حين شكل ابن خلدون الحلقة الضائعة بين التاريخ الإغريقي وحداثة "الحوليات"
حين شكل ابن خلدون الحلقة الضائعة بين التاريخ الإغريقي وحداثة "الحوليات" 10110
كيف بقيت "المقدمة" يتيمة دهرها حتى لدى كاتبها عندما دون محطاته الكبيرة؟
إبراهيم العريس
"اعلم أن فن التأريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، إذ يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكبان به عن المنزلات والمغالط، لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق. وكثير ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل بحث وثمين، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولا سيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات، إذ هي فطنة الكذب ومطية الهذر، ولا بد من ردها إلى الأصول. واعلم أنه لما كانت حقيقة التأريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني، الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتآنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الممالك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال. ولما كان الكذب متطرفاً للخبر بطبيعته وله أسباب تقتضيه، فمنها التشيعات للآراء والمذاهب، فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر، أعطته حقه من التمحيص والنظر، حتى تتبين صدقه من كذبه، وإذا خامرها تشيع لرأي أو لنحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة، وكان ذلك الميل والتشبع غطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص، فتقع في قبول الكذب ونقله".
الحداثة تبدأ قبل 600 سنة وأكثر
بمثل هذه الاقتراحات يبدأ العلامة ابن خلدون تلك "المقدمة" التي ينظر إليها علماء التاريخ بوصفها واحداً من أول النصوص التي أدخلت التاريخ، في حداثة كانت مدهشة قبل 600 عام من الآن حين صاغها ابن خلدون في فترة إحباط في حياته، وهو معتكف العالم في معتزله بقلعة ابن سلامة غير بعيد من الحدود التي تفصل بين تونس والجزائر في أيامنا هذه. والحقيقة أن ابن خلدون الذي سبق زمنه بقرون في هذا النص، الذي سينتقل فيه إلى الانتقاد المباشر لكل الذين كتبوا في التاريخ من قبله، كان منتظراً منه بالنظر إلى أن المقدمة، إنما كانت التمهيد "النظري" لكتابه التاريخي الكبير "كتاب العبر"، أن ينطلق في هذا الأخير من التنظير إلى التطبيق، فإذا به سرعان ما يعود إلى حظيرة الكتابة التاريخية التقليدية التي حاول نسفها في "المقدمة"، ولكن هل هذا يهم حقاً؟ إلى حد ما: نعم، لكن ما يشفع لابن خلدون هو أنه قبل زمن الكتابة التاريخية الكبرى في القرنين التاسع عشر والعشرين، سيكون المثال المحتذى في هذا العلم، ذلك أنه في "مقدمته"، وليس طبعاً في "كتاب العبر"، سيكون من أوائل الذين سيحدثون ذلك التثوير الحقيقي لعلم كان قد صاغه الإغريقيان هيرودوتي وتوكيديدس، كل على طريقته، وكل طريقة منهما لم تخرج عن إطار كونها سرداً لما حدث، مع إطلالات نادرة على كيفية وسببية حدوثه، كما على تناسي ما سوف يسميه فردينان بروديل في القرن العشرين، "المدى الطويل"، إذ لا يكتفي "التاريخ" بوصف الأحداث الكبرى، بل يغوص في الشؤون الصغيرة والتواريخ الثقافية وتاريخ الذهنيات والتاريخ الاقتصادي، بل حتى التغيرات المناخية والتبدلات الزراعية في ربط للتاريخ بالجغرافيا وبالعلوم الإنسانية، يحدث ثورة هائلة في فهم الإنسان لنفسه وتاريخه.
حين شكل ابن خلدون الحلقة الضائعة بين التاريخ الإغريقي وحداثة "الحوليات" 22106
ثلاث ثورات
ونعرف أن بروديل كان ينطق باسم مدرسة "الحوليات" التي انطلقت في ما يسمى "الثورة الثالثة" في تاريخ التاريخ، باعتبار أن مؤرخي الإغريق الكبيرين أطلقا ما لا بد أن يكون "الثورة الأولى". أما الثورة "الثانية"، والتي ينظر إليها اليوم على أنها الحلقة الضائعة التي تصل بين تينك الثورتين، فإنما هي تلك التي أطلقها ابن خلدون في مقدمته، والتي لم يكن لها سابق، وإن كانت ستخلق تيارات تاريخية هائلة من بعدها، سواء اعترف مبدعو تلك التيارات بذلك أم لم يعترفوا، بيد أن ذلك لا بد أن يعيدنا إلى السؤال/ المفتاح في تلك الحكاية كلها، لماذا ابتعد ابن خلدون عن الدروس التي حددها في مقدمته، والتي لا شك أن الفقرتين منها اللتين، أوردناهما أول هذا الكلام، رسمتا إطاراتها بشكل محكم، لماذا ابتعد عن تلك الدروس عندما صاغ الأجزاء العديدة التي يتألف منها سفره التاريخي الكبير، الذي أراد منه أن يحيط بتاريخ العالم منذ أول الخليقة إلى زمنه؟
الحقيقة أن السبب ربما يكون نفس ذلك الذي منع سلفيه الكبيرين هيرودوتس وتوكيديدس من تجاوز الإطار التقليدي لكتابة التاريخ. ولعل في مقدورنا إدراك هذا بالمقارنة البسيطة بين تحديد كل منهما لفهمه للتاريخ، والممارسة التي واكبت صياغته لنصه التاريخي.
