عن اللغة الأمازيغية المعيارية
الرد على خرافات التيار العروبي  1283
بقلم: جعفر مسعودي
◄ عن اللهجة و اللغة.
باختصار شديد، اللهجة – و هو مصطلح حديث – هي "جرس اللسان" أو الطريقة التي تُنطق و تُستعمل بها لغة ما. فجميع لغات العالم، و حتى المدوّنة منها، تختلف نطقا و تركيبا من منطقة لأخرى، بل و حتى من فرد لأخر من نفس "الدشرة". و هذا ليس من مساوئ اللغة كما يستغلها البعض للاستهزاء ببعض اللغات. فالإنجليزية مثلا ليست لغة متجانسة كما يضن البعض. فهناك إنجليزية بريطانيا و إنجليزية أمريكا و إنجليزية أستراليا، إلخ. و كل من هذه "الإنجليزيات" تنقسم بدورها إلى عدة لهجات محلية. فأي لغة إذن هي أصلا لهجة. و لأسباب تاريخية أو دينية أو سياسية أو اجتماعية، ترتقي لهجة ما إلى مصف لغة جميع الشعب، و قد تشمل هذه اللغة حتى غير الناطقين بها أصلا، و هو ما سنبيّنه لاحقا.
◄ جذور اللغة العربية الفصحى لفظا و حرفا.
تنحدر اللغة العربية الفصحى الحديثة لفظا من لسان/لهجة قبيلة قريش حيث ينتمي النبي محمد الذي أنزل علية القرآن. و لقد لعبت الفتوحات/الغزوات التي صاحبت نشر الاسلام و القرآن دورا كبيرا في انتشار تلك اللهجة، سواء بين العرب أو بين العجم. و لما استلزم تدوين القرآن بعد وفاة النبي، لجأ العرب أولا إلى أبجدية بدائية (دون التشكيل و التنقيط) كانت قد تطورت من النبطية التي تطورت بدورها من الآرامية. و بمرور الزمن، و تفاديا للبس، تمّ تعديل الكتابة بربط الحروف فيما بينها لتشكيل الكلمات و بإضافة التنقيط. علما أن أقدم نص للعربية القريشية هو نقش "النمارة" لأمرئ القيس ويعود تاريخه إلى القرن الرابع الميلادي.
و بظهور الدول العربية الحديثة بإدارتها و مؤسساتها و صحافتها، أصبح من الضروري إنشاء أكاديميات لتطوير اللسان القريشي ليصبح ما يسمى حاليا بالعربية الفصحى. و هي اللغة التي تعج بمفردات و عبارات مستحدثة أو مستعارة من اللغات الأخرى. و ما زاد قوة و هيمنة للعربية الفصحى التي يُنظر إليها على أنها مقدسة بسبب ارتباطها بلغة القرآن، هو ترسيمها و اجبارية تعليمها و استعمالها في شتى المجالات.
◄ جذور اللغة الأمازيغية لفظا و حرفا.
تنحدر اللغة الأمازيغية الحديثة الممتدة من واحة سيوة غرب مصر إلى جزر الكناري و جنوبا حتى دول الساحل من اللغة الليبية القديمة التي تنتمي إلى عائلة اللغات الأفرو-أسيوية. و حسب النقوش الصخرية و النصب المكتشَفة في مختلف المناطق من شمال إفريقيا، و التي يعود تاريخها حسب علماء الحفريات إلى القرن السادس قبل الميلاد، فإن الليبيون القدماء كانوا يكتبون لغتهم بأبجدية جد متجانسة رغم المساحة الشاسعة التي كانت تغطيها و التي فرضت بعض التعديلات أو الإضافات المحلية. و كانت هذه الكتابة متواصلة إلى أن تعرضت شمال إفريقيا إلى الغزو العربي-الإسلامي، حيث انقطعت في الشمال و بقيت في الجنوب عند الطوارق الذين يسمونها بالتيفيناغ.
