ولاية عبد الرحمن الغافقي و معركة بواتيه أو بلاط الشهداء
.. Battle Of Poiters
-------------------------------------------------------------------أَتى عَلى الكُلِّ أَمرٌ لا مَرَدّ لَهُ حَتّى قَضوا فَكَأنّ القَوم ما كانُوا
ملخص ما سبق
حينما دخل عنبسة بن سحيم الكلبي الأندلس كانت البلاد تموج بالفوضى والاضطرابات الداخلية، فكـان على عنبسة أن يمضي فترة طويلة، من ولايته في تنظيم البلاد، والقضاء على مواطن الضعف .
وبعد أن استقامت الأمور في الأندلس، جهز عنبسة جيوشـه للمسـير شمالاً نحو بلاد غالة (فرنسا)، فكانت أول خطوة قام بها هي تدعيم خطوط سيره ومواصلاته بين مدينتي سرقسطة وأربونة، فحاصر قرقشونه واستولى عليها .ثم أراد متابعة غزواته*، والاستمرار في التوغل في أرض غالة، إلا أن الأنباء السيئة عن بعض القلاقل والاضطرابات في الأندلس، دفعتـه للعـودة .
وفي أثناء عودته تصدت له فرقة عسكرية كبيرة من جيوش الفرنجة، اشتبك معهـا، واستشهد على اثر هذا الاصطدام في سنة (107هــ/ 725م)
فقـام أحـد قـواد الجـيش ، ويدعى عذرة بن عبد الله الفهري* بقيادة جيش المسلمين والعودة به إلى أربونة قاعدة المسلمين لشن الغارات على بلاد غالة ..
️ لقد كان عدم الاستقرار سبباً من أسباب تعاقب أكثر من والٍ علـى الحكـم فـي الأندلس في العام الواحد !!
وبسبب هذه الخلافات والاضطرابات توقفت فتوحات المسلمين عبر جبال البرتات ..
-------------------------------------------------------------------
وبعد وفاة عنبسة بن سحيم الكلبي، تولى الحكم في الأندلس ستة ولاة، وكانـت فتـرة ولاية كل منهم قصيرة جداً، مما يدل على وجود الفتن والقلاقل والاضـطرابات التـي كانـت تعصف فيها .
كان أول هؤلاء الولاة المتعاقبين على الحكم في الأندلس الوالي عذرة بـن عبـد الله الفهري الذي قاد جيش المسلمين بعد استشهاد عنبسة (ت107هـ/ 725م)
وكان اختيـاره والياً على الأندلس قد تم من قبل أهل الأندلس أنفسهم، دون الرجوع إلى والي الشمال الإفريقـي ، أو إلى مقر الخلافة الأموية في دمشق .
ويبدو أن ولاية عذرة الفهري كانت قصـيرة جـداً، حتى أنه لم يلبث في منصبه سوى شهرين فقط حيث تم اختيار والٍ آخر ليحل مكان عنبسة في حكم الأندلس .
ولم يقم عذرة الفهري بأية أعمال حربية في غالة، ويعود ذلـك إلـى عامـل الاضـطراب والفوضى، وإلى قصر مدة ولايته على الأندلس
وتولى حكم الأندلس، بعد عذرة الفهري/ يحيى بن سلمة الكلبي (ت110هـ/ 729م) بـأمر من عامل افريقية، بشر بن صفوان ..
ويروى أن الذي ولاه سنة (107هـ/ 725م) . هو الخليفة هشام بن عبـد الملـك (ت 125هـ/ 743م)
واستمرت ولايته قرابة السـنتين وسـتة أشهر وفي فترة ولايته لم تقع أية حوادث تذكر
وفي هذه الفترة توفي بشر بن صفوان عامل افريقية، فولى هشام بن عبد الملـك علـى افريقية بدلاً منه عبيدة بن عبد الرحمن السلمي* ، فعين على الأندلس عثمان بن أبي نسـعة الخثعمي واستمرت ولايته قرابة ستة أشهر، وفي رواية أخرى خمسة أشـهر ثـم عزل عنها، واستقر في القيروان حتى وفاته سنة (113هـ/ 731م)
،بعـد عـزل الـوالي عثمان بن أبي نسعة بأمر من والي افريقية عبيدة بن عبد الرحمن السلمي عين علـى الأنـدلس حذيفة بن الأحوص الأشجعي* و حذيفة بن الأحوص القيسي وقيل العتبي، وكـان ذلك في سنة (110هـ- 728م)
ولم تحدث في ولايته أية حوادث ذات قيمة تذكر، ولبـث في منصبه والياً على الأندلس قرابة الستة أشهر ، وقيل مدة سنة كاملة ..
