300 ألف عام من الخوف.. تحديات وجودية تواجه رحلة البشر
300 ألف عام من الخوف.. تحديات وجودية تواجه رحلة البشر 1557
على أرفف المكتبات يطالع القارئ المصري غلافاً غير تقليدي لكتاب صدر حديثاً عن الدار المصرية اللبنانية بعنوان "300 ألف عام من الخوف: قصّة البشر من بداية الكون إلى التوحيد".
يتوسّط غلاف الكتاب إنسان بدائي، تحيطه من الاتجاهات كافة أنوار مدينة حديثة برّاقة ومبانيها الشاهقة وإعلانات الطرق.
تتّسق تلك التناقضات الجلية مع محتوى الكتاب الذي يقدّمه الدبلوماسي والكاتب المصري جمال أبو الحسن، في محاولة لرصد ملامح التاريخ البشري الحافل منذ العقود السحيقة، إذ رصد فيه تراكم المعرفة والوعي الإنساني منذ مراحل الصيد وجمع الثمار، مروراً بتأسيس الجماعات، ثم الاستقرار وبناء المدن، وتشييد الحضارات القديمة، و تشكيل لبنات الحياة المعاصرة الأولى.
غير أن "300 ألف عام من الخوف" لا يُعتبر رحلة تاريخية محضة، وإنما جولة معرفية تلجأ لتخصّصات علمية متباينة، تجيب على أسئلة متشابكة بشأن ماهية العالَم والحياة ورحلة الإنسانية.
عالَم القلق
وفيما يستهدف الكتاب رواية قصّة الجماعة الإنسانية منذ عصور ما قبل التاريخ، إلا أن صفحاته الأولى تنطلق من واقعنا المعاصر، وبالتحديد من أزمة تفشّي جائحة كوفيد– 19 وفترة الإغلاق الكُلي، إذ يستعرض رسالة بريدٍ إلكتروني مفعمة بالقلق والتوتر تُرسلها الإبنة اليافعة ليلى لأبيها مؤلّف الكتاب، تشاركه فيها مخاوفها وآلامها في ضوء الإصابة بالفيروس، والاضطرار للعزلة الإجبارية في غرفتها، ومن ثم مراقبة العالَم عبر نافذتها وشاشة هاتفها.
في ضوء فزع ليلى، يقرّر الأب أن يهدّئ من روع ابنته، فيشاركها عبر 10 رسائل، هى فصول الكتاب، قصّة البشرية وتحدّي السعي للبقاء، الذي أورث الإنسان المعاصر مشاعر الخوف والقلق المقيمة، حافزه الأصلي على النجاة والتأقلم والتطوّر على مدار تاريخ الإنسان العاقل، منذ ظهوره على سطح الأرض قبل 300 ألف عام كما يروي.
ويقول أبو الحسن خلال الفصل الأوّل:"الإنسان الصياد عاش أسيراً للخوف من الضواري وكوارث الطبيعة المتنوّعة، والإنسان المزارع عاش تحت رحمة الفيضان المدمّر أو موجات الجفاف أو الأمراض القاتلة التي لا يعرف لها سبباً. الإنسان اليوم يعيش في مجتمعات بالغة التركيب والتقدّم التكنولوجي، لكن هذه المجتمعات قد تتوقّف عن العمل فجأة بسبب كائن لا يمكن رؤيته بالعين المجرّدة، كما حدث مع كورونا التي أقعدتنا، أنا وأنت، حبيسين نتبادل هذه الرسائل".
لكن الكاتب لا يبدأ قصّة البشرية الشيّقة منذ عصور الصيد والجمع، بل يعود إلى لحظة الانفجار الكبير، ومن ثم ظهور كوكب الأرض، وصولًا للحياة في صورها البدائية قبل أن تتعدّد أشكالها وأطيافها وتنعم بها مختلف الكائنات.
نظرة طائر محلّق
تتقاطع قصّة الكاتب مع مختلف المجالات العلمية على مدار فصول الكتاب العشرة، كي يتمكّن من الإجابة على "الأسئلة الكبرى" كما يصفها، بشأن ماهية الحياة والطبيعة البشرية وجذور الخوف والعنف والتضحية والتعاطف.
ويعرّج على علوم الأحياء ليفسّر مظاهر الحياة الأولية في صورة الخليّة، وعلم الوراثة ليشرح "شيفرة الحياة" أو الحامض النووي، وعلوم الفيزياء والكيمياء لتفسير علاقة الإنسان الوثيقة بالطاقة، فضلاً عن الأنثربولوجي واللغويات وعلم النفس والتاريخ والفلسفة.
يصف الكاتب المصري جمال أبو الحسن لـ "الشرق" كتابه برؤية طائر محلّق شاملة وواسعة، تتضمّن علوماً مختلفة، وتجيب على أسئلة تشغل القارئ غير المتخصّص.
يلفت أبو الحسن إلى أن"الكتاب ينتمي لفئة كتب التاريخ الكبير التي تطرح نظرة شاملة وتتقاطع مع علوم مختلفة، مثل علوم الأحياء والإنسان والمناخ وغيرها، لتشكيل تاريخ كبير للظروف الطبيعية المرتبطة بحياة الإنسان، منذ بداية الكون وحتى التاريخ المعاصر ، عن طريق الإجابة على أسئلة تهمّ القارئ".

غواية العِلم
على الرغم من تنوّع القضايا العلمية التي يتطرّق إليها الكاتب، إلا أن لغته تبقى يسيرة، كما يعتمد على الحوار المتبادل مع ابنته التي تتلقّى رسائله الإلكترونية، فيعقد مقارنات ويطرح نماذج مرتبطة بالحاضر لتفسير المفاهيم العلمية.
كما يعتمد على الأمثلة الشعبية والأقوال المأثورة وحتى المستحدثات السلوكية، فيوازن على سبيل المثال بين أسلوب الإنسان العاقل في بناء جماعته وسلوك التلصّص الإلكتروني.
لجأ الكاتب إلى تلك النبرة كي تلائم شرائح متباينة من القرّاء، في مقدمّهم الشباب واليافعين من المستويات العلمية المتفاوت، كما يوضح لـ"الشرق"، من دون أن يلجأ لنهج تبسيط العلوم تماماً.
يقول: "اخترت ذلك النمط من حكاية الرحلة الإنسانية للإجابة على الأسئلة التي قد تشغل الشباب، لكنهم سرعان ما يتجاهلونها أو ينشغلون عنها. أودّ ألا يخجلوا من تلك الأسئلة، بل يجدون إجابات عليها، مثل السؤال عن الهدف من الحروب، وموضوع الخير والشر وغيره".
وأضاف: "هناك إقبال على القضايا العلمية بين الشباب، وأبلغ مثال على ذلك برنامج الدحيح شديد الشعبية، لكن المعروض في المجالات العلمية أو الكتابات غير الأدبية Non-Fiction ما يزال محدوداً".
لذا، يعتبر أبو الحسن أن كتابه "يمثّل درجة وسيطة ما بين الكتابة الأكاديمية وتبسيط العلوم، غير أنها تستهدف جذب القرّاء بوجهٍ عام والشباب منهم بشكلٍ خاص للإقبال على العلوم.
ويتابع: "علينا أن نميّز بين التقاطع مع العلوم في سياق التعليم والقراءة الحرّة التي يتوجّه إليها القارئ حديث السن برغبته واختياره، وعلى الرغم من أن نمط التاريخ الكبير لا ينتمى لأعمال تبسيط العلوم، إلا أنه يعمل كالمنادي أحياناً الذي يلفت نظر الشباب للقراءات العلمية المعمّقة، أي يغويهم للتقاطع مع العلوم".

الشيفرة الاجتماعية
تناقش فصول الكتاب جوانب أخرى من الحياة الإنسانية مستعينةً بالعلوم الاجتماعية، ويركّز الكاتب على تطوّر الوعي الإنساني، وظهور اللغات، وآليات العدّ والحساب وارتباطها باكتشاف الإنسان للزراعة، وما أدّى إليه ذلك الاكتشاف من تغيّرات إلى غير رجعة في "الشيفرة الاجتماعية" للحياة البشرية.
يقول الكاتب في الفصل السابع من كتابه: "بخلاف الإنسان الصياد الرحال، فإن الإنسان المزارع يفهم فكرة الملكية. ومع ظهور الملكية تبرز الحاجة لحمايتها في مواجهة الطامعين. الملكية تصاحبها وكما هو الحال في مجتمعاتنا اليوم منازعات. صاحب السلطة هو شخص يتوافق الناس على أنه الأقدر على تسوية هذه المنازعات بين أعضاء المجتمع".
ظهور اللبنات الأولى للجماعة تطلب أيضاً ظهور طقوس عبادة الشمس والنار، ثم آلهة الحضارات القديمة ورؤى ومعتقدات خرافية أخرى تسعى لتفسير المجهول بشأن الكون وفقاً للكاتب.
كما أدّى النمو المستمرّ في حجم السكان إلى ظهور تغيّرات في الملامح الجغرافية والسياسية لأوطانهم، فتظهر القرية والمدينة ثم الدولة بما تشمله من ملامح تنظيمية ضابطة للسلوك البشري، كالثواب والعقاب والبيروقراطية وصولاً إلى القانون.
مهد الحضارة
يتطرّق الكاتب إلى حضارات العالَم القديم ورموزه وفلاسفته، فيرصد ملامح الحضارة المصرية وحضارات الصين والهند، فضلاً عن الحضارات اليونانية والرومانية والإمبراطوريات الكبرى، وما خلّفته من فلسفاتٍ ومفاهيم، إلا أنها ما تزال تشكّل جزءاً من الواقع المعاش بعد أن صقلتها السنون، كالديمقراطية.
ويخصّص القسم الأكبر من فصله الأخير لمرحلة ظهور الأديان التوحيدية، وأثرها على بنية المجتمعات، فيما تعتمد تجارب التاريخ الكبير عادةً على رصد التاريخ وصولًا للحاضر، غير أن أبو الحسن يفسّر اختيار مرحلة ظهور الأديان الإبراهيمية كالخاتمة المناسبة لكتابه فيقول: "ظهور الأديان التوحيدية حدث محوري في العصور الكلاسيكية من التاريخ، وقد استمر خلال العصور الوسطى ولاحقاً خلال عصر النهضة".

وأضاف: "علينا أن نضع في الاعتبار أن الفترة محلّ النقاش في الكتاب تُعتبر الفترة التكوينية الأكثر إثارة للقارئ، إذ إن التاريخ الحديث والمعاصر يتميّز بالاكتشافات والتطبيقات التكنولوجية فقط، بينما وضعت البنية العملية منذ البداية وحتى عصور التوحيد، ومازلنا نستند حتى اليوم إلى أفكار وفلسفات وأديان ظهرت في تلك الفترة".
ويختم الكاتب حديثه مع الشرق قائلاً: "أتمنى أن أكمل هذا العمل بجزءٍ ثانٍ، لكن الأمر يتوقّف على استقبال القرّاء للكتاب، وأنا بدوري أهديه للشباب الذين يشعرون بوطأة الأسئلة الكبرى المتعلّقة بالإنسانية والمسار والمصير".




الصدر:مواقع ألكترونية