في نقد خطاب العَداء الأمازيغوفوبي: رشيد بن عيسى 2
من العناصر التي كان من الممكن أن تقدم بعض الدعم لفرضية ڭرينبورڭ القائلة بأن أصل اللغات الإفريقية الأسياوية هو اللغة المصرية القديمة هو أن منطقة إثيوپيا ـ إيريتيريا القريبة من مصر كانت هي الموقع الذي اكتشف فيه علماء الحفريات أقدم البقايا للإنسان العاقل الذي يسميه الأخصائيون بالهوموساپيان. فأقدم بقايا للهوموساپيان المتقدم (الذي يعتبر حلقة رابطة بين الإنسان المعاصر وأشكال أخرى بدائية للكائن الإنساني) اكتُشف في كينيا ويعود زمان حياته إلى 300000 ق.م. (براور 1997). ليظهر الإنسان العاقل بالمواصفات المعاصرة حوالي 160000 ق.م وجدت بقاياه في إثيوپيا (ما يُسمى بإنسان هيرطو). لذلك فبعض العلماء مثل سپرينڭر (2003) اعتبروا هيرطو حاملا لأقدم السمات الفزيولوجية للإنسان المعاصر التي من بينها اتساع الجمجمة (1450 مل). وعليه فإن ظهور اللغة الإفريقية الأسياوية الأصلية بهذه المنطقة، كما يفترض ڭرينبورڭ، فكرة مبررة ومنسجمة مع المعطيات الحفرية التي تشهد لظهور أقدم شكل إنساني بهذه المنطقة.
إلا أن نتائج رائز الإشعاع الحراري الذي طبق على بقايا إنسان إيغود (5 أفراد) في بحث طويل بدأ في 1981، أثبت أن هذا الإنسان هو من نوع الهوموساپيان القديم وأنه حياته كانت على الأرض منذ أكثر من 300000 سنة. وهذا مما لم يأخذه ڭرينبورڭ بعين الإعتبار لأنه توفي في 7 ماي 2001، أي حوالي 16 سنة قبل اكتشاف إنسان إغود.. فبحسب الباحث الفرنسي جون جاك هوبلان الذي درس بقايا إنسان إيغود أن هذا الإنسان من نوع الهوموساپيان (الإنسان العاقل) بدون شك لا يختلف عنه إلا في طول جمجمته الذي يشترك فيه مع إنسان نياندورتل الأكثر بدائية من الهوموساپيان القديم.
فالأرجح إذن أن أصل ما يسمى باللغات الإفريقية السامية يوجد في إفريقيا ، حيث توجد الأمازيغية، وليس في آسيا، حيث توجد العربية (مما يُكذِّب أيديولوجية “أتووا من اليمن والشام” بشكل لا رجعة فيه)، وأن الأرجح أن الإنسان الذي كان يتكلم هذه اللغة الأصلية كان يعيش في شمال إفريقيا (المغرب تحديدا).
من العناصر التي من الممكن أن يستند إليها كريستوفر إهيرت، أستاذ التاريخ الافريقي واللسانيات التاريخية الافريقية (والذي عرف بجمعه بين التحليلين اللساني والأركيولوجي)، في كتاب عنوانه “Reconstructing Proto-Afroasiatic (Proto-Afrasian): Vowels, Tone, Consonants, and Vocabulary في اعتقاده بأن اللغة الأفرو أسياوية الأصلية ظهرت أول ما ظهرت في منطقة إثيوپيا ـ إيريتيريا أن هذه المنطقة هي المكان الذي وجد فيه علماء الحفريات أقدم البقايا للإنسان العاقل الذي يسميه الأخصائيون بالهوموساپيان الذي ننتمي إليه تاريخيا. فأقدم بقايا للهوموساپيان المتقدم (الذي يعتبر حلقة رابطة بين الإنسان المعاصر وأشكال أخرى بدائية للكائن الإنساني) اكتُشف في كينيا ويعود زمان حياته إلى 300000 ق.م. (براور 1997). ليظهر الإنسان العاقل بالمواصفات المعاصرة حوالي 160000 ق.م وجدت بقاياه في إثيوپيا (ما يُسمى بإنسان هيرطو). لذلك فبعض العلماء مثل سپرينڭر (2003) اعتبروا هيرطو حاملا لأقدم السمات الفزيولوجية للإنسان المعاصر التي من بينها اتساع الجمجمة (1450 مل). وعليه فإن ظهور اللغة الأفرو أسياوية الأصلية بهذه المنطقة، كما يفترض إيهيريت، فكرة مبررة ومنسجمة مع المعطيات الحفرية التي تشهد لظهور أقدم شكل إنساني بهذه المنطقة.