ثم عزل عنها وعين على الأندلس بعد ذلك الهيثم بن عبيد الكناني سنة (111هــ/729م ) بقرار من عبيدة بن عبد الرحمن السلمي .
وفي ولايته غزا أرض منوسة وقيل هو الذي "غزا أرض مقوشة وافتتحهـا" *
وابتداءً من ذلك التاريخ ظهرت شخصية منوسة الذي يعتبره البعض زعيماً بربرياً مسـلماً وكان مطيعـاً للدولـة وقد دخل الأندلس مع طارق بن زياد، وعين والياً على شمال الأندلسالإسلامية، ثم حاول التمرد عليها، وعقد تحالفاً بينه وبين الدوق أودو، دوق اكيتانيا الذي زوجـه من ابنته لامبيجية أو (مينيين) ..ولم يستطع الهيثم القضاء عليـه.
وسيظهر لهذه الشخصية سواء أكانت حقيقية أم وهميـة، دور بارز في ولاية عبد الرحمن الغافقي أثناء ولايته الثانية ..
لبث الهيثم في منصبه والٍ على الأندلس قرابة عشرة أشهر
وقيل مدة عامين وتوفي سنة (113هـ/ 731م)
وخلف الهيثم بن عبيد الكناني على حكم الأندلس والٍ آخر*، هو محمـد بـن عبـد الله الأشجعي، باختيار من قبل الجماعة في الأندلسمؤقتاً حتى يـتم تعيـين والٍ آخـر واستمرت فترة ولايته مدة شهرين فقط ..
وبعد توقف الفتوح، تولىأمر الأندلس عام (112هـ/ 731م) أمير شجاع هو عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، بتعيين من قبل عبيـد االله بن الحبحاب*وقيل عبيده بن عبد الرحمن السلمي .
وكانت هذه هي الولاية الثانية له على بلاد الأنـدلس إذ كان قد تولاها المرة الأولى عندما استشهد السمح بن مالك الخولاني .
كان الغافقي معروفاً بحسن قيادته وشجاعته، وشارك بفاعلية في موقعة طولوشة التـي قتل فيها السمح بن مالك الخولاني (ت 102هـ / 720م) وهي مشاركة تركت آثاراً عميقة في نفسه، فولدت الرغبة لديه لملاقاة الفرنجة والانتقام منهم لما أصـاب المسـلمين آنـذاك ..
ويبدو أنه تولى الحكم في الأندلس في وقت اندلعت فيه الفتن والقلاقل بين المسـلمين، بسـبب عصبياتهم التي حملوها معهم من المشرق، فما كاد يتولى الحكم حتى قوبل عهـده بالاطمئنـان والترحاب لعدله وحياده ونزاهته .
فسرعان ما رفع المظالم وطاف المدن محققاً في الشكايات التي قدمتها الرعية ضد العمال، وعاقب المسؤولين عن ذلك ،
وأمام هذه الأوضاع الداخلية السيئة التـي سادت الأندلس، كان لا بد للغافقي من أن ينظم شؤون ولايته الداخلية أولاً، ويضـبط أحوالهـا، ويعالج مواطن الضعف والخلل فيها، ثم يبدأ بالانطلاق في غزواته وحروبـه الخارجيـة ضـد الأعداء .
وحينما أتم الغافقي استعداداته، وصلته الأخبار بمحاولة الحاكم البربري المسلم منوسـة التمرد عليه ، وهو شخصية لم تسلط المصادر العربية الضوء عليها ..
وقد أورد ابـن عـذارى(712هـ/ 1312م ) في البيان المغرب ما نصه: "وهو الذي غزا أرض منوسـة"
وكـذلك عند المقري (1041هـ/ 1631م) في كتابه نفح الطيب حينما قـال: "وغـزا أرض مونوسـة فافتتحها"
وكذلك عند ابن خلدون (ت808هـ/ 1406م) في العبر حيث قال: "وغـزا أرض مقرشة فافتتحها "
ويعتقد البعض ان منوسة هي أرض ماسون من بلاد فرنسا التـي وصـل إليها الهيثم بن عبيد في غزواته ، وربما يكون مونوسة هو عثمان بن أبي نسـعة الخثعمـي البربري ؛ ولعله اسم محرف لاسمه .