و بسبب تشابه جذور الكلمتين "تيفيناغ" و "فينيقية"، راح العروبيون مباشرة نحو خلاصة مفادها أن الأمازيغية ليست إلا لهجة من لهجات الفينيقية و أن حروفها ليست إلا أبجدية فينيقية معدّلة. فلنفترض أن التيفيناغ مقتبس من الأبجدية الفينيقية، فهل هذا يبرر عروبة الأمازيغية و الأمازيغ؟ علما، حسب المختصين، أن الكتابة الفينيقية هي مصدر بنسبة حوالي 95 % للأبجدية الإغريقية و اللاتينية و السلافية. فلماذا لم يقم العروبيون بإلصاق صفة العروبة للإغريق و الرومان و السلاف؟ ضف إلى هذا أن أم الأمازيغية الحديثة، أي الليبية القديمة، كانت السباقة في الظهور في شمال إفريقيا بدليل انتشارها الواسع في كل الاتجاهات، كما برهنه علم الآثار و الحفريات، عكس اللغة الفينيقية الدخيلة التي احتلت السواحل و لم تتوغل جنوبا. بل باستثناء حفنة من الكلمات الفينيقية التي بقيت حتى اليوم في الأمازيغية، مما يدل على أن التواجد الفينيقي في شمال افريقيا لم يكن أصيلا و لا طويلا، فإن مفردات اللغتين كانت مختلفة تماما و لا تزال اللهجات الأمازيغية الحالية تثبت ذلك مقارنة باللهجات العربية التي لها صلة بالفينيقية. و كذلك الأمر بالنسبة للأبجدية الفينيقية و التيفيناغ، إذ إن نظرنا فيهما عن كثب، فلن نجد أكثر من 3 أحرف متشابهة شكلا و نطقا، مما يدل على أن الحرف الليبي و نسخته الحديثة التيفيناغ أصلي مع بعض التشابه قد يكون تأثيرا أو صدفة.
في الواقع، فيما يخص التشابه الذي يستغله العروبيون لأغراض إيديولوجية، إن انطلقنا من فكرة انبثاق كل لغات البشرية من لغة واحدة، باعتبار انبثاق الإنسانية من زوج واحد من البشر، فإنه من الطبيعي جدا أن تتشابه لغات العالم في المفردات و القواعد و النطق و الأبجدية، كما هو الحال في نمط الحياة و العقيدة و أمور أخرى.
◄ عن الأمازيغية المعيارية.
بداية، لكي يفهم القارئ كيفية ظهور ما يسمى باللغة المعيارية، دعونا نستدل ببعض اللغات مثل الفرنسية و الصينية و الإيطالية و العربية. فتسمية "الفرنسية" (قديما: الفرانسوي/الفرانسيان) مشتقة من "الفرانك" و هو اسم سكان الأصليين لشمال فرنسا حيث العاصمة الفرنسية الحالية، باريز، معقل الطبقة المثقفة البرجوازية. ففي عام 1539 الميلادية، قام الملك فرانسوا الأول بفرض لهجته الباريزية على المناطق المجاورة التي غزاها و استولى عليها لتوسيع مملكته. و بمرور الزمن، أصبحت لهجة الباريزيين اللغة الموحدة/المعيارية التي تُستعمل اجباريا في الإدارة و المدرسة و التعاملات الرسمية الأخرى في كامل التراب الفرنسي. تقريبا نفس الشيء حدث مع اللغة الصينية، "هان يو"، التي هي أصلا لهجة أهل العاصمة بكين/بايجين حيث مقر الإمبراطور و الطبقة العليا من الموظفين و العسكريين. للعلم، لأسباب عدة، لم يتم ترسيم لهجة "هان" البكينية لتصبح لغة وطنية لجميع الصينيين إلا في عام 1956. و فيما يخص الإيطالية، فهي منبثقة من اللهجة التوسكانية المتحدث بها في منطقة فلورانسا، مهد الأدب الإيطالي الذي كان يمثله الشاعر و الكاتب و المفكر و السياسي الشهير دانت أليغييري. أما بالنسبة للغة العربية، فلقد سبق و أن تحدثنا عنها (ارجع إلى الفقرة الثانية "جذور اللغة العربية الفصحى لفظا و حرفا"). ما يمكن أن نستخلصه فيما سبق هو أن كل لغات العالم كانت أصلا لهجات جهوية شفوية ثم تطوّرت إلى لغات وطنية رسمية مكتوبة بفعل الإرادة السياسية أو عامل البريستيج الذي منحه إياها كونها لسان الملوك أو النخب أو الأنبياء، إلخ.
