جوانا الملكة الإسبانية التي عُذبت لرفضها محاكم التفتيش الأندلسية
 جوانا الملكة الإسبانية التي عُذبت لرفضها محاكم التفتيش الأندلسية 11352
في 12 أبريل (نيسان) عام 1555 تُوفيت «جوانا المجنونة»، آخر أبناء الملكة إيزابيلَّا الأولى، ملكة قشتالة، والملك فريناند الثاني، ملك أراغون. رحلت جوانا وعمرها 75 عامًا. قضت 50 عامًا منها وهي تحمل لقب ملكة قشتالة، لكنها قضت 45 عامًا من تلك الخمسين في سجن مُنعزل شديد التحصين، عقابًا على أشياء لم ترتكبها.
أما سنواتها الخمس والعشرون التي سبقت تنصيبها ملكةً؛ فلم تختلف كثيرًا عن سنواتها في السجن الانفرادي إلا في اسم السجن. فسجنها في سنواتها الأولى كان يُدعى قصرًا، لكنه لم يكن عاديًّا. فبزواج والدها ووالدتها ثم غزوهما لغرناطة، كان القصر هو المتحكم في الأندلس (إسبانيا) كاملةً، وكما يقول خوليان مارياس في كتاب «إسبانيا بشكل جليّ» فإن ذلك الزواج كان إشارة البدء لـ«أسبنة قشتالة».
«جوانا المجنونة».. في البدء كان نقد الديانة المسيحية ورفض محاكم التفتيش
شهدت «توليدو» عاصمة المملكة ولادة جوانا عام 1479. فتاةٌ بيضاء البشرة، زرقاء العينين، يُتوِّجها شعر منسدل يميل إلى الحُمرة قليلًا، مثل شعر والدتها إيزابيلا وأختها الكبرى كاثرين. لكن السنوات اللاحقة أثبتت أنها لا تتشارك مع عائلتها إلا المظهر الخارجي فحسب، فقد برز نجمها في القصر كأذكى من فيه. تعلَّمت القانون الكنسيَّ والقوانين المدنية، وبجانبهما تعلمت الفلسفة والرياضيات، وأتقنت اللغة الفرنسية واللاتينية بجانب اللهجات المحلية للممالك المحيطة الخاضعة لسلطان والديها.
لم ير والداها فيها سوى خجلها وميلها للعزلة، ثم لم تلبث أن بدأت تطرح بعض الأسئلة التي وصلت أحيانًا لحد النقد في الديانة المسيحية وبعض طقوسها. فلم تذهب إلى الكنيسة، ولم تحضر أي قدَّاس. طرح تلك الأسئلة لم يكن أمرًا بسيطًا في حضرة إيزابيلا وفريناند شديدي التدين؛ الذين نتج من زواجهما خمسة أبناء وسقوط الأندلس.
فقد نشأت إيزابيل في بيئة كاثوليكيَّة متعصبة تتابع أخبار الحروب بين قشتالة المسيحية وغرناطة معقل المسلمين، ووقعت تحت تأثير كاهن اعترافها، توماس دي تركويمادا الدومنيكي، الذي وعدته أن تكرِّس حياتها لاستئصال المسلمين من كل مكان تطوله سلطتها. لاحقًا ونزولًا على رغبة والده في توحيد المملكتين، قبل فريناند الزواج منها، كما يقول محمد يحيى المضواحي في كتاب «الأندلسيون عقب سقوط غرناطة».
 جوانا الملكة الإسبانية التي عُذبت لرفضها محاكم التفتيش الأندلسية 1-46
جوانا
كانت إيزابيلا تكبر زوجها فريناند (أو فرناندو) بعام واحد في السنٍ، لكن يبدو أنها كانت تكبره في الحيلة أيضًا، فقد جذبته لتعصبها الديني. كان فرناندو معروفًا بالغدر والكذب، ولا يبالي سوى بالملك والرفاهية المحيطة به، أما مسألة الحرب من أجل الدين فلم تكن من أولوياته، لكن إذا كان السبيل لمُلك إسبانيا هو الدين، فلا مانع من ارتداء عباءته. لهذا نجد سعدون نصر الله في كتاب «تاريخ العرب السياسي في الأندلس» يضع ذلك الزواج على رأس الأسباب التي أنهت الحرب الأهلية بين فرقاء إسبانيا ووحدت صفهم للتعجيل بسقوط الأندلس.
بعد تلك الجولة الموجزة في عقليَّة والديها، لن يكون مفاجئًا معرفة أن جوانا استهلت حياتها بالـ«لا كوردا» أو ما يُعرف أحيانًا بالـ«مانكويردا»، والتي تعني طريقة تعذيب تُربط فيها اليدان مرفوعتين بحبلٍ، ثم يُلقى الجسم في الهواء ليترنح، وزيادةً في الضغط على اليدين كانت الأثقال تربط في الأقدام.
أعلنت أمها إيزابيلا ذات مرة أنها تُفضل أن تكون بلادها خالية من السكان تمامًا، بدلًا من أن يسكنها أي مهرطقين، حتى لو كانت ابنتها من ضمنهم. لكنها في الوقت ذاته كانت تُسكت أي شائعة تتحدث عن معارضة جوانا لمحاكم التفتيش، أو حتى عداء ابنتها للكاثوليكية، وبدلًا من ذلك كانت تنشر شائعاتٍ عن ابنتها؛ «جوانا المجنونة»، فذلك أهون.
الابنة المتمردة تصبح «الوريث الشرعي»
حياة شاقة في بيت الأسرة تتحملها الفتاة على أمل أن يأتي الزوج الذي ينتشلها من جحيم العائلة لجنَّة الزوجية.
زواج جوانا تحقق، لكن للمرة الثانية تتشابه قصتها مع القصص التي تعرفها، زواجٌ مُرتب من فيليب «الوسيم». كان فيليب وقتها دوق «بورجوندي»، التي كانت مغنمًا حقًّا، فسوف نعرف الأراضي التي كانت تضمها حاليًا بأسماء بلجيكا، وفرنسا، وألمانيا، وهولندا.
في أغسطس (آب) عام 1496 خُطبت جوانا ذات السبعة عشر عامًا إلى فيليب، لكنه لم يأت ليُقلَّها فأرسلها والدها إليه. بعد شهر كامل في البحر برفقة حاشيتها المكونة من 22 ألف فرد، وبعد غرق ثلاث سفن من الأسطول الذي رافق جوانا، وصلت العروس إلى عريسها المنتظر. لم يستقبلها فيليب بنفسه بل استقبلتها أخته، مارجريت هابسبورج. مارجريت كانت زوجة خوان، أخو جوانا الأكبر، وابنة الإمبراطور الروماني المقدس، لهذا أراد أخو جوانا وأبوها تدعيم صلتهم به أكثر فزوَّجوها لفيليب.
 جوانا الملكة الإسبانية التي عُذبت لرفضها محاكم التفتيش الأندلسية 1-47
جوانا وفيليب
بعد عامٍ من زواج جوانا مات أخوها خوان، فتحطمت آمال أهلها في السيطرة على إمبراطورية الرومان المقدسة. ثم عاد الأمل ليداعبهم حين علموا أن مارجريت كانت حبلى، لكنَّها وضعت بعد شهور طفلًا ميتًا، فعادت الأسرة إلى يأسها. بعد أن كان خوان وريث عرش والديه المستقبلي، انتقلت ولاية العهد إلى ابنتهم الكبرى، إيزابيلا. لكن بعد شهرين من وفاة خوان، ماتت إيزابيلا وهي تلد طفلها، ميجان.
أصبح ميجان هو الوريث الشرعي لثلاثة عروش كاملة، عرش جدِّه، وجدته لأمه، وعرش أبيه. كان ميجان صغيرًا لم يدرك ضخامة ما ينتظره، ربما لو أدركه، لقاتل الموت الذي داهمه في 19 يوليو (تموز) عام 1500 قبيل عيد ميلاده الثاني. الآن لم يعد أمام الملك والملكة سوى التسليم بأن ابنتهما؛ «جوانا المجنونة»، أصبحت الوريث الشرعي الوحيد للحكم.
في عام وفاة ميجان نفسه، وضعت جوانا طفلها الثاني، والذكر الأول لها، تشارلز الذي سيُعرف فيما بعد في التاريخ بـ«شارل الخامس». في الفترة ما بين أعوام 1498 حتى 1507 أنجبت جوانا ستة أطفال، لكن تشارلز كان المميز لأنه سوف يرث قشتالة وأراجون وبورجوندي، إضافةً إلى ملك جدِّه لأبيه في وسط أوروبا.
ضغط هائل يقع على عاتق جوانا، فعليها أن تحافظ على ابنها بعيدًا عن الدسائس والقتل. لكن زاد من مأساتها اتحاد الفرقاء على عدم توليها عرش والديها، أو أن تصبح وصية على ابنها حين يتولى عرش أبيه وجده. فالكاثوليك لا يريدونها لأنها أكثر انفتاحًا وأقل كاثوليكية مما يجب، وأهل زوجها لا يريدونها، لأنها إسبانية غريبة عنه وكاثوليكية أكثر مما يجب.
جنة الزوجية المنتظرة تتحول إلى جحيم
هل تعرف القصة التقليدية التي تحكي عن فتاة تعاني في بيت أهلها وتنتظر الزواج ليُخلصها من معاناتها، ثم تقع  الفتاة في شرك زواجٍ أكثر مأساوية من بيت أهلها؟ لم تكن جوانا استثناءً من تلك السخرية التاريخية. تخلى فيليب عن زوجته، وغادر إلى بلاد مختلفة ولم يصبحها إلى أي بلد. وعندما اعترضت أرسلها لوالدتها التي حبستها في قلعة «لا موتا».
أمضت جوانا أيامًا تتجول في القلعة تثرثر وترفض النوم والطعام؛ طلبًا للعودة إلى أولادها وزوجها، وبعد إلحاحها عادت،  لتكتشف بعد أيام قليلة من عودتها، خيانات زوجها المتكررة. في تلك الحقبة كانت النساء تغض الطرف عن أفعال أزواجهن، لكن لأنها كانت مختلفة؛ فقد صرخت «جوانا المجنونة»، في زوجها، وشكته إلى كل من وصلهم صوتها.
 جوانا الملكة الإسبانية التي عُذبت لرفضها محاكم التفتيش الأندلسية 1--24
في إحدى المرات تعثَّرت ليلًا في امرأة كانت مع زوجها، لم تذكر كتب التاريخ عنها إلا أنها كانت سيدةً نبيلةً للغاية، فأمسكتها جوانا وقصت شعرها تمامًا. حاولت جوانا أن تستعيد زوجها لكنها لم تنجح أبدًا، في الجهة الأخرى أمر فيليب أمين ثروة جوانا، والمسئول عن جرد وإحصاء ممتلكاتها، بتسجيل كل أفعالها تفصيليًّا، ثم أرسل فيليب تلك التفاصيل لوالدتها، فثارت إيزابيلا.
ثورة إيزابيلا كانت على ابنتها لا على فيليب، لكنها لم تكن تثق في فيليب أيضًا. فحاولت أن تدبر مع زوجها فرناندو مرسومًا يجعل جوانا حاكمة لقشتالة حتى يبلغ ابنها تشارلز 20 عامًا، إذا ماتت إيزابيلا قبل ذلك، لكن فرناندو رفض ذلك تمامًا.
ماتت إيزابيلا عام 1504، وأصبحت جوانا قطعة شطرنج يحركها طرفان. صراع السلطة على قشتالة نشأ بين زوجها وأبيها، كلاهما صكَّ العملات واضعًا اسمه وصورته بجانب اسم وصورة جوانا. كل تلك الصراعات وجوانا ذات الخمس وعشرين ربيعًا لا تدري ماذا تفعل؟ أبوها وزوجها يضغطان عليها لتتنازل لأحدهما رسميًّا عن العرش.
رفضت جوانا التنازل، فأمر أبوها وزراءه بقراءة التفاصيل التي أرسلها فيليب سابقًا لأمها عن تصرفاتها، فأحيت تلك التفاصيل الشائعة القديمة التي نشرها الوالدان عن «جوانا المجنونة». ثم اجتمع فيليب وفرناندو وأختها كاثرين واتفقوا على تقسيم للسلطة والثروة في قشتالة، دون استشارة جوانا أو إعلامها، التي ثارت حين عرفت ذلك، لكن الثلاثة حرصوا أن يشهد أكبر عدد ممكن من الناس على إعلامها بالخبر؛ ليُصدق العامة ما يُقال حول جنونها.