إلا أن نتائج رائز الإشعاع الحراري الذي طبق على بقايا إنسان إيغود (5 أفراد) في بحث طويل بدأ في 1981، أثبت أن هذا الإنسان هو من نوع الهوموساپيان القديم وأنه حياته كانت على الأرض منذ أكثر من 300000 سنة. وهذا ما سيغير نظرتنا لكثير من الأمور. فبحسب الباحث الفرنسي جون جاك هوبلان الذي درس بقايا إنسان إيغود أن هذا الإنسان من نوع الهوموساپيان (الإنسان العاقل) بدون شك لا يختلف عنه إلا في طول جمجمته الذي يشترك فيه مع إنسان نياندورتل الأكثر بدائية من الهوموساپيان القديم.
ومن نتائج هذا الإكتشاف الجديد أن ظهور اللغة الأفرو أسياوية الأصلية في منطقة إثيوپيا ــ إيريتيريا لن تعود لها نفس الجاذبية لأنها ستكون قد حرمت من أساسها الأركيولوجي (الحفري).
لكن ما هي اللغة التي كانت يتحدث بها إنسان إيغود؟ أليس من السذاجة أن ندعي بأن إنسان إيغود، الذي هو أقدم حلقة في سلسلة تطور الإنسان العاقل نعرفها اليوم، كان يستعمل لغة ما؟
لقد أثبت البحث الذي أنجزه رالف هولوواي (1981) حول البناء الداخلي للإنسان المستقيم البنية الذي عاش في إفريقيا Homo Erectus egaster أن دماغ هذا الكائن الإنساني القديم غير متماثل بمعنى أن فصّي دماغه لم يكن لهما نفس الشكل والوظائف. وهذا عين ما يتميز به الإنسان العاقل المعاصر الذي يتوفر على فصين دماغيين يقوم كل منهما بوظيفة خاصة. فينجز الفص الأيسر مهام مرتبطة باللغة وإنتاج الرموز وفهمها، بينما يتكلف الفص الأيمن بمهام أخرى كالتفكير الفضائي (مثلا: التنسيق بين ما تدركه العين وما تفعله العين).
أضف إلى هذا أن المسح الدقيق لجهاز النطق عند الإنسان الإفريقي ذي البنية المستقيمة Homo Erectus egaster بين بأن هذا الجهاز يمكنه من إنتاج أصوات لغوية كثيرة مختلفة وبسرعة عالية يحتاج إليها الإنسان في التواصل. يضاف إلى كل هذا أن المهام التي كان ينجزها الإنسان الإفريقي ذو البنية المستقيمة كصناعة الأدوات المعقدة نسبيا، والتحكم في النار، والتعايش مع ظروف بيئية مختلفة، كانت مهام معقدة يحتاج فيها الإنسان البدائي للتعاون الذي لا يقوم إلى بالتواصل.
وفي نفس السياق سيثبت طوبيان أن إنسان الهومو هابيليسHomo Habilis (الذي اكتشفه ليكي سنة 1960) يُظهِر نفس ثنائية الفص وإسقاطا واضحا لمنطقة “بروكا” المسؤولة عن استعامل اللغة الإنسانية.
فإذا كانت أحوال Homo Erectus و Homo Habilis الفزيولوجية تسمح لهما بالتواصل، وإذا كانت أحوالهما الإجتماعية تفرض ذلك، فكيف لا تفعل ذلك بالنسبة للإنسان العاقل الأكثر تطورا؟
لا مناص إذن من النتيجة التي مفادها أن إنسان إيغود كان يتوفر على كل المقومات الفزيولوجية والوظيفية لاستعمال اللغة، أكثر بكثير من أجداده الهومو هابيليس والهومو إيريكتوس! لكن ما هي اللغة التي كان يستعمل إنسان إيغود؟ هل كان إنسان إيغود يتحدث بصورة قديمة للغة الأمازيغية مادام كان يعيش في نفس الأرض التي ستظهر فيها القبائل والممالك الأمازيغية؟
الأمازيغ امتداد لإنسان إيغود
ينبني النموذج التاريخي الذي بناه كامپ (صاحب كتاب “أصل الأمازيغ” 1981)، انطلاقا من المعطيات الحفرية المتوفرة لديه، على فكرة مفادها أن الشعوب الأمازيغية تتكون من ثلاث “طبقات” أنتروپولوجية أقدمها إنسان العصر الحجري الوسيط الذي عاش في شمال إفريقيا 30000 و12000 سنة ق.م والذي ورث صناعة الأدوات الحجرية مباشرة من الإنسان الموستيري (الذي كان من نوع النياندورتل). وثانيهما إنسان “مشتا أفالو” الذي عاش في منطقة شمال إفريقيا منذ حوالي 20000 سنة ق.م.، وكان طويل القامة يشبه الماكرماڭنون الأوروپي لكنه أصيل في شمال إفريقيا. ثم يأتي الإنسان القفصي الذي أدخل الثقافة الحجرية إلى المنطقة اختُلف حول ما إذا كان أصيلا بالمنطقة أم قادما إليها من منطقة فلسطين.
