برنامج "دارت".. هل يتمكن العلماء من حرف مسار كويكبات تستهدف الأرض؟
بعد أقلّ من 7 سنوات من الآن، من المتوقع أن يلوح في سماء الأرض أحد أعظم مهددات الحياة على الإطلاق؛ كويكب "أبوفيس 99942" (99942 Apophis) البالغ قطره 340 مترا، ويزن 20 مليون طن من الحديد، وقد تم اكتشافه في 2004 عبر مرصد "كيت بيك" في ولاية أريزونا. وتعزى تسميته إلى أفعى شريرة جاء ذكرها في الميثولوجيا المصرية القديمة، وهي دلالة على شرّ محتّم الوقوع.
فكما أظهرت البيانات الأولية سيمرّ كويكب "أبوفيس" في 13 أبريل/نيسان 2029 بجوار الأرض على مسافة 31 ألف كلم، وهي مسافة أقرب لنا من القمر بنحو 12 مرّة، وحتى أقرب من العديد من الأقمار الاصطناعية المدارية حول الأرض. وسيظهر الكويكب جليا كما سيكون متاحا لرؤيته بالعين المجرّدة في وضح النهار في مشهد يحبس الأنفاس وكأن برجي "بتروناس" التوأم الشهيرين يحلّقان في سمائنا.
والأمر لا ينتهي عند هذا الحد، فثمّة إشكالية أخرى أشدّ إثارة للقلق، فما يطلِق عليه علماء الفلك اصطلاحا "ثقب المفتاح الجاذبي" (gravitational keyhole) -وهي مواقع توجد حول الكواكب- تجبر الأجرام السماوية المارة بها على العودة مستقبلا بسبب تأثير جاذبية الكوكب. فلو مرّ "أبوفيس" بإحدى هذه النقاط، فإنه بعد 7 سنوات بالضبط سيصطدم بالأرض بحادثة مأساوية لا مفرّ منها وفقا لحسابات علم ميكانيكا الأجرام السماوية.
هل سيشكل اقتراب الكويكب "أبوفيس" من الأرض خطرا عليها؟
وما وجده العلماء في بادئ الأمر أنّ نسبة اصطدام الكويكب بالأرض في عام 2036 تصل إلى 2.7%، وهي مجازفة كبيرة لا يُؤمن شرّها. لذا أُعلِن عن حالة التأهب على مستوى العديد من المؤسسات المعنية، ووُضِع "أبوفيس" تحت المجهر. لكن مع إعادة الحسابات لاحقا تبيّن أن تهديده أقلّ مما أُعلن عنه، على الرغم من وجوده لاحقا في مسافة قريبة للغاية غير مألوفة.1
آلاف الكويكبات.. أجرام كامنة المخاطر
إن نيزكا بهذا الحجم قادر على التسبب بأضرار جمّة على مدى مئات الكيلومترات من موقع الاصطدام، محدثا طاقة تكافئ 1000 ميغاطن من متفجرات "تي إن تي"، أي ما يفوق بمئة ألف مرّة تأثير قنبلة هيروشيما النووية.
وبطبيعة حال الأرض وعلاقتها بالنيازك عبر التاريخ، يرى العلماء أنّ ثمة نيازك تتساقط على الكوكب بشكل دوري على فترات زمنية متباينة، فمنها كلّ 100 عام، ومنها كل 1000 عام، وأخرى على فترات أطول.
في عام 1994 ارتطمت 21 قطعة من شظايا المذنب "شوميكر- ليفي" بكوكب المشتري وأحدثت ثقوبا هائلة في غلافة الجوي
وفي عام 1994 أحدث ارتطام كويكب "شوميكر ليفي" بكوكب المشتري ثقوبا ضخمة في غيوم الكوكب تُعادل بحجمها حجم الأرض أو أكبر، واستمرّ ظهورها عدة شهور قبل اختفائها، وهو ما أثار الرأي العام ودفع العديد إلى تبنّي سيناريو مشابه على كوكب الأرض، وحينها ستحل علينا الكارثة دون شك.
وبتعزيزات حكومية أُنشئت مراكز مختصة لدراسة ما يمكن تغطيته من الكويكبات حول الأرض والتي يتجاوز عددها 750 ألف كويكب، وثمّة اليوم العديد من المراصد المساهمة في تعزيز هذه الأرقام ومنها "ماسح السماء كاتالينا" (Catalina Sky Survey) المختص بتعقب الكويكبات الصغيرة، و"بان ستارز" (Pan-STARRS) لكشف الأجسام الباهتة، وماسح "نظام التنبيه الأخير لاصطدام الكويكب بالأرض" (ATLAS) لرصد الأجسام السريعة.. ومعا فإن هذه المراصد تشكّل نظاما متكاملا لمراقبة سماء الأرض.