عامان بعد ذلك الاتفاق، وتحديدًا في سبتمبر (أيلول) عام 1506، مرض فيليب وتوفي في غضون ستة أيام فحسب، ولمَّا يبلغ من العمر 28 عامًا. لكن 10 سنوات من المعاملة القاسية لم تغير الحقيقة التاريخية التي نقلها المؤرخون عن حب جوانا وولعها بفيليب منذ اللحظة الأولى. لكن باقي الحقيقة المتفق عليها، كانت أن فيليب لم يبادلها الحب إطلاقًا. رفضت جوانا أن تترك جثة زوجها أبدًا، رافقته طوال الطريق إلى غرناطة حيث مُستقر دفنه. ويُروى أنها فتحت نعشه أكثر من مرة وقبَّلت رأسه، وتقول بعض المصادر إنها فضلت السفر بجثته ليلًا ودفنه في الليل كي لا تفتتن به النساء!
«جوانا المجنونة» حبيسة القصر.. الابن يُكمل مسيرة جده وأبيه
طريق طويل قطعته جوانا الحامل في طفلتها السادسة، وآخر آثار زوجها فيليب. خلت الساحة لوالدها فرناندو بوفاة منافسه على السلطة، فأمر بطرد كل مناصري جوانا من القصر، كذلك أمر بحبسها في الدير الملكي في «سانتا كلارا» في «تورديسيلاس». في يناير (كانون الثاني) عام 1507 دخلت جوانا في آلام المخاض، لا قابلة تساعدها ولا أحد يشاركها الألم، وضعت ابنتها كتالانيا. لم تعلم جوانا بأن ابنها أصبح تشارلز أو شارل الخامس، ملك إسبانيا بعد وفاة زوجها، ولم تعرف حتى عن وفاة أبيها إلا بعد 11 عامًا. فبعد 11 عامًا في السجن أُطلق سراحها لفترة وجيزة ريثما يزورها ابنها تشارل الخامس.

جوانا الملكة الإسبانية التي عُذبت لرفضها محاكم التفتيش الأندلسية 1--10
شارل الخامس
زيارة تشارلز جرَّعتها الألم أكثر؛ إذ أمر بحبسها مجددًا ومنعها من مقابلة أي أحد. في تلك الزيارة رأى تشارلز أخته الصغرى كتالانيا التي كانت الأنيس الوحيد لأمها طوال أعوام عمرها البالغة 16 عامًا. رأى فيها فرصةً لتحالف سياسي جديد فسُرقت البنت من أمها ليلًا عام 1525 وزُوجت لملك البرتغال، خوان الثالث. لم يعد عند جوانا أي رغبة في النجاة، فاستسلمت لسجنها وصادقت صخور القلعة لمدة 20 عامًا إضافية بعد خطف ابنتها منها، وأصبحت بحق «جوانا المجنونة». لم تكن سنواتها في القلعة هادئة، بل أُجبرت خلالها على أداء الطقوس المسيحية في أحيان كثيرة تحت ضغط التعذيب والاعتداء الجسدي.
ماتت «جوانا المجنونة»، في عام 1555 ودُفنت بعيدًا عن والديها، لتكون بجوار زوجها الذي ظلت متمسكةً بحبه. مرورها بكل تلك المآسي يجعل إصابتها بالجنون أمرًا منطقيًّا، وقد اتفق المؤرخون على أنها ربما عانت في نهاية حياتها من أمراض عقلية نتيجة الظلم المتتابع والعزلة، لكن في الأونة التي أعلن فيها أبوها وأمها وزوجها ذلك؛ لم تكن «جوانا المجنونة».

حاليًا يمكن تفسير بعض التصرفات التي ارتكبتها «جوانا المجنونة»، بإصابتها بأمراض مثل الفصام أو الاكتئاب الحاد بعد تعرضها للأزمات المتكررة في حياتها، وكذلك اكتئاب ما بعد الولادة. لكن الأباطرة الثلاثة الذين أحاطوها حرصوا على أن يندرج كل ذلك تحت مُسمى واحد «الجنون»، ربما يُعذرون بجهلهم بأنواع الأمراض النفسية وتفاصيلها، لكن لا يعذرون في أنهم كانوا سببًا أساسيًّا، أو ربما وحيدًا، فيما حلّ بها، ولا يُعذرون بالطبع في استخدامهم جوانا وحديث جنونها بيدقًا على رقعة شطرنج، من أجل إحكام القبضة على السلطة.








المصدر:مواقع ألكترونية