الهوة الواسعة بين التنظير والتطبيق
فمن ناحيته مثلاً ها هو هيرودوتس يعرف نفسه، وفنه بالتالي، في تقديمه للكتاب الأول من "التواريخ" كتابه العمدة، قائلاً، "إن هيرودوتس الهاليكارناسي يقدم هنا نتائج بحثه لكي لا يمحو الزمن المنجزات الكبرى التي حققها اليونانيون، ولكن كذلك البرابرة، أي الأجانب، فتسقط في وهدة النسيان، كما أنه يعرض كذلك الأسباب التي جعلت هذين الشعبين يتجابهان في ساحات القتال". أما توكيديدس فها هو من ناحيته يقول عن نفسه في الصفحات الأولى من كتابه الكبير "حروب البيلوبونيز"، "إن توكيديدس الأثيني يروي هنا كيف دارت الحروب بين البوليبونيزيين والأثينيين. وهو كان قد انكب على الشروع في هذا العمل منذ ظهورات العوارض والإشارات الأولى لهذه الحروب، وتوقع بأنه ستكون حروباً ذات أبعاد ومحمول تتجاوز ومن بعيد، كل ما اتسمت به الحروب السابقة. صحيح أن الإصغاء إلى ما يرويه هذا الكتاب من وقائع سوف يقلل من سحرها، ولكن إذا رغبنا حقاً في أن نتأمل بوضوح تلك الوقائع التي حدثت، والأخرى التي سوف تحدث، والتي ستشابهها وتتطابق معها كثيراً انطلاقاً من سماتها الإنسانية، سنجدها كافية طالما أننا سوف نراها مفيدة، وذلك لأنها تحتوي على كنوز برسم الأزمان المقبلة، أكثر مما تحتوي ما هو كاف لفهم اللحظة الراهنة". ويا لها من نوايا رائعة تلك التي نجدها في تعريف كل من هيرودوتس وتوكيديدس لفنه. وتكاد تتشابه مع النوايا الأكثر روعة التي يعبر بها ابن خلدون عن نواياه العلمية في إعادة ابتكار الكتابة التاريخية!
الخوف من رقيب ما
ولكن لا شك أن النوايا تبدت غير الوقائع العملية لدى الكتاب الثلاثة، ولا سيما لدى ابن خلدون الذي بعدما رفع التاريخ إلى مستوى العلم الشامل الخالص، بوصفه فناً من الفنون الدقيقة، نلاحظ كيف أن الثلاثة عادوا إلى التقاليد الكتابية التي كانت سائدة في زمانهم، وذلك بالتحديد لأنهم كانوا يعرفون أنهم لا يضعون تواريخهم كي تقرأ في القرن العشرين، فتنال إعجاب كبار باحثي وقراء أزمنتنا الحديثة هذه، بل يكتبون لزمنهم مهما ادعوا غير ذلك. أما في مقدماتهم النظرية، فبينوا عمق نواياهم متطلعين هذه المرة إلى المستقبل، وهم آمنون من أن يعزلهم قراء زمانهم ويقتص منهم القيمون على الفكر في تلك الأزمنة. ومن هنا حددوا على أية حال، للأجيال المقبلة من الباحثين، وصولاً إلى مدرسة "الحوليات" الفرنسية وما وازاها في مناطق أخرى، وصولاً إلى إريك هوبزباون الذين يمكن القول إنهم أكملوا من حيث وصل ابن خلدون، بينما كان هذا قد أكمل من حيث كان وصل سلفاه الإغريقيان الكبيران بالتأكيد. حددوا أسساً جديدة وثورية لممارسة علم، كان لا يزال يبحث عن هويته ومبرراته وسط تزاحم رؤى غيبية عليه تجاوزها مع إدراكه أنها تعد مقدسة لا يجوز المس بها.