لاشك أن الاعتراف باللغة الأمازيغية وترسيمها في الدستور حدثٌ كبير يجب فعلا أن يتحول إلى عيد وطني يحتفل به الجميع. أعرف أن ثمة أفرادا معروفين يعارضون هذا الاعتراف والترسيم، وهؤلاء قلة ولا يمثلون الشعب الجزائري وطموحاته في الاستقرار، ونزع فتيل الصراعات التي لا تجدي نفعا وتؤخر البلاد وتسيء إلى سمعتها، وتوفير الأسباب لتعميق الوحدة الوطنية، وجعل الجزائر واحة للتقدم الثقافي والاقتصادي والاجتماعي والنضج السياسي.

إلى جانب هذا، فإن هذا الحدث قد كشف عن شيء مهم يتميز به الجزائريون وشخصيتهم القاعدية، وهو الترحيب بكل ما يخدم الوطن ويُبعد عنه شبح التناحر؛ إذ لم نشاهد أي مظاهرة صغيرة أو كبيرة تعارض ترسيم اللغة الأمازيغية، وأعتقد أن هذا درسٌ ينبغي أن يتعلم منه أولئك المعروفون بتزمّتهم وتوقع الأسوأ، وأقصد هنا تلك الشلة التي تنشر الدعاية المغرضة التي يتلخص مضمونها في أن المعربين أو العرب لا يريدون الخير للغة والثقافة الأمازيغية، أو أنهم يحاربون وجودهما، أو أنهم مستعدّون لرفع الهراوات لضرب كل من يزكي هذا الاعتراف والترسيم.

وبهذا الخصوص، ينبغي أن ندرك أن تأخير الاعتراف باللغة الأمازيغية قد ساهم فيه، منذ الاستقلال، مسؤولون أمازيغ كانوا رؤساء وزراء، ووزراء، وشخصيات سياسية لها نفوذٌ في الدولة وهم معروفون لدى العام والخاص. نعم لقد أدار هؤلاء بالظهر للغة الأمازيغية ولم

يقوموا بأي مبادرة تُذكر من أجل الاعتراف بها وتجنب التطاحن في البلاد.

هل مقاصد هؤلاء هو الأمازيغية لغة وثقافة حقا؟ أم أن هدفهم الحقيقي هو استخدام هذه اللغة والثقافة كحصان طروادة الخشبي لإخفاء بداخله أسلحة وجنود الاستعمار الفرنسي وهي من دون شك اللغة الفرنسية؟ إن هؤلاء ينسون ربما أن الاستعمار الفرنسي لم يبنِ ولو مدرسة واحدة طوال قرن وثلاثين سنة لتعليم الأمازيغية.

من الواضح الآن أن المسؤولية قد صارت ثقيلة بالفعل، وأن المهمة قد تبدو أكثر صعوبة من ذي قبل لأن ترقية اللغة الأمازيغية وإحياءها، وجعلها لغة العلوم، والفكر، والتقنية، والفنون الجميلة، والآداب الرفيعة، وشتى المعارف… يتطلب تكاتف الجهود، والدعم المالي، والبحث العلمي، وتفعيل الترجمة، والشروع في الاتفاق على الحروف التي ستُكتب بها، وتوحيد اللهجات التي سيثري قاموسُها اللغة الموحّدة، وفي إنشاء المجلات والصحف الناطقة بهذه اللغة.

ولكن ينبغي أن ندرك أن عملية إحياء وتطوير أي لغة تخضع لشروطٍ كثيرة، وفي مقدمتها بناء محيط لغوي في القرى والمدن الصغيرة والكبيرة يكون منسجما، ويترافق بسلاسة مع اللغة العربية بما يخدم رفاهيتهما معا. إن انعدام المحيط اللغوي يجعل اللغة تُفرغ الذاكرة الثقافية من محتواها.

إنني أقول هذا لأن اللغة الفرنسية في ولايتي التي تسمى خطأ تيزي وزو، وبجاية، ومنطقة الأوراس مسيطرة، ونراها تطلّ برأسها وأذنيها في المحلات المختلفة بما في ذلك مقاهي الأنترنت، ومعاهد التعليم التابعة للقطاع الخاص، وحتى اللاصقات التي تُلصق بالسيارات، وبالحافلات وهلم جرا. والأدهى والأمرّ هو أن علامات الطرق في هذه المناطق المذكورة لا ذكرَ فيها للغة الأمازيغية، أما أسماء القرى التي تُرفق بهذه العلامات فأغلبها مكتوبٌ بالفرنسية، وفضلا عن ذلك فقد تعرضت هذه التسميات والأسماء للتحريف حيث أن ثيزي وزو (التي اسمها الحقيقي هو ثيزي أوززو) صارت تُكتب بالفرنسية تيزي أوزو، ومنطقة أثمليكش صارت بني مليكش، وأث يني أصبحت أيضا بني يني الخ.