و الآن لنطرح السؤال التالي استنادا إلى ما سبق عرضه: هل يمكن لأحد اللهجات الأمازيغية أن ترتقي لمرتبة اللغة المعيارية بفعل عامل من العوامل التي ساهمت في تحوّل اللهجات القريشية و الباريزية و البيكينية و الفلورانسية للغات العربية و الفرنسية و الصينية و الإيطالية؟ طبعا نعم. ففي الجزائر، و لا ينكر هذه الحقيقة إلا الجاحد، تعتبر القبائلية الركيزة الأساسية للأمازيغية المعيارية. فلبلاد القبائل الفضل الأكبر في احياء الأمازيغية و في زرع الوعي الأمازيغي في شمال افريقيا بنضالها و تضحياتها منذ الأربعينيات. فهم الرواد في انجاز بحوث لغوية عن الأمازيغية و تأليف كتب و قواميس و مجلات بالقبائلية. و هم الأوائل من امتلكوا إذاعة (القناة الثانية) منذ الستينيات و قناة تليفزيونية (BRTV) منذ التسعينيات. بل لولا "إضراب المحفظة" الذي دعا إليه الـMCB عام 1994 لما تمّ ادراج الأمازيغية في المنظمة التربوية الجزائرية و لما تمّ لاحقا فتح معهد للغة الأمازيغية في جامعة تيزي وزو ثم أخر في بجاية حيث تخرّج جيش من المعلمين أوصلوا صوت القبائلية لعدة مدارس من مختلف مناطق البلاد. و حاليا فالقبائل هم الأكثر استعمالا للقبائلية على الإنترنيت و أكثرهم استغلالا لتكنولوجيا الاعلام و الاتصال (TIC) لترجمة المواقع الإلكترونية إلى القبائلية و خلق تطبيقات و انجاز فيديوهات تعليمية بالقبائلية. و هذا دون أن ننسى أن الأمين العام لـHCA الذي يؤطر و يرافق عملية تعميم الأمازيغية في الجزائر هو قبائلي.
و لمروجي فكرة "قبلجة الأمازيغية" سعيا لخلق فتنة بين الأمازيغ، أقول أن القبائلية في مشروع تطوير لغة أمازيغية موحّدة/معيارية ليست إلا إطارا لابد منه للانطلاق. فزيادة على أن القبائلية تشارك اللهجات الأمازيغية الكثير من المفردات و القواعد، فهي تستعير منها كلما دعت الضرورة لذلك، مما يساهم في التقارب بين القبائلية و اللهجات الأخرى و يعمل على زيادة نسبة التفاهم بين أمازيغ مختلف المناطق. ضف إلى هذا أن المشروع لا يهدف للقضاء على اللهجات الأخرى، إذ بإمكان كل منطقة أن تعمل على تطوير لهجتها لتصبح لغة أمازيغية جهوية/محلية معترف بها، كما هو الحال في عدة بلدان العالم مثل فرنسا حيث "الباسك و البريتونية و الكورسيكية و الألزاسية"، إلخ تعتبر لغات جهوية للمتحدثين بها الحق في تدريسها/تعلمها في المدرسة حفاظا على الإرث اللغوي لكل منطقة.