سؤال يتردد.. هل كوكبنا في أمان؟
على أيّة حال، فإن معرفة ذلك وحده لا يكفي، إذ ينبغي على العلماء تنقيح وتصنيف هذه الأجرام السماوية بناء على مدى خطورتها على الأرض، لكي ينصب التركيز كاملا على مصدر الخطر بدل من تشتيته، فجاء مصطلح "الأجرام محتملة المخاطر" (Potentially Hazardous Asteroids) للإشارة عليها، وأيضا مصطلح الأجرام السابحة في المدار القريب حول الأرض (Near-Earth). وتتم آلية تصنيف خطورة الكويكب بدراسة حجمه ومداره ومدى إمكانية التقائه بالأرض مستقبلا، ويرجح العلماء أنّ كوكبنا يُعد آمنا خلال الـ100 عام المقبلة على الأقل وفق الأرقام المتاحة اليوم.2
مقارنة لحجم الكويكب ديدايموس وقمره ديمورفوس ومسبار الفضاء دارت مع بعض معالم الأرض
لكن ماذا لو لاح في الأفق البعيد من حزام النيازك مثلا الموجود بين كوكبي المريخ والمشتري؛ كويكب ضخم وهدد الأرض بأي شكل من الأشكال؟ هل سيقف سكان الكوكب مكتوفي الأيدي أم أنّ لهم رأيا آخر؟ هذا ما يجيب عليه برنامج "دارت" الفضائي لحماية الأرض.
"دارت".. مسبار يخطط لحماية الأرض من الكويكبات
يُعد مسبار "اختبار تغيير مسار الكويكب الثنائي دارت" (DART) أوّل برنامج فضائي دولي يهدف إلى الدفاع عن الأرض من غزو الكويكبات والنيازك التي يُعتقد أنها أدت إلى انقراض العديد من المخلوقات الحية على سطح الأرض فيما سبق. والمسبار برعاية "مكتب برنامج البعثات الكوكبية" التابع لوكالة الفضاء الأمريكية "ناسا".
وفي وقت سابق أعلنت "ناسا" بالمشاركة مع مختبر "جونز هوبكينز للفيزياء التطبيقية" عن إطلاق المركبة الأول من المشروع بواسطة صاروخ "فالكون9" التابع لشركة الفضاء "سبيس إكس" في سبتمبر/أيلول 2021، وتهدف العملية إلى اختبار مدى فعالية السلاح الذي يعتمده برنامج "دارت"، وهو استخدام مسبار تصادمي يعمل على حرف مسار الكويكب أو النيزك.
قطر الدولة العربية الوحيدة المشاركة في حملة تصوير الاصطدام الفضائي والتي تقودها وكالة الفضاء الأوروبية
ودون إضفاء أيّ غموض أو تعقيد على آلية عمل برنامج "دارت"، فإنه يطلق مسبارا فضائيا إلى هدفٍ ما محدد مسبقا كي يرتطم به. وعوضا عن تفجيره فإنه سيتسبب في إحداث تغيير ضئيل في حركته أو سرعته، تماما مثل كرات البلياردو حينما ترتطم كرةّ بالأخريات فتتسبب باندفاعهن، ويُعرف هذا بتأثير "التصادم الحركي" أو انتقال الزخم من جسم إلى آخر.
وعلى الرغم من التفاوت الكبير في حجم المسبار وحجم الكويكب، فإن تغييرا طفيفا سيطرأ، لكن ذلك سيكون كفيلا بتغيير مسار الكويكب أو تأخيره على المدى البعيد، فالحديث هنا عن مدارات كوكبية هائلة تستغرق شهورا وربما سنوات كي تستكمل دورتها.
ارتطام تجريبي.. ترقب لأول عملية من نوعها
وكانت المركبة الفضائية "دارت" التي أطلقتها "ناسا" مؤخرا تهدف إلى تجربة هذه التقنية للمرّة الأولى، وبكتلة بلغت 610 كيلوغرامات، لتنطلق المركبة باستخدام محرك أيوني يعمل بالدفع الكهربائي بالطاقة الشمسية، فتندفع المركبة بسرعة قصوى تصل إلى 6.6 كلم في الثانية (24 ألف كلم/ساعة) لحظة الارتطام.