ومن المهم أن نذكر في هذا السياق أن الإنسان القفصي لم يقض على سابقه المشتاوي بل استوعبه وتدافع معه في الأرض حتى قيل إن كثيرا من المشتاويين انتقلوا نحو ساحل المحيط الأطلسي ثم جنوبا نحو الصحراء. فمن هذا الخليط انحدرت القبائل والممالك الأمازيغية.
إلا أن العنصر الجديد الذي يضيفه اكتشاف قدم إنسان إغود (300000 سنة ق.م) أن أصل هذا الخليط الأنتروپولوجي ليس هو إنسان العصر الحجري الوسيط الذي عاش في شمال إفريقيا حوالي 12000 سنة قبل الميلاد، بل يمتد إلى أبعد من ذلك كثيرا في عمق التاريخ … فإذا كان إنسان العصر الحجري الوسيط امتدادا لإنسان إغود، والإنسان المشتاوي امتدادا لإنسان العصر الحجري، والإنسان القفصي مستوعبا للإنسان المشتاوي ومتجاوزا له، والإنسان الأمازيغي امتدادا لكل هؤلاء، فإن الإنسان الأمازيغي هو وارث التراكمات الثقافية لكل هؤلاء (كامپ 1981) التي من بينها اللغة. فهل هناك ما يدل على أن اللغة الأمازيغية قد احتفظت لنا بصورة أعرق لغة تحدث بها الإنسان العاقل البدائي الأول؟ هل هناك دليل يدل على عراقة الأمازيغية بقدر عراقة إنسان إغود؟ وللأسف لم يسجل إنسان لغته حتى نقرأها اليوم، لكننا نستطيع أن نلمس في بنية الأمازيغية ملامح أقدم لغة تكلمها الإنسان. لنشرح.
عراقة اللغة الأمازيغية
من اللسانيين الذين أدركوا عراقة اللغة الأمازيغية اللساني البريطاني بوب جونز موريس الذي لاحظ أن أقرب نظام تركيبي لتركيب لغة الويلش السابقة تاريخيا عن اللغة الهندوــ أروپية القديمة هي اللغة الأمازيغية، خصوصا في نسختها اللهجية التي تسمى تاماشيقت (أنظر رينان 1873). لذلك فالبحث في معجم الأمازيغية وبنائها سيمكننا من فهم أعرق أساليب التعبير والتفكير. يؤمن بعض الأنتروپولوجيين المعاصرين مثل سيدريك ليونارد أن الأمازيغية وباسكية الپيرينيس هما المفتاحان اللذان نملكهما اليوم لفهم أقدم التجليات الحضارية الإنسانية.
مقتضى “دلائل قِدم الأمازيغية وعراقتها” أن هناك من مباني اللغة الأمازيغية ما يحمل أمارات العراقة مما يندُر وجوده في باقي اللغات وما يُحْتاجُ له في تفسير ظواهر لغوية مختلفة في لغات أخرى يعسُر فهمها بدون ردّها لأصلها الأمازيغي. من “دلائل القدم” التي وقفنا عليها: (1) دليل “الضمائر غير الشخصية”، و(2) دليل “المعانى على الحقيقة”، و(3) دليل “الجذور البسيطة”. وفي ما يلي بيان هذه الأدلة وتفصيلها.
أولاــ دليل “الضمائر غير الشخصية”
مقتضى هذا الدليل أن اللغة الأمازيغية تتضمن نظامين من الضمائر أحدهما معقد وحديث وثانيهما بسيط وحامل لأمارات القدم وكل الأدلة تدل على النظام الضميري البسيط القديم ورثته اللغات الأفرو أسياوية والهندو أوروپية بشكل فقد كمال هذا النظام الأمازيغي الأصلي. لنشرح.