إن تحريف هذه الأسماء هو طمسٌ عنيف لهويتها، علما أن أسماء الأمكنة، والقرى والمدن، والمعالم التاريخية، وألقاب الناس هي في الواقع جزءٌ مفصلي من الذاكرة التاريخية والثقافية. إن هذا الطمس والتلاعب يحدثان أمام، وبمباركة، فصيل من دعاة الأمازيغية الذين يتنزّهون منذ سنين على الموت البطئ للغتهم. وهنا نتساءل بوضوح: هل مقاصد هؤلاء هو الأمازيغية لغة وثقافة حقا؟ أم أن هدفهم الحقيقي هو استخدام هذه اللغة والثقافة كحصان طروادة الخشبي لإخفاء بداخله أسلحة وجنود الاستعمار الفرنسي وهي من دون شك اللغة الفرنسية؟ إن هؤلاء ينسون ربما أن الاستعمار الفرنسي لم يبنِ ولو مدرسة واحدة طوال قرن وثلاثين سنة لتعليم الأمازيغية. مثلا، في الأسبوع الماضي سافرت من الجزائر على الطائرة الفرنسية إلى باريس، وكانت اللغات التي قُدمت لنا بها الإعلانات الخاصة بالطقس، ووجبة الأكل، وكيفية استعمال وسائل النجدة وغيرها.. هي الفرنسية أولا والانجليزية ثانيا وتلتهما اللغة العربية باحتشام، ولكن لا ذكر للغة الأمازيغية إطلاقا رغم أن بعض عشاق “مامَا” فرنسا يزعمون زورا وتغليطا أنها حامي حمى الأمازيغية. وهنا أتساءل أيضا: ماذا فعل المسؤولون في المحافظة السامية للغة الأمازيغية وللثقافة الأمازيغية حتى الآن ماعدا الانتفاع بالمناصب، والظهور في الفضائيات التلفزيونية، والشقشقة في الإذاعة؟ لماذا لم تقوم بتنفيذ برنامج ترجمة الشعر الأمازيغي والتراث الغنائي الأمازيغي والسرديات الأدبية الأمازيغية، التي تُسجن جميعا ودائما في زنازين الشفوية، إلى اللغات الحية بما في ذلك اللغة العربية للتعريف بهذا الموروث المهمّ في العالم باعتباره جزءاً عضوياً من التراث الثقافي الوطني؟ أين هو إحياء معالم المعمار الأمازيغي المغمور؟ ولماذا لم يتم إبرازُه في البنايات التي يُفرض عليها تقليد المعمار الغربي تقليدا مشوّها فصار يبدو للناس وكأنه شبح ٌكسيح وقبيح ومدمر للذوق والخيال؟ أين هي الموسوعات، والقواميس بالأمازيغية التي تضم بين دفتيها أسماء مختلف أشياء الطبيعة، والمفاهيم والمصطلحات الفكرية والعلمية، والمهنية، والفنية، والتقنية

وغيرها كثير؟ ولماذا هذا الإهمال وإدارة الظهر؟

التشبّث بالحروف اللاتينية موقفٌ رجعي متخلف، وهو حنين مكشوف إلى الاستعمار الروماني القديم، والفرنسي المعاصر معا، وأن دعاة الحروف اللاتينية هم في الأساس ضد الهوية الأمازيغية بالدرجة الأولى، والهوية الجزائرية الكلية.

إن ساعة الجد قد دق ناقوسها حقا، ولابد من الانطلاق في تجاوز النعرات القديمة، والانتقال إلى مرحلة الإبداع حتى ننزع عنا تهمة رحالة أنتروبولوجي إنجليزي كتب كتابا بعنوان “المنزل البربري” أثناء زيارته للجزائر وقال فيه إن “الأمازيغ مثابرُون حقا ولكنهم لا يقاوِمون إلا بالتقسيط”.

أرى أن التشبّث بالحروف اللاتينية موقفٌ رجعي متخلف، وهو حنين مكشوف إلى الاستعمار الروماني القديم، والفرنسي المعاصر معا، وأن دعاة الحروف اللاتينية هم في الأساس ضد الهوية الأمازيغية بالدرجة الأولى، والهوية الجزائرية الكلية.


يتحدثون عن الإسلام ويحاربون لغة الله Sans_t45