«جعلني مجرمًا».. هل يتحكم «جين القاتل» في مصير الإنسان؟


«جعلني مجرمًا».. هل يتحكم «جين القاتل» في مصير الإنسان؟ 41143


هل يمكن لجينات الإنسان أن تحدد هويته ومصيره الأخلاقي؟ هذا السؤال كان ولا يزال محط اهتمام الدراسات الأكاديمية منذ سنوات طويلة، وقد نُشرت العديد من الدراسات العلمية التي تحاول الإجابة عن هذا السؤال من أكثر من منظور، وبأكثر من وسيلة تحليلية، وفتح هذا الباب لدراسة جينات الإنسان أكاديميًا وبشكل تفصيلي، في محاولة لفهم الإنسان لنفسه ودوافعه.
فهل يمكن أن يولد الإنسان بجين أو صفات وراثية تحدد مصيره بوصفه سارقًا مثلًا؟ أو عالم ناجح؟ هل البصمة الوراثية الموجودة (DNA) في جسم الإنسان لها دور أكبر مما نتخيل في تحديد طباعه، وشخصيته، واختياراته في الحياة، وتصرفاته تحت الشعور بالضغط النفسي؟
بعض هذه الأسئلة أُجيب عنها، والبعض لا يزال محل دراسة، وفي هذا التقرير نستعرض معكم آخر ما توصلت إليه الدراسة العلمية فيما يخص «جين القاتل» أحد الجينات التي قد تشكل خطرًا على حاملها وعلى المحيطين به، في محاولة للإجابة عن سؤال: هل يمكن أن يولد الإنسان قاتلًا بالفطرة؟
 «لست أنا.. إنها جيناتي»
قد ترى طفلًا يتصرف بعفوية ويتحرك جسديًا مثلما يتحرك أحد والديه؛ حتى لو كان هذا الوالد توفي قبل ولادة الطفل، في هذه الحالة أول ما يأتي في بالنا؛ هو وراثة هذا الطفل لجينات والده، والتي جعلته يرث عنه بعض الطباع ولغة الجسد، ووراثة الجينات وتمريرها عبر الأجيال؛ تعتبر حقيقة علمية لم يعد بالإمكان الشك بها، ولكن السؤال الذي يطرحه العلماء الآن؛ ما دور تلك الجينات في تكوين شخصيتنا؟ وتحديد مصيرنا في الحياة؟
فعلى سبيل المثال، جين «أوكسيديز أحادي الأمين» (MAOA) هو جين اكتسب في الأوساط العلمية أكثر من مسمى منها: جين المحارب، وجين القاتل، وجين الجريمة، وأطلق عليه هذه الأسماء لأنه يرتبط بالصفات العدوانية لدى البشر منذ لحظة ولادتهم.
وفي العام2009 أجريت دراسة بعنوان «Monoamine oxidase A gene (MAOA) predicts behavioral aggression following provocation» أثبتت أن من يمتلك هذا الجين ويتعرض لموقف مستفز يتصرف بعدوانية وغضب أسرع من الشخص الذي وضع في نفس الموقف ولكنه لا يمتلك نفس الجين، بمعنى أن هذا الجين يجعل الشخص أكثر عرضة لارتكاب أفعال عدوانية تحت الضغط، وليس معناه أن يكون عدوانيًا في المطلق.






وليست الدراسات وحدها من تناولت هذا الجين منذ اكتشافه، ولكن الدراما استغلت هذا الجين في الكثير من الأعمال الدرامية أيضًا، والتي صدَّرت صورة غير صحيحة ومقلقة لأصحاب هذا الجين، حتى أن بعض الناس يعتقدون بوجود هذا الجين في أطفالهم بمجرد ولادتهم.
ومن المسلسلات التي روجت لهذه الفكرة مسلسل «Defending Jacob» والذي أنتجته «آبل تي في» عام 2020، والمسلسل الكوري «Mouse» والذي عرض عام 2021، ودارت قصته حول افتراض خيالي بأن كوريا قررت قتل وإجهاض أي طفل تثبت تحليلاته أنه يمتلك هذا الجين، فما الذي أثبته العلم عن قدرته على تحديد طباع الإنسان أو احتمالية أن يكون مجرمًا وقاتلًا؟
هل يمكن أن يرتبط «جين القاتل» بعرق بعينه؟
في عام 2006 آثار «جين القاتل» الجدل بين العلماء، عندما كشف رود لي، الباحث في علوم الأوبئة الجينية في معهد علوم وأبحاث البيئة في ولنجتون بنيوزيلندا عن اكتشافه لهذا الجين، الأمر الذي آثار جدلًا واسعًا في ذلك الوقت، وقد جاء إعلانه عن هذا الكشف أمام مجموعة من العلماء المشاركين في مؤتمر لعلوم الجينات في أستراليا.






فريق كرة قدم يقدم رقصة الهاكا التراثية لشعب «الماوري»
أكد رود لي أنه عثر على «جين القاتل» للمرة الأولى أثناء دراسته لـ«الماوري» وهم السكان الأصليون في نيوزيلاندا، مؤكدًا أن «جين القاتل» يفسر سلوكهم العنيف والإجرامي، والذي توارثه هؤلاء السكان عبر الأجيال، ورغم ذلك أشار لي إلى أن الافتراض بوجود استعداد مسبق للسلوك الإجرامي لدى بعض المجموعات العرقية يبدو مثيرًا للجدل، وبسبب الاعتراضات التي جاءت من جانب قادة شعب «الماوري» حول هذا البحث، ظلت الأبحاث على هذا الجين لا تختص عرق بعينه وإنما تحاول البحث في جينات البشر بشكل عام.
ما «جين القاتل»؟ وما دوره في جسم الإنسان؟
في العام 2018 استطاع محامي الدفاع الخاص بالمتهم برادلي والدروب أن يحصل له على حكم القتل الخطأ وليس القتل المتعمد؛ بعد أن أطلق النار على صديق زوجته ثماني مرات، ثم هاجم زوجته بساطور، فمات الرجل ونجت الزوجة، لكن كيف استطاع المحامي أن يخرج موكله من هذه القضية بحكم أخف وطأة؟ الإجابة هي الجينات، إذ لجأ فريق الدفاع إلى طلب مساعدة الأطباء، و تبين أن القاتل لديه «أوكسيديز أحادي الأمين» (MAOA).






وتؤكد بعض الدراسات المنشورة أهمية الدور الذي يلعبه هذا الجين في تحديد اختيارات الإنسان وقت تعرضه لضغط نفسي، ولكن هناك بعض القلق في الأوساط العلمية أن يجري إساءة استخدام «جين القاتل» في النظام القضائي، ولذلك يعد هذا الجين من أكثر الموضوعات إثارة للجدل والاهتمام في الأوساط العلمية الآن.
إذ اكتشف العلماء أن «جين القاتل» (MAOA) هو المسئول عن إنتاج إنزيم يسمى «مونوامين أوكسيديز أ.» في جسم الإنسان، وهذا الإنزيم يعد جزءًا من عائلة الإنزيمات التي تعمل على تكسير جزيئات تسمى أحادي الأمين من خلال تفاعل كميائي يحدث في جسم الإنسان يعرف علميًا باسم الأكسدة، ومن بين الأمينات الأحادية التي يجري تكسيرها بواسطة «أحادي الأمين أوكسيديز أ» بعض المواد الكيميائية التي تعمل ناقلات عصبية، والتي من شأنها نقل الإشارات بين الخلايا العصبية في المخ.
وتتعطل النواقل العصبية عندما لا تكون هناك حاجة للإشارة، وفي هذا السياق يشارك هذا الجين في انهيار الناقلات العصبية مثل السيروتونين، والإبينفرين، والنورادرينالين، والدوبامين والتي من شأنها تنظيم الحالات المزاجية الإنسان، وعواطفه، وقدرته على النوم المنتظم، وشهيته للطعام، واستجابة الجسم للإجهاد، وإنتاج حركات جسدية سلسة.
وعندما تتعطل الناقلات العصبية بسبب «جين القاتل»، يصبح الشخص صاحب الجين أكثر عرضة للتصرفات العدوانية والعنيفة في حالة تعرضه لأي ضغط نفسي أو عصبي، إلى جانب أن صاحب «جين القاتل» بسبب الخلل في الناقلات العصبية السابق ذكرها؛ يكون مجهدًا وعصبيًا معظم الوقت.
الخلل الذي يسببه هذا الجين في عمل الناقلات العصبية؛ دفع الباحثين إلى ربط هذا الجين باحتمالية تبني سلوك إجرامي من طرف صاحبه، وقد نشرت نتائح تلك الدراسة عام 2015 تحت عنوان The criminal gene: the link between» MAOA and aggression» أو «الجين الإجرامي: الرابط بين MAOA والعدوانية».
وقدمت الدراسة أدلة على أن العوامل البيئية والاجتماعية متورطة في السلوك الإجرامي وليس الجينات وحدها، كما أشارت إلى معضلة أخلاقية فيما يتعلق بمحاكمة المجرمين، فبما أنه لا يمكن تحميل الأفراد المسؤولية عن جيناتهم فهل يجب تحميلهم المسؤولية عن تصرفاتهم والأفعال الناتجة عنها؟
 «علم التخلق».. الأمر لم يحسم بعد!
في سلسلة الأبحاث والعلوم التي تبحث عن دور الحمض النووي في تشكيل شخصياتنا؛ ظهر بما يسمى بـ«علم التخلق» أو «علم ما فوق الجينات» هو حقل علمي ناشئ يدرس التغيّرات التي قد تطرأ على جينات الإنسان؛ استجابةً للعوامل الخارجية في البيئة المحيطة له.
هذا العلم معني بالإجابة عن سؤال: «كيف تُحْدِث السلوكيات والبيئة تغيّرات تؤثر في آلية عمل المورثات والجينات؟ وعلى عكس التغيرات الوراثية، فإن التغيرات ما فوق الجينية قابلة للعكس، وهي لا تُغيّر من تسلسل الحمض النووي، بل تؤثر في طريقة قراءة جسدك لتسلسل الحمض النووي.
ويعد «علم التخلق» مجالًا بالغ التعقيد ولا يزال تحت الدراسة؛ ولكنه كشف نتائج مهمة لدارسي دور الجينات في تحديد شخصية وهوية الإنسان؛ وتتعلق تلك النتائج بأن كل إنسان يمكن لجسمه – بسبب تغيرات مختلفة- أن يقرأ الجين الموجود بداخله بشكل مختلف، ولذلك قد يصعب تحديد دوافع مرتكب الجريمة من طرف منْ يحمل «جين القاتل»، وهل ارتكب الجريمة تحت تأثير الخلل الكيميائي في مخه، أم أن جسمه يقرأ هذا الجين بشكل مختلف ولا يؤثر في عدوانيته؛ وقد اختار أن يقتل بإرادة حرة دون أي دوافع خارجة عن إرادته؟


«جعلني مجرمًا».. هل يتحكم «جين القاتل» في مصير الإنسان؟ Killer-4777939_1280


ولم يُحسم الأمر علميًا بعد، ولم يؤكد العلماء بشكل قطعي أن صاحب «جين القاتل» يكون بالضرورة قاتلًا إذا تعرض لضغط نفسي وعصبي، ولكن هذا أيضًا لم يمنع العلماء من الاستمرار في دراسة هذا الجين من أكثر من زاوية، وقد نشرت العديد من الدراسات العام الماضي 2021، والتي حاولت سبر أغوار دور «جين القاتل» في تكوين شخصية الإنسان.
وأجريت تلك الدراسات بغرض الكشف عن تأثير ما يمرون به أصحاب هذا الجين في فترة الطفولة والمراهقة، ونتائجه على شخصيتهم بعد التقدم في العمر، ومن هذه الدراسات؛دراسة نشرت في منتصف العام 2021 تحت عنوان «The effect of childhood maltreatment on college students’ depression symptoms: The mediating role of subjective well-being and the moderating role of MAOA gene rs6323 polymorphism» أو «سوء المعاملة في مرحلة الطفولة على أعراض الاكتئاب لدى طلاب الجامعات: الدور الوسيط للرفاهية الذاتية والدور الوسيط لجين MAOA».
كما نشرت دراسة أخرى خلال عام 2021 تحت عنوان «Gene expression analysis of MAOA and the clock gene ARNTL in individuals with bipolar disorder compared to healthy controls» أو «تحليل التعبير الجيني لـ MAOA وجين الساعة ARNTL في الأفراد المصابين باضطراب ثنائي القطب مقارنة بالضوابط الصحية»
وتوصلت تلك الدراسات إلى قدرة «جين القاتل» على التسبب في خلل كيميائي لصاحبه قد يدفعه لأن يكون أكثر عصبية من الآخرين، وقد يكون له دور في العدوانية الزائدة لدى؛ لكن تؤكد أيٍ من الدراسات أن صاحب هذا الجين بالضرورة سيكون قاتلًا أو مجرمًا، ولذلك يفضل بعض العلماء تسميته بـ«جين المحارب» وليس «جين القاتل» أو الجين الإجرامي.
 







https://sasapost.co/are-genes-our-destiny/