و للمشككين في ثبوت تسمية "الأمازيغية" في الواقع، أقول لهم أن أهالي الأطلس بالمغرب يسمّون لغتهم منذ الأزل بـ"تَمازيغت". و في الجنوب، عند الطوارق، تسمى الأمازيغية بـ"تَماهق، تَماجق، تَماشق" حسب كل منطقة. و هذه التسميات لا تختلف كثيرا عن التسمية الأولى، إذ هناك فقط تحوّل /ز/ الشمال إلى /ه، ج، ش/ الجنوب، زيادة لما يسمى في اللسانيات بالإدغام بين /غ/ و /ت/ الذي نتج عنه /ق/. و يتضح ذلك جليا عند المقارنة: تَمازيغت / تَماهغت، تَماجغت، تَماشغت. علما أن تسمية اللسان الأمازيغي مشتقة من اسم جد الأمازيغ المسمى "مازيغ"، كما ورد في مقدمة ابن خلدون، و "مازيكس" و "مازيس" في كتب الإغريق والرومان، و "ماشيوش" في جداريات مصر القديمة.
و في الختام، للذين يعيبون على الأمازيغية كونها تُكتب بـ3 أحرف مختلفة، فنحن نقول أن كل لغات العالم قد مرّت بمثل هذه المرحلة حيث الكتابة غير مستقرة. فالكردية مثلا تُكتب حاليا بحرفين، عربي معدّل و لاتيني. و كانت اللغة التركية تُكتب بالأبجدية العربية قبل أن يتبنى الأتراك الحرف اللاتيني. أما اللغة اليابانية، فهي تُكتب حاليا بثلاثة أنظمة كتابية: الـhiragana، الـkatakana، و الـkanji. إذ أن الأولى و الثانية هي عبارة عن كتابة مقطعية (syllabaire) و تستعمل للكلمات اليابانية؛ أما الثالثة فهي عبارة عن كلمات تصويرية (idéogrammes) و تُستعمل لكتابة الكلمات المستعارة من الصينية.
إذن، فاللغة الأمازيغية ليست استثناء في هذا الأمر. و نحن نتوقّع أن ينتصر الحرف الأنسب و الأكثر استعمالا فيتعمم ليفرض استقرار الكتابة في آخر المطاف.



________________________________
المصادر الإلكترونية:
- عن اللهجة و اللغة:
http://geoconfluences.ens-lyon.fr/glossaire/langues
- عن اللغة العربية:
https://fr.wikipedia.org/wiki/Histoire_de_l%27alphabet_arabe
- عن التيفيناغ:
http://www.inalco.fr/.../alphabet-berbere-histoire-statut...
- عن ظهور اللغة الأمازيغية:
https://www.eurekoi.org/date-dapparition-de-la-langue...
- عن أصل تسمية "أمازيغ"
https://www.scribd.com/.../1324.../Etymologie-du-mot-Amazigh
- عن الأمازيغ:
https://www.axl.cefan.ulaval.ca/afrique/berberes_Afrique.htm
- عن تحوّل الإيطالية من اللهجة إلى لغة:
https://bravissimi.org/.../origine-evolution-langue.../
- عن للغات الجهوية في فرنسا:
https://fr.wikipedia.org/.../Langues_r%C3%A9gionales_ou...
- عن ظهور اللغة الفرنسية:
https://www.1jour1actu.com/.../comment-est-nee-la-langue...
- عن اللغة الصينية:
https://studycli.org/fr/learn-chinese/languages-in-china/
- عن إضراب المحفظة في بلاد القبائل:
https://www.djazairess.com/fr/lexpression/75506
- مثال عن مجموعة فيسبوكية عن/بالقبائلية:
https://www.facebook.com/groups/D.Messaoudi
https://www.facebook.com/malek.houd
- فيديو عن مجموعة من مهندسين إعلاميين قبائل يعملون في ترجمة المواقع و التطبيقات، إلخ.
https://www.youtube.com/watch?v=g0_3wQzIK_0
- عن الكتابة في اللغة اليابانية:
https://www.axl.cefan.ulaval.ca/asie/japon-2langues.htm