ويبدو أن الغافقي كان قد أمر منوسة بأن يسـير إلـى بلاد حمية حمية أودو، فما كان منه إلا أن تباطأ عن المسير، وأبدى تثاقله ثم سار بعد أن أبلـغ(الدوق أودو) بذلك فعلم الغافقي، وقبض عليه، وتمكن مع فرقة من جنوده من الفرار ووقع أسـيراً فـي قبضة جيش الغافقي، فقطع رأسه، وأسر زوجته لامبيجيا(ابنة أودو) وأرسلها إلى بلاط دمشق ...
وبعد مقتل منوسة، رأى الدوق أودو ما حصل مع حليفه وصـهره، وأحـس بـالخطر العربي الداهم على بلاده من جهة الأندلس، فقرر، وبطريقة ذكية، أن يعقد حلفاً دفاعياً عسـكرياً
مع قارله أوشارل مارتل* ، الذي كان حاجب القصر وصاحب السلطة الحقيقية في بـلاد الفرنجـة ..
وعلى الرغم من أن العلاقة بينهما لم تكن على ما يرام إلا أنهما، وأمام الخطر العربي، قررا أن يتناسيا الأحقاد والضغائن، وان يعقدا حلفاً دفاعياً ضد العرب..
وأمام هـذه الأوضـاع، رأى شارل مارتل أن سيطرة العرب على اكيتانيا، تعني بالنسبة له تهديداً لمملكته، فوافق على عرض الدوق أودو، وعقد معه حلفاً دفاعياً ..
وفي عام (114هـ/ 732م) خرج الغافقي على رأس جيش عظيم* مـتحمس للجهـاد معظمه من البربر فاخترق به جبال البرتات متجهاً إلى دوقية اكيتانيا ..
وأراد تأمين خطوط مواصلاته من الخلف قبل أن يهاجم هدفه النهائي، فبعث فرقة من الجيش إلى مدينـة آرل على نهر الرون، لأنها تخلفت عن دفع الجزية، فاستولى عليها ..
ثم تابع الغافقي زحفه متجهاً إلى ولاية اكيتانيا، وحينما سمع الدوق أودو بذلك تأهب للدفاع عن بلاده، ولكنه انهزم أمام قوة الجيش الإسلامي، وفتح المسلمون برديل*وغنمـوا غنـائم عظيمة، واستولوا على أموال وخيرات كثيرة وسقطت اكتيانيا جميعها بيد المسـلمين .
وإزاء هذه التطورات شعر شارل مارتل بالخطر الداهم عليه وعلى بلاده فأخذ يستعد لملاقـاة جـيش المسلمين الذي تابع مسيره متجهاً صوب فرنسا، قبل أن يتحرك شارل مارتل إلى لقائه ..
ذهب الدوق أودو، بعد ضياع ملكه وبلاده، إلى شارل مارتل طالباً منه العون والنجـدة لصد هجمات المسلمين عن بلاده، فحشد شارل حشداً عظيماً من مختلف بلاد الفرنجة وسار بـه لملاقاة العرب الذين دخلوا بواتيه وسيطروا عليها وتابعوا تقدمهم ومسيرهم* متجهين نحـومدينة تور على ضفة نهر اللوار،...
وهناك التقى الجيش الإسلامي بقيادة الغافقي بالجيش الفرنجـي بقيادة شارل مارتل على مقربة من السهل الواقع بين مدينتي تور وبواتيه قرب نهـري : الكليـين والفيين فرعي نهر اللوار والتقى الجمعان فـي رمضـان سـنة (114هــ/ 732م) .
استمرت المعارك ثلاثة أيام، كان النصر في بدايتها لصالح المسلمين الذين انتصروا وجمعـوا الغنائم وذكر أن المعركة قد استمرت ثمانية أيام وقيل عشرة أيام .
ويبدو أن الغافقي كان ينوي إثارة الدافعية والحماس للجهاد بين أتباعه، فاصطحب معـه النساء والأموال والأطفال
وفي أثناء هذه المعركة، توصل شارل مارتل إلى خطة مفادهـا
أن يعمل على خلخلة نظام الجيش الإسلامي، عن طريق مهاجمته من الخلف فيضرب المـؤخرة التي تحتوي على الأموال والنساء والغنائم والأطفال، ..