ويُعد القمر الكويكبي "ديمورفوس" ذو القطر 163 مترا؛ الهدف المرتقب لهذه التجربة. وبناءً على الحسابات فإنّ موعد الارتطام اليوم الاثنين 26 سبتمبر/أيلول الجاري عند الساعة 23:14 بالتوقيت العالمي فجر الثلاثاء 27 سبتمبر/أيلول الساعة 02:14 بتوقيت مكة المكرمة.
ووفقا لعالِم الفضاء "كلايتون كاتشيل" مدير مشروع "دارت"، سيكون برفقة المركبة الفضائية قمر صناعي يُدعى "ليسيا كيوب" (LICIACube)، وهو مصنوع بأكمله بواسطة وكالة الفضاء الإيطالية، ويحتوي على آلة علمية واحدة فقط تعمل على تصوير الهدف وتوجيه المركبة الفضائية في أثناء رحلة الاصطدام.
وبدراسة البيانات لاحقا فإنه من المتوقع أن يستخلص العلماء مدى نجاعة هذه الآلية من جملة محاولات البشرية في الدفاع عن مستقرّهم الأرض. وما هو جدير بالذكر فإن القمر الكويكبي "ديمورفوس" البالغ قطره 163 مترا والذي يدور حول كويكب "ديدايموس" ذي القطر 780 مترا، لا يمثلان تهديدا لنا ولن يتقاطع مدارهما مع مدار الأرض حسب المعطيات، لذلك وقعت التجربة الأولى عليه دون مخاطرة.3
بعد نحو 4 سنوات من اصطدام "دارت" بـ"ديمورفوس"، ستتجه المركبة الفضائية "هيرا" (Hera) بالتعاون مع وكالة الفضاء الأوروبية إلى موقع الحادثة لدراسة وتقييم شدّة الارتطام، وقياس الفوهة الناتجة، بالإضافة إلى تحليل مدار الجرم السماوي ومقارنته بنموذجه السابق قبل الارتطام، وهو ما سيعزز مفهوما أوسع للتعاطي مع مثل هذه الحالات في المستقبل.
مسبار الفضاء "هيرا" الذي سيطلق في 2024 سيقيّم نتائج اصطدام مسبار "دارت" بالكويكب "ديمورفوس"
إنّ مشروع "دارت" يمثل مفارقة عجيبة، إذ جرت العادة أن يسعى المهندسون إلى حماية منتجاتهم الهندسية ومركباتهم الفضائية بشتى الطرق، لكن ليس هنا. فالمشروع قائم على إرسال مراكب فضائية وظيفتها الرئيسية الارتطام بالكويكبات والنيازك السابحة في الفضاء في سبيل تغيير مدارها.
وفي الختام يُعد برنامج "دارت" الأول من نوعه في مجابهة الخطر القادم من الفضاء السحيق. وعلى الرغم من جهلنا التام بمدى فعاليته، تبقى المحاولة اليوم لا تقدّر بثمن في سباقنا مع الزمن، وفي ظلّ ضبابية الفضاء وعجزنا عن الإلمام به بكل شاردة وواردة.
المصادر:
[1] ماشهولز، دون (2022). كويكب أبوفيس سيمر من قربنا بعد 7 سنوات من الآن. تم الاسترداد من: https://earthsky.org/space/asteroid-99942-apophis-encounters-2029-2036-2068/
[2] محررو الموقع (2012). تقول ناسا إن 4700 كويكب يحتمل أن تكون خطرة تتواجد بالقرب من الأرض. تم الاسترداد من: https://www.space.com/15734-dangerous-asteroid-census-nasa-telescope.html
[3] سميث، واين (2021). ست أسئلة مع مدير مشروع "دارت" كلايتون كاتشيل. تم الاسترداد من: https://www.nasa.gov/centers/marshall/news/releases/2021/dart-on-target-six-questions-with-mission-manager-clayton-kachele.html
[4] مايكل، باتريك، وكوبريس، مايكل، وكارنيلي، لان (2018). مهمة "هيرا". تم الاسترداد من: https://ui.adsabs.harvard.edu/abs/2018cosp…42E2280M/abstract
https://doc.aljazeera.net/%d8%aa%d9%82%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%b1/%d8%a8%d8%b1%d9%86%d8%a7%d9%85%d8%ac-%d8%af%d8%a7%d8%b1%d8%aa-%d9%87%d9%84-%d9%8a%d8%aa%d9%85%d9%83%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d9%85%d8%a7%d8%a1-%d9%85%d9%86-%d8%ad%d8%b1%d9%81-%d9%85%d8%b3/?fbclid=IwAR06GAHAmg4piMd1pA4uUx4-laog6kHsyDvcabqpj_U5XsepEgDg12ZFYyc