من الضمائر المعقدة في الأمازيغية: نكّي ⵏⴽⴽⵉ (تنطق أيضا: نيك ⵏⵢⴽ ، ونشي ⵏⵛⵉ) ، وكيّي ⴽⵢⵢⵉ (تنطق أيضا كيّين ⴽⵢⵢⵉⵏ وكايونان ⴽⴰⵢⵓⵏⴰⵏ)، وكمّي ⴽⵎⵎⵉ (تنطق أيضا كم ⴽⴻⵎ وكمّونان ⴽⵎⵎⵓⵏⴰⵏ)، وغيرها. الجامع بين هذه الضمائر أنها تعرب فواعل وأنها تحمل سمات الجنس والعدد والشخص. لكن هناك ضمائر أخرى في الأمازيغية يكاد يختفي استعمالها في هذه اللغة تحمل سمات الجنس والعدد، ولكنها لا تحمل سمات الشخص، وهي: الضمير المفرد المذكر: وا ⵡⴰ (تنطق أيضا وو ⵡⵓ) و الضمير المفرد المؤنث: تا ⵜⴰ (تنطق أيضا تو ⵜⵓ)، والضمير الجمع المذكر: وي ⵡⵉ والضمير الجمع المؤنث: تي ⵜⵉ من خصائص هذه الضمائر أنك تجدها مدمجة في غيرها من البُنى لا تكاد تستقل بنفسها، كما في قولك وا ـ لّي يدّان ⵡⴰⵍⵍⵉ ⵢⴷⴷⴰⵏ “ذاك الذي ذهب”، وتا ــ لّي يدّان ⵜⴰⵍⵍⵉ ⵢⴷⴷⴰⵏ تلك التي ذهبت. بل إن هذه الضمائر تدمج دمجا في أسماء الإشارة فلم تعد تتميز عنها كما في غُّاد ⵖⵖⵯⴰⴷ “هذا” (تنطق بغين مدورة) و ختاد ⵅⵜⴰⴷ “هذه” (تنطق بخاء غير مدورة). فالأصل في غُّاد ⵅⵜⴰⴷ غ ــ وا ــ آد (التي معناها الحرفي: “في هذا الذي” حذفت واوها بعد أن دوّرت الغين ودُمج مد حرف الوصل فيها آد ⴰⴷ في مدّ الضمير وا ⵡⴰ)، والأصل في ختاد ⵅⵜⴰⴷغ ــ تا ــ آد (التي معناها الحرفي: “في هاته التي” هُمِست غينها تأثرا بتاء الضمير تا ⵜⴰ المهموسة ودُمج مد حرف الوصل فيها آد ⴰⴷ في مدّ الضمير تا ⵜⴰ).
من مظاهر قدم هذه الضمائر التي بينها اللساني النمساوي الهنغاري ويرنر ڤيسيشل (في مقال له سنة 1957 عنوانه “أداة التعريف في الأمازيغية”) أنها أدمجت في الأسماء حتى صارت أدوات تعريف. من ذلك قولك أفوناس ⴰⴼⵓⵏⴰⵙ أصلها وافوناس ⵡⴰⴼⵓⵏⴰⵙ (أداة التعريف فيها الضمير وا ⵡⴰ)، وتافوناست (تدل تا ⵜⴰ على المفرد المؤنث فيها، وهي عين الضمير المفرد المؤنث)، وئيفوناسن ⵉⴼⵓⵏⴰⵙⴻⵏأصلها ويفوناسن ⵡⴰⴼⵓⵏⴰⵙⴻⵏ (أداة التعريف فيها الضمير وي ⵡⵉ)، وتيفوناسين ⵜⵉⴼⵓⵏⴰⵙⵉⵏ (تدل تي ⵜⵉ فيها على الجمع المؤنث، وهي عين الضمير الجمع المؤنث). ومن الأدلة القوية على حدوث هذا الإدماج أن هناك بعضا من الأسماء الأمازيغية لا زالت تحتفظ بالضمير كاملا كما في واڭرزام ⵡⴰⴳⵔⵣⴰⵎ “الفهد” (تنطق أيضا أڭرزام ⴰⴳⵔⵣⴰⵎ) و ويتريكن ⵡⵜⵔⵉⴽⴻⵏ “نوع من العشب” (لم تحذف واو ضمير الجمع المذكر فيها).
