرنسية…
ثالثا : العروبة اداة لمحاربة الأمازيغية بالوكالة : وقد عمل ابن باديس و اخوانه مرارا التأكيد منذ 1925 على التأكيد بإيمانهم بعروبة الجزائر، و شخصيتها العربية و الاسلامية عبر شعارات الامة والشعب و الوطن و القومية وهي الفاظ استعارتها من الصحافة العربية بالمشرق، وكان ابن باديس شديد التواصل مع شكيب ارسلان ويراسل ايضا مفتي القدس الشيخ امين الحسني رئيس اللجنة التنفيذية الدائمة للمؤتمر الاسلامي الذي تحول فيما بعد الى جامعة الدول العربية. وكانت المنشورات الصادرة عن الاصلاحيين تجمع دوما بين التأثير بمآثر التاريخ العربي الاسلامي ومآثر المغاربة والجزائريين، وقد ظل ابن باديس يكرر لتلاميذه : إن شمال افريقيا واحدة وهي وطن واحدا و وحيدا بفضل اللغة العربية والعقيدة و التاريخ والمصالح”، فربطوا الدين باللغة العربية الى حد اعتبار من لا يتكمل بها كفرا، وهذا ما ذهبت اليه جمعية العلماء في احدى مقالاتها : ” أن كل من يبتعد عن اللغة العربية يبتعد عن عبادة الله و أن كل من يبتعد عن عبادة الله حق عليه عذاب أليم”. وأخطر من ذلك أقامت بحملة ضد الكاتب والأديب محند سعيد بوليفة – Boulifa الذي كتب مؤلفه المشهور “تاريخ جرجرة” سنة 1925، واتهموه بتزيف التاريخ، ونفس الموقف ضد هنساي لاهماك – Hesnay-Lahmek الذي نشر كتاب “رسائل جزائرية” و الذي تناول فيه مآثر البربر الذين أنجبوا مسينيسا و يوغرطة و سانت اغسطس الذي كتب أنه : “يشعر بالانتماء الى هذا الاخير اكثر من الانتماء الى عقبة بن نافع”. ومن التصريحات العنصرية نذكر ما ذهب اليه توفيق المدني الذي صرح قائلا : “أن بلاد الزواوة اصبحت اليوم في خطر جسيم في نظر الدين و اللغة العربية وجب القيام بفتح ديني جديد”. وأمام تعاظم المدافعين عن الهوية البربرية، رد عليهم اين باديس قائلا : ” لقد وحد الاسلام منذ أكثر من عشرة قرون بين أحفاد مازيغ ويعرب “، أما أحمد توفيق المدني فقد سعى جاهدا في تفسير و تأويل مقدمة ابن خلدون للتأكيد أن أصل البربر والعرب واحد وهم أبناء عمومة. وفي هذا الإطار يمكن القول أنه و دون البحث في نوايا المثقفين العروبيين بخصوص دفاعهم المستميث عن العروبة و العربية، إلا أنهم عملوا جاهدين على طمس وانكار بل أحيانا محاربة الهوية الأمازيغية عن قصد أو عن غير قصد، كانت متوافقة مع الأطروحة التى نسجتها فرنسا، و المستفيد الأكبر كانت فرنسا الاستعمارية.
ث‌- ظهور النزعة البربرية لمواجهة المشروع العروبي : وظفت فرنسا المسألة البربرية بهدف استدراج القبائليين الى جانب المحتليين خلال فترة ما قبل انتفاضة القبائل عام 1871، ثم تراجعت بعد ذلك لصالح الاطروحة العروبية كرد فعل ضد القبائل الثائرين، ثم عادت الى المسألة بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945 نتيجة لتحالف القوميين العرب مع النازيين الألمان.
أولا : تفضيل العنصر البربري قبل ثورة فاظمة نسومر والمقراني حيث يعترف العديد المؤرخين أمثال شارل روبير اجرون بوجود مايسمى بالأسطورة القبائلية في سنوات 1837 الى 1857، والتى عمل بعض الفرنسيين ترويجها بدءا من 1863 لمواجهة مشروع “المملكة العربية” لنابليون الثالث، والتى كان الدكتور فاريني warnier يسميها الخوف من العروبة “العروبومانيا”. وعملت الادارة الاستعمارية في البداية بتزويد منطقة القبائل بتنظيم اداري خاص يرتكز على المؤسسات العرفية مثل : ثاجماعث، و تم ومنح السلطة القضائية الى ثجماعث، و القانون المطبق يتجسد في القانون العرفي، و كذلك منطقة المزاب وقد سعى بعض الضباط أمثال هانونتو الى تعميمه على كل بربر الجزائر. أما بخصوص اللغة الأمازيغية، فقد استحدثت الإدارة الفرنسية عام 1882 منحة دراسية للموظفين الراغبين في تعلم اللغة الأمازيغية، وفي عام 1885، تم انشاء كرسي للهجات البربرية بكلية الآداب بالجزائر.
ثانيا : محاربة الهوية الأمازيغية بالعربية والعروبية و سرعان ما تراجعت هذه الاسطورة، بعد أن تيقن للفرنسيين أن القبائليين قوم لا يمكن ترويضه، فألغت سنة 1890 نظام “ثجماعث “القضائي، وفرضت على السكان “القضاء الفرنسي”، و الذي قاطعه أهالي المنطقة و لمدة طويلة، كما ألغت النظام الاداري التقليدي لشيخ القبيلة. و قد كتب شارتريو في مجلة دراسات جزائرية سنة 1893” يوجد وهم يجب القضاء عليه، ويتجسد الوهم الذي افرز التمييز بين العرب و القبائل “و خلص القول أن ” فرط اهتمامنا بالقبائليين سوف تنتهي الى الاتجاه للشعب البربري بوعي تاريخي، و لا شيئ يمنعهم حينئذ من رمينا في البحر “. و عملت الادارة الاستعمارية في اواخر القرن 19 و بداية القرن 20 على فرنسة ما يمكن فرنسته و تعريب ما يمكن تعريبه، فبعد ان اصبحت الادارة مفرنسة، عملت جاهدة في المجال القضائي الى اصدار الاحكام القضائية بالفرنسية او العربية فقط بعد ان كان في وقت سابق تصدر بالامازيغية وفقا للقانون العرفي، وفي عام 1913، اعترف البروفيسوران Doutté و Guautier بتراجع مكانة اللغة البربرية والناطقين بها مقابل انتشار واسع للغة العربية لاسيما في منطقة الاوراس و القبائل، حيث يعترف الاستاذان أن تقهقر الامازيغية حل مكانها اللغة العربية وليس الفرنسية. وقد صرح مسؤول شؤون الاهالي بمدينة الجزائر في نفس السنة : ” ان الجزائر المسلمة تشكل كتلة، و لم يكن البربر اكثر قربا الى فرنسا من العرب” وهناك من قال حسب اجيرون ان الادارة الفرنسية اسلمت و تعربت. حيث لما بدأ تعاضم التيار العروبي في المشرق، و تبنيه من قبل عدد من قادة الحركة الوطنية في التيار الإصلاحي كإبن باديس و البشير الإبراهيمي والعربي التبسي من جمعية العلماء المسلمين و بعض قادة حزب الشعب الجزائري، تنبهت فرنسا لخطورة مشروع ” الأمة العربية ” بعد التطورات التى طرأت في المشرق من حركات تحررية تمكنت من القضاء على الخلافة العثمانية الاسلامية، فلجأت فرنسا الى محاربة هذه الإيديولوجيا القومية العربية عبر صحافتها بنشر دراسات تؤكد “أن الجزائر ليست عربية و لا تنتمي إليها و أن لا لهذه القومية أي حق طبيعي على شمال افريقيا و أن أصل سكانها أمازيغي “.
ثالثا : الأزمة البربرية أو أزمة معاداة البربرية (1948-1949) واما عند النخب الجزائرية فقد انقسمت على نفسها ، ففي تلك المرحلة اشتد تصاعد التيار العروبي لدى البعض معلنا و لائه للمشرق العربي متنكرا للبعد الأمازيغي للشعب الجزائري عبر الصحافة و الكتب و اشهرها مقولة الشيخ ابن باديس : ” شعب الجزائر مسلم و الى العروبة يتنسب” و ظهر الرفض و المقاومة لدى البعض الأخر لاسيما في صفوف الطلبة ابتداءا من سنة 1945، الذين كان أغلبهم من التيار الاستقلالي “حزب الشعب الجزائري” و منخرطي الكشافة الاسلامية الجزائرية عبر كتابة أناشيد و قصائد ثورية باللغة الأمازيغية تدعوا الى الإستقلال و اتحاد شمال افريقيا اشهرها ” Ekker a mis umazigh itij ennagh youli” بالعربية تعني ” استيقض يا ابن مازيغ شمسنا اشرقت”. وفي اواخر 1948، أرسلت قيادة حزب الشعب حركة انتصار الحريات الديمقراطية بيانا من 50 صفحة الى الامم المتحدة نصت فيه على أن ” الجزائر أمة عربية و إسلامية منذ قرون”، وقد قام مصالي الحاج بذلك تحت ضغط كل من عزام باشا امين عام الجامعة العربية و شكيب ارسلان اللذان يحلمان بانشاء امبراطورية عربية اسلامية. هذا التقرير لقي معارضة شديدة من قبل المناضلين التقدميين بالحزب الذين يرون ذلك تزييف للتاريخ، و ان الامة الجزائرية موجودة قبل مجيء الاسلام، وان الامازيغ موجودين قبل الاف السنين. وفي هذا الحراك ظهر سنة 1949 ما يسميه العروبيين بـ” الأزمة البربرية ” أو “أزمة “معاداة البربرية ” لدى دعاة البربرية. وتتلخص أصل الأزمة في توجيه بيان يحمل تسمية “الجزائر الحرة ستعيش “من طرف مجموعة من الطلبة منهم : رشيد على يحي، بلحوسين مبروك، هنين يحيى صادق هجرس، سعيد اوبوزار، الى قيادة حزب الشعب الجزائري يرفض فيها النص على ان ” الجزائر عربية” في وثائق حزب الشعب و يقترحون كبديل ” الجزائر جزائرية “. و قد استغل مصالي الحاج القضية لوضع حد لضغط المنظمة الخاصة التى تنادي بالاستعجال لتفجير الثورة و على رأسها حسيين أيت أحمد، فوقعت المحاكمة الشهيرة لحسيين أيت أحمد من طرف قيادة الحزب التى أدت الى تنحيته من على رأس المنظمة الخاصة بعد أن أعرب عن تضامنه مع موقعي البيان من حيث المبدأ و اختلافه معهم من حيث التوقيت، كونه في أتم الإستعداد لتفجير الثورة. وبخصوص تلك الأزمة علق عليها حسين أيت أحمد في احدى كتاباته قائلا : ” لقد فضلت أن تكون الجزائر عربية على أن تكون فرنسية، لكن وجدت من أرادها أن تكون فرنسية على أن تكون أمازيغية “.
رابعا : موقف بيان أول نوفمبر و مؤتمر الصومام من مسألة الهوية تقرر تفجير الثورة من طرف مجموعة من الشباب الذين كانوا مناضلين في حزب الشعب الجزائري و المنظمة الخاصة، رغم تكوين غالبيتهم من المدارس الفرنسية، إلا أنهم كانوا أكثر تصميما على التحرر و الاستقلال، و بفضل حنكتهم و احساسهم بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم، تنبهوا لعدم الخوض في الهوية و الايديولوجيات المرتبطة بها، و اكتفوا بالعنصر التى يشترك فيها كافة الشعب الجزائري و هو الإسلام ، حيث نص بيان أول نوفمبر على : ” اقامة جمهورية جزائرية ديمقراطية في اطار القيم الاسلامية “. أما المسائل الأخرى المرتبطة بالهوية فد تركت لما بعد الاستقلال، الأمر الذى أدى الى التفاف الجميع حول الثورة تدريجيا، و إن كان العروبيين في البداية كانوا حذرين من مشروع الثورة بسبب عدم معرفتهم لقيادتها. لكن حرب التحرير عرفت انزلاقات في مسارها لاسيما كان اغتيال العديد من المناضلين من أجل القضية الأمازيغية في ظروف غامضة، منهم : بناي وعلى، مبارك أيت منقلات، ولد حمودة، أوصديق …


الأمازيغ في المغرب الكبير.. الواقع والرهانات






https://www.inumiden.com/ar/%D9%85%D8%B3%D8%A3%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B2%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84/