وما أن هاجمها حتـى تـرك المسـلمون الخطوط الدفاعية الأمامية وهبوا للدفاع عن نسائهم وممتلكاتهم، مما أدى إلى حـدوث فوضـى واضطراب في صفوف الجيش الإسلامي فوقعت الهزيمة بالمسـلمين، وكثـر فـيهم القتـل والجراح حتى استشهد قائدهم عبد الرحمن الغافقي، وجمع كبير من جيشـه
سـنة (114هــ/ 732م) وقيل إنه استشهد في سنة (115هـ/ 733م)
وفي الصباح أراد جيش شارل مارتل مهاجمة المسلمين فلـم يجدهم ولم يحاول اللحاق بهم أيضا لخوفه من وجود خطة عسكرية ربمـا يكـون العـرب قـد رسموها للايقاع به
تعد معركة بلاط الشهداء أعظم معركة حدثت بين الفرنجة والمسلمين، فبعدها ارتد تيار الفتح الإسلامي عن المناطق الشمالية في الأندلس، وفشلت آخر محاولـة قامـت بهـا الخلافـة الإسلامية لفتح بلاد الفرنج وإخضاع البلاد الواقعة خلف جبال البرتات.
كما أوقفت هذه المعركة زحف العرب على أوروبا بحيث يمكن القول إنهم لو انتصروا فيها لربما استطاعوا السـيطرة علـى منـاطق واسعة من أوروبا، ولربما تمكنوا من الوصول إلى القسطنطينية من جهة الغرب .
وكانت معركـة بـلاط الشهداء من المعارك المهمة والفاصلة في التاريخ الإسلامي بين المسلمين والفرنجة، لأنها حددت
مصير الصراع بين العرب والمسيحيين آنذاك، فبعدها لم يتجاوز النفوذ الإسلامي كيلومتراً واحداً خلف جبال البرتاتوأصبح العرب يحسبون حساباً لقوة شارل الملقب بمارتل أي المطرقة ..
أما فيما يتعلق بالتسميات التي اطلقت على هذه المعركة، فقد تعددت، حيث أطلق عليهـا مؤرخو الغرب اسم معركة تور- بواتيه لوقوعها في السهل الواقع بين بلدتي تور وبواتيـه ..
وأما بالنسبة للمراجع العربية، فقد أطلقت عليها عدة أسماء، منها وقعة الـبلاط أو غـزوة البلاط أو اسم معركة بلاط الشهداء لكثرة من استشهد فيها من المسلمين والتـابعين
وقد سميت بمعركة البلاط لوقوعها بالقرب من الطريق الروماني المرصوف، لأن كلمـة بـلاط تؤدي معاني كثيرة، فهي تعني القصر، أو الممر بين صـفي أعمـدة، وهـي تعنـي الطريـق
المرصوف، والساحة الفسيحة، أو الأرض المستوية ..
-------------------------------------------------------------------
* أبرز المراجع :
محمد عبد الله عنان دولة الإسلام في اللندلس العصر الأول
عبد الرحمن الحجي: التاريخ الأندلسي ،
الحميري : الروض المعطار ،
ابن غالب: فرحة الأنفس،
المقدسي: أحسن التقاسيم،
ابن خلدون: العبر، ج4
ابن عذارى: البيان، ج2 ،
المقري: نفح الطيب ، ج1 ، .
النويري: نهايةالاندلس ، ج21
محمود مكي، : تاريخ الأندلس ، ج1
شكيب أرسلان، : تاريخ الأندلس ،
عبد العزيز سالم، السيد: تاريخ الأندلس،
ابن الأثير: الكامل في التاريخ ، ج5
المقري: نفح الطيب ، ج1
حسين مؤنس، : فجر الأندلس ،
مجهول المؤلف: اخبار مجموعة في فتح الأندلس
جاسم بن محمد القاسمي، : تاريخ الأندلس،
صالح أبو دياك، ، الوجيز.
حسن إبراهيم حسن، تاريخ الأندلس ، ج1 ،
عصام الدين الفقي، تاريخ الأندلس
الأندلس في عصر الولاة ص63 - 74 رسالة الدكتوراة جامعة نابلس . إعداد أشرف يعقوب أحمد اشتيوي إشراف الدكتور هشام أبو رميلة .