من أمارات القدم أيضا في هذه الضمائر أنها إشارية deictic بمعنى أنها لا تدل على معنى مجرد بل تحيل على أشخاص كما تحيل أسماء الإشارة على مواضيعها في سياقات معلومة. ومعلوم أن الإشارة أسبق زمنيا من المعاني المجردة وألصق منها بمقام الكلام الذي لا يُتَصوّر أن يبتعد عنه عقل الإنسان البدائي الأول بعميق التجريد وبعيده.
من اللغات التي احتفظت بجزء من هذا النظام الضميري لغة “البداوي” أو “تابداوي” Beja التي يتحدث بها حوالي مليوني شخص في الساحل الغربي للبحر الأبيض المتوسط حيث تستعمل هذه الضمائر أدوات تعريف شكلها كما يلي:
وو … (بواو ممدوة): المفرد المذكر
تو … (بواو ممدودة): المفرد المؤنث
يا … (بألف ممدودة): الجمع المذكر
تا … (بألف ممدودة): الجمع المؤنث
فقد اكتسبت هذه الأدوات مَدّها من علامات إعراب الفاعل في لغة البداوي وهو ما حرف نطقها عن أصله في الأمازيغية. ومما يدل على أن أصلها قديم يوجد في غير هذه اللغة (أي في الأمازيغية) أن البداوي تستعملها بصورتها الضعيفة (أدوات التعريف) ولا تستعملها بصفتها القوية (الضمائر الإشارية).
واحتفظت اللغة الهندو أوروپية القديمة بضمير واحد من هذا النظام وهو وا، ألحقت به سينا فصار “سوا”. فتحول هذا الضمير إلى “هڤا” في الهندية القديمة، و”هو” في اللغات السامية، و”سوڤاس” في اللاتينية القديمة التي منها الضمير غير الشخصي soi في اللغة الفرنسية (معجم اللغات الأوروپية الأسياوية). إلا أن هذه اللغات فقدت الجزء الأكبر من هذا النظام الضميري غير الشخصي أو أدمجتها في نظام ضميري شخصي. فتتميز الأمازيغية عليها كلها باحتفاظها بنظامين كاملين: الشخصي وغير الشخصي.
ثانياــ دليل “المعنى على الحقيقة”
ومقتضى هذا الدليل أن إذا بحثت في المشترك المعجمي بين اللغة الأمازيغية وغيرها من اللغات، فإنك ستلاحظ أن الأمازيغية تستعمل هذا المشترك بالمعنى المجازي المولّد، كما في اللغات الأخرى، ولكنها كثيرا ما تنفرد باستعمالٍ على الحقيقة لهذا اللفظ يندر أن تجده في اللغات الأخرى، مما يدل على احتواء هذه اللغة على أعرق الإستعمالات اللغوية. من الأمثلة على ذلك لفظة ئڭر ⵉⴳⴻⵔ التي تعني “الحقل”. فأنت تجد ما يوافق هذه الكلمة لفظا ومعنى في العديد من اللغات في العالم كله، منها Agr “أڭر” في اللاتينية (التي منها Agriculture، وأكراز Akraz.. “الحقل، المرعى” في الجرمانية الأصلية، وأڭروس Agros في اليونانية القديمة، وإكّير ekker في الفريزية القديمة، وآشر acer في الإنجليزية القديمة، وأجراس ajras في السنسكريتية. إلا أن ما تتميز به الأمازيغية أنها تتوفر على الألفاظ ذات نفس الجذر التي تحمل المعنى الأصلي الموضوع على الحقيقي (غير المجازي) وهو معنى “الإلقاء بالشيء”. فالأصل في معنى الحقل معنى “المكان الذي يلقي لك بثماره” ومعنى “الطلوع” المتعلق بطلوع الزرع والنبات. من ذلك في الأمازيغية مادة ڭر ⴳⴻⵔ (وهي المادة 280 في قاموس حدادو) تفيد معنى “ألقى بالشيء” وهو فعل ڭر ⴳⴻⵔ، منه تاڭوري ⵜⴰⴳⵓⵔⵉ وهي “الكرة” أو “القبضة من النار تلقي بها”. منه أيضا فعل ئڭير ⵉⴳⵉⵔ يقال عن النخيل إذا ألقى بتمره. فالأصل إذا هو “الإلقاء” و”الطلوع”، والفرع هو معنى “الحقل” والفلاحة”. فتنفرد الأمازيغية بجمعها بين الأصل والفرع، وتكتفي باقي اللغات بالفرع دون الأصل.
