أثار قرار اعتماد اللّغة الانكليزية في المناهج التعليمية بدءًا من الطور الابتدائي نقاشاً ارتكز جلّه على اعتبار ذلك إنهاء لهيمنة اللّغة الفرنسية ونفوذها الثقافي في الجزائر إلاّ أنّ ما قد يحمله هذا الانتقال إلى اللّغة الانكليزية من تهديدات للثوابت الوطنية والهوية الجزائرية كان غائباً عن النقاش وكأنّ اللّغة الانكليزية هي لغة مجردة تماماً من أيّ محتوى قيمي.
أثار قرار اعتماد اللّغة الانكليزية في المناهج التعليمية في الجزائر 11136
إنّ أيّ تحوّل لغويّ يستلزم التعامل معه بقلَق وحذَر شديدين لأنّ أيّ لغة تحمل في طياتها عادات مجتمعها، ومفاهيمه وتصوراته وقيَمه.
واللّغة الفرنسية وإن كانت لغة مستعمر غاشم استهدف ولا يزال يحاول المساس بالهوية الوطنية إلاّ أنّها ظلت ترمز في الذاكرة الجمعية الجزائرية للغطرسة والوحشية ولا تزال نزعتها الاستعلائية الجلية منقوشة في الوعي الجزائري واستعمالها قد لاقى منذ الاستقلال رفضاً شعبياً ونخبوياً ومقاومة عنيفة قد حصر تأثيرها الثقافي والقيمي. فما يحكم التواصل الثقافي بين البلدين بسبب التاريخ العدائي والحاضر المشحون الفضول والمقارنة والرفض.

إنّ الاشتغال العاطفي بإزاحة اللّغة الفرنسية دون تقدير عقلاني هادئ لما سيجرّه إدراج اللّغة الانكليزية من مخاطر على تصدّع الهوية الوطنية في السنوات القادمة سيجعل الانفتاح عليها انفتاحاً بلا تحفظ وغير محسوب العواقب.
إنّ الكلام عن هذه التهديدات لا يتعلق أبدًا بتأثير اللّغة الانكليزية على الكم المفرداتي للّغة العربية للطفل، فما يسند هذه المقولات تقارير قديمة جداً ومعيبة قدمها مبشِّرون في خمسينيات وستينيات القرن الماضي غير مختصون في اللّغويات وعلم النفس حول أبنائهم الذين ترعرعوا في غير بلدانهم تعلموا اللّغة المحلية إضافة إلى لغتهم الأم كما يذكر (Meisel, 2019) وقد دحَضَتْها البحوث في الثلاثين سنة الأخيرة، خاصة بعد التطورات المدهشة التي شهدتها تكنولوجيا تصوير الدماغ في علم النفس والعلوم العصبية كما أن مثل هذه الادعاءات لها أبعاداً أيديولوجية عادة، فمثلاً أحد الساسة الفرنسيين مثلما يذكر (Meisel 2019) حذر من الأضرار الكثيرة للازدواجية اللّغوية (bilingualism) في فرنسا، لكنّه بعد أيام قلائل من تحذيره شجع ودعم تعلم الانكليزية والفرنسية في كيبك الكندية.
إنّ الاعتقاد الشائع  بأنه يمكن حصر استعمال الانكليزية بعد اعتمادها كأداة محايدة نزيهة مجانب لحقيقة اللّغة وطبيعة العلوم التقنية التي تشكلت باستعمالها، فالعلوم التقنية والمهارات التي يراد تعليمها عن طريق اللّغة الانكليزية هي منظومة متكاملة من القيم تم تشكلها على فترات ممتدة امتزجت فيها المبادئ الدينية والإنسانية لينبثق منها التمدن الغربي وهي تمثل حالة ذهنية وعالم من الأفكار، ولا يمكن لهذه العلوم أن تنفصل عن أساساتها وروحها وقيمها المنبثقة من سياق ثقافي في أغلبه غربي أمريكي لا ينسجم مع حاجاتنا وتطلعاتنا، بل إنه يتصادم مع منظومتنا القيمية وهويتنا الوطنية.
لقد رفعت الصين شعار اللّغة الانكليزية كأداة (Fong, 2021) وكان تحولها اللّغوي تحولاً حذراً جداً اتخذت فيه كل التدابير لتجعل من الانكليزية وسيطاً محايداً لنقل المعرفة التقنية وتزويد المتعلمين بمهارات المعرفة التي تعتبرها الصين ضرورية وتنسجم مع السياسة الوطنية اللّغوية وكذا القيم الوطنية والقضايا الاجتماعية والسياسية المتعلقة بأمنها القومي فلا تجد في كتبها المدرسية المقررة لتدريس الانكليزية قاعدة نحوية أو صورة، أو رسماً بيانياً، أو مخططاً، إلاّ وقد تم تحديده بطريقة تمنع تسلل القيم الأمريكية إلى ذهن ووجدان المتعلم (Orton, 2009)، إلاّ أن نتائج البحوث على متعلمي اللّغة الانكليزية من الصينيين قد بينت تأثيراً معتبراً على الهوية (Gao, 2009, Bian, 2009) فكلما زاد تعلمهم للإنكليزية كلما زاد فقدهم لأجزاء من هويتهم الثقافية كصينيين. كما بينت البحوث أن الجامعات التي تدرب على مهارات الاستماع والمحادثة من خلال تكليفهم بمشاهدة البرامج الأمريكية والأفلام والموسيقى وقنوات الأخبار مثل سي أن أن (cnn) قد جعلتهم يحتكون بأبعاد الثقافة الأمريكية فيبتعدون عن اللغة الأم والثقافة الوطنية، ويبدون تمرداً على الآباء وتقاليد المجتمع وقد بدأوا في تقمص هذه الأبعاد مثل الصراحة والعفوية بطريقة مبالغ فيها وبحركات مضحكة، وهم يعتقدون أن ذلك من صميم الثقافة الأمريكية (Bian, 2009).

إنّ المخاطر التي تتعلق بالإدراج المستعجل المزاجي للّغة الانكليزية يتعلق بالتعريض غير الحذر لقيم جديدة دخيلة تحملها هذه اللّغة، وهي قيم تتعلق بحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، ومفهوم الأسرة، إلخ... وأمريكا بمعسكرها الليبرالي المتطرف تسعى جاهدة لتصديرها وفرضها على الكيانات الضعيفة، هذه القيم يولع بها الشباب خاصة، فما سيحكم تواصلنا الثقافي مع الثقافات الانجلوسكسونية الفضول والمقارنة والانبهار.
وقد قابلت خلال ممارستي الاكلينيكية في هذه السنوات، آباء منكسرون موجوعون أدمن أبناؤهم على استعمال الانترنت، انصرفوا عن التواصل والاحتكاك مع أسرهم، شباب أجادوا اللّغة الانكليزية من خلال مشاهدتهم للأفلام الأمريكية وبرامجهم التلفزيونية تشكلت من خلالها قناعات تتعلق بالحرية الدينية والجنسية، يبدون تذمراً من القيم والمبادئ الإسلامية وتعاطفًا كبيراً مع ادعاءات حقوق الإنسان، وقد وصل الأمر ببعضهم إلى مغادرة بيت الأسرة للعيش وفق هذه القناعات الجديدة والوقوع في ممارسات جنسية واستعمال المخدرات كأحد مفاخر الثقافة الأمريكية التي تروّج لها أفلامهم وأغانيهم والكثير من حصصهم التلفزيونية.
إنّ افتراض أن اللّغة هي أداة يجب أن يخضع لتصور واضح وتخطيط راشد ووضع سياسة وطنية حذرة متيقظة لإدراج اللّغة الانكليزية وإلا قد نجد أنفسنا في العشرين سنة القادمة أمام شخصية ذات هوية ثقافية هجينة بقناعات وقيم ومبادئ لن يكن بوسعنا الآن استشرافها.


المراجع




Fong, E. (2021). English in China: Language, Identity and Culture. London: Routledge.
Meisel, J. M. (2019). Bilingual Children: A guide for Parents. Cambridge: Cambridge University Press.
Orton, J. (2009). “Just a tool”: the role of English in the curriculum. In J. Lo Bianco, J. Orton, Gao, Y.(Eds.) China and English: Globalization and the Dilemmas of Identity. Multilingual Matters: Bristol.
Bian, Y. (2009). The more I learned, The less I found myself. In J. Lo Bianco, J. Orton, Gao, Y.(Eds.) China and English: Globalization and the Dilemmas of Identity. Multilingual Matters: Bristol.
Gao, Y. (2009). Language and identity: State of the art and a debate of legitimacy. In J. Lo Bianco, J. Orton, Gao, Y.(Eds.) China and English: Globalization and the Dilemmas of Identity. Multilingual Matters: Bristol.