المثال الثاني الذي أقدمه هنا لأبين لك عراقة المعنى الأمازيغي متعلق باللفظة “أيّور”. فعندما تدرس هذه اللفظة في الأمازيغية تجد أنها تجمع بين الأصل المبني على الحقيقة (المعنى غير المجازي) والفرع المبني على المجاز. فالمادة ير ⵢⵔ، وهي المادة 910 في معجم حدادو، تلهج بأشكال مختلفة ك ئيور ⵉⵢⵓⵔ وأيّور ⴰⵢⵢⵓⵔ وؤير ⵓⵢⵔ (في لهجة غدامس) تعني “القمر” و”الشهر القمري” كليهما. أما إذا بحثت عن هذا الأصل في اللغة الهندو أوروپية الأصلية، فإنك ستجد المادة يير yr تعني “سنة” و”موسم” لا تفيد معنى “القمر” أو أي شيء مما كان يستدل به الإنسان البدائي على الزمان. من هذا الأصل جاءت year الإنجليزية وهورا hora اليونانية التي تعني أي جزء من السنة بما فيها الشهر، وأي جزء من اليوم بما فيها الساعة (منها hour الإنجليزية و heure الفرنسية). منها أيضا jahr بالألمانية و “شهر” بالعربية، وjaru بالسلاڤونية، وغير ذلك كثير مما تمدنا بها المعاجم الإتيمولوجية.
مثال ثالث نوضح به عراقة المعنى الأمازيغي لفظ غير متداول وهو لفظ ئيري ⵉⵔⵉ جمعه ئيران (المادة 671 من معجم حدادو) وهو يعني في أمازيغية الأطلس المتوسط “الحد بين أرضين” و”المنطقة من الأرض التي تُحد بأثرين صنعتهما الآلة” ( lisière بالفرنسية). و بقليل من البحث في المعاجم الإتيمولوجية العلمية ستكتشف أن هذا هو الأصل الذي بنيت عليها ألفاظ “الأرض” في العربية و”إيريتز” في العبرية وearth في الإنجليزية وئرثا erthe في الفريزية القديمة. وبمزيد من البحث ستكتشف أن الصوت الأخير المضاف إلى هذه الكلمات لم يكن أصليا بل أضيف لاحقا إلى هذه الألفاظ. والدليل على ذلك لفظة ئيرا era في الإغريقية القديمة تعني “الأرض” وئيرو erw في السلتية يعني “فلح الأرض”. والأصل في الصوت المضاف هنا يتضح من خلال البحث في اللفظ الدراڤيدي “ريڭادي” يتكون من جزئين أحدهما “ري” وهي “الطين” وثانيهما “ڭادي” وهي “القطعة من الشيء”، فيكون معنى اللفظ كاملا “القطعة من الطين”.
ثالثاــ دليل الجذور البسيطة
مقتضى هذا الدليل أن الأمازيغية تحتوي على أنواع مختلفة من الجذور أقدمها في هذه اللغة جذور تتكون من صائت واحد مضعّف، وهذا عين ما يُتَصوّر أن يبدأ به الإنسان البدائي معجمه. فالجذور الوحيدة الصائت لا يُحتاج معها لكثير من الجهد الذهني والفزيولوجي للنطق بها ولتجميعها ولتذكرها. لذلك يرى اللساني الفرنسي أندري باسي أن أقدم الأفعال في الأمازيغية تلك التي تستعمل صائتا مضعفا مثل ئدّا، ئدّو ⵉⴷⴷⴰ, ⵉⴷⴷⵓ “ذهب” (أقحمها حدادو في المادة 842)، ئشّا ⵉⵛⵛⴰ “أكل” (المادة 336 في حدادو)، ئكّا ⵉⴽⴽⴰ “مرّ” (المادة 409)، ئنّا ⵉⵏⵏⴰ (المادة 597). آف ⴰⴼ “وجد”. ؤف ⵓⴼ “أن يكون أفضل، أسمى”، وإلّا ⵉⵍⵍⴰ “وُجِد”، وغيرها كثير. والمثير أن إيهيرت حاول أن يبحث عن أقدم الجذور في مجموعة اللغات الأفرو أسياوية فوجد أن أقدمها تتكون من صامتين وأن الصامت الثالث في اللغات السامية كالعربية ليس أصيلا بل هو نوع من اللواحق عددها سبعة وعشرون حققها وجمعها في كتابه المذكور أعلاه. لكن عدم دراسة إيهيرت للأمازيغية حرمه من إدراك وجود جذور أبسط من تلك الذي أقدم من غيرها، وهي الجذور الأمازيغية ذات الصائت الوحيد المضعف.
خلاصات
نستنتج من المعطيات التي أوردناها في هذا المقال أن السيد رشيد بنعيسى ليس لسانيا يُعتَدُّ برأيه في شؤون اللغة، وأن اعتقاده ب”فينيقية” الأمازيغية و”كنعانيتها” لا ينبني على أي أساس تاريخي، وأن ما يقوم به من “ربط” اييتيمولوجي بين العربية وغيرها من اللغات مجرد ممارسة فولكلورية لا علاقة لها بالعلم، وأن التأكيد على على الانتماء “الحامي السامي” للأمازيغية حق أريد به باطل بقدر ما يُغفل الأمازيغوفوببيون الأصل الافريقي للغات الانسانية.
عبدالله الحلوي
فاعل أمازيغي ورئيس شعبة الدراسات الإنجليزية بجامعة القاضي عياض ودكتور في اللسانيات
من العناصر التي كان من الممكن أن تقدم بعض الدعم لفرضية ڭرينبورڭ القائلة بأن أصل اللغات الإفريقية الأسياوية هو اللغة المصرية القديمة هو أن منطقة إثيوپيا ـ إيريتيريا القريبة من مصر كانت هي الموقع الذي اكتشف فيه علماء الحفريات أقدم البقايا للإنسان العاقل الذي يسميه الأخصائيون بالهوموساپيان. فأقدم بقايا للهوموساپيان المتقدم (الذي يعتبر حلقة رابطة بين الإنسان المعاصر وأشكال أخرى بدائية للكائن الإنساني) اكتُشف في كينيا ويعود زمان حياته إلى 300000 ق.م. (براور 1997). ليظهر الإنسان العاقل بالمواصفات المعاصرة حوالي 160000 ق.م وجدت بقاياه في إثيوپيا (ما يُسمى بإنسان هيرطو). لذلك فبعض العلماء مثل سپرينڭر (2003) اعتبروا هيرطو حاملا لأقدم السمات الفزيولوجية للإنسان المعاصر التي من بينها اتساع الجمجمة (1450 مل). وعليه فإن ظهور اللغة الإفريقية الأسياوية الأصلية بهذه المنطقة، كما يفترض ڭرينبورڭ، فكرة مبررة ومنسجمة مع المعطيات الحفرية التي تشهد لظهور أقدم شكل إنساني بهذه المنطقة.
إلا أن نتائج رائز الإشعاع الحراري الذي طبق على بقايا إنسان إيغود (5 أفراد) في بحث طويل بدأ في 1981، أثبت أن هذا الإنسان هو من نوع الهوموساپيان القديم وأنه حياته كانت على الأرض منذ أكثر من 300000 سنة. وهذا مما لم يأخذه ڭرينبورڭ بعين الإعتبار لأنه توفي في 7 ماي 2001، أي حوالي 16 سنة قبل اكتشاف إنسان إغود.. فبحسب الباحث الفرنسي جون جاك هوبلان الذي درس بقايا إنسان إيغود أن هذا الإنسان من نوع الهوموساپيان (الإنسان العاقل) بدون شك لا يختلف عنه إلا في طول جمجمته الذي يشترك فيه مع إنسان نياندورتل الأكثر بدائية من الهوموساپيان القديم.
فالأرجح إذن أن أصل ما يسمى باللغات الإفريقية السامية يوجد في إفريقيا ، حيث توجد الأمازيغية، وليس في آسيا، حيث توجد العربية (مما يُكذِّب أيديولوجية “أتووا من اليمن والشام” بشكل لا رجعة فيه)، وأن الأرجح أن الإنسان الذي كان يتكلم هذه اللغة الأصلية كان يعيش في شمال إفريقيا (المغرب تحديدا).
من العناصر التي من الممكن أن يستند إليها كريستوفر إهيرت، أستاذ التاريخ الافريقي واللسانيات التاريخية الافريقية (والذي عرف بجمعه بين التحليلين اللساني والأركيولوجي)، في كتاب عنوانه “Reconstructing Proto-Afroasiatic (Proto-Afrasian): Vowels, Tone, Consonants, and Vocabulary في اعتقاده بأن اللغة الأفرو أسياوية الأصلية ظهرت أول ما ظهرت في منطقة إثيوپيا ـ إيريتيريا أن هذه المنطقة هي المكان الذي وجد فيه علماء الحفريات أقدم البقايا للإنسان العاقل الذي يسميه الأخصائيون بالهوموساپيان الذي ننتمي إليه تاريخيا. فأقدم بقايا للهوموساپيان المتقدم (الذي يعتبر حلقة رابطة بين الإنسان المعاصر وأشكال أخرى بدائية للكائن الإنساني) اكتُشف في كينيا ويعود زمان حياته إلى 300000 ق.م. (براور 1997). ليظهر الإنسان العاقل بالمواصفات المعاصرة حوالي 160000 ق.م وجدت بقاياه في إثيوپيا (ما يُسمى بإنسان هيرطو). لذلك فبعض العلماء مثل سپرينڭر (2003) اعتبروا هيرطو حاملا لأقدم السمات الفزيولوجية للإنسان المعاصر التي من بينها اتساع الجمجمة (1450 مل). وعليه فإن ظهور اللغة الأفرو أسياوية الأصلية بهذه المنطقة، كما يفترض إيهيريت، فكرة مبررة ومنسجمة مع المعطيات الحفرية التي تشهد لظهور أقدم شكل إنساني بهذه المنطقة.
إلا أن نتائج رائز الإشعاع الحراري الذي طبق على بقايا إنسان إيغود (5 أفراد) في بحث طويل بدأ في 1981، أثبت أن هذا الإنسان هو من نوع الهوموساپيان القديم وأنه حياته كانت على الأرض منذ أكثر من 300000 سنة. وهذا ما سيغير نظرتنا لكثير من الأمور. فبحسب الباحث الفرنسي جون جاك هوبلان الذي درس بقايا إنسان إيغود أن هذا الإنسان من نوع الهوموساپيان (الإنسان العاقل) بدون شك لا يختلف عنه إلا في طول جمجمته الذي يشترك فيه مع إنسان نياندورتل الأكثر بدائية من الهوموساپيان القديم.
ومن نتائج هذا الإكتشاف الجديد أن ظهور اللغة الأفرو أسياوية الأصلية في منطقة إثيوپيا ــ إيريتيريا لن تعود لها نفس الجاذبية لأنها ستكون قد حرمت من أساسها الأركيولوجي (الحفري).
لكن ما هي اللغة التي كانت يتحدث بها إنسان إيغود؟ أليس من السذاجة أن ندعي بأن إنسان إيغود، الذي هو أقدم حلقة في سلسلة تطور الإنسان العاقل نعرفها اليوم، كان يستعمل لغة ما؟
لقد أثبت البحث الذي أنجزه رالف هولوواي (1981) حول البناء الداخلي للإنسان المستقيم البنية الذي عاش في إفريقيا Homo Erectus egaster أن دماغ هذا الكائن الإنساني القديم غير متماثل بمعنى أن فصّي دماغه لم يكن لهما نفس الشكل والوظائف. وهذا عين ما يتميز به الإنسان العاقل المعاصر الذي يتوفر على فصين دماغيين يقوم كل منهما بوظيفة خاصة. فينجز الفص الأيسر مهام مرتبطة باللغة وإنتاج الرموز وفهمها، بينما يتكلف الفص الأيمن بمهام أخرى كالتفكير الفضائي (مثلا: التنسيق بين ما تدركه العين وما تفعله العين).
أضف إلى هذا أن المسح الدقيق لجهاز النطق عند الإنسان الإفريقي ذي البنية المستقيمة Homo Erectus egaster بين بأن هذا الجهاز يمكنه من إنتاج أصوات لغوية كثيرة مختلفة وبسرعة عالية يحتاج إليها الإنسان في التواصل. يضاف إلى كل هذا أن المهام التي كان ينجزها الإنسان الإفريقي ذو البنية المستقيمة كصناعة الأدوات المعقدة نسبيا، والتحكم في النار، والتعايش مع ظروف بيئية مختلفة، كانت مهام معقدة يحتاج فيها الإنسان البدائي للتعاون الذي لا يقوم إلى بالتواصل.
وفي نفس السياق سيثبت طوبيان أن إنسان الهومو هابيليسHomo Habilis (الذي اكتشفه ليكي سنة 1960) يُظهِر نفس ثنائية الفص وإسقاطا واضحا لمنطقة “بروكا” المسؤولة عن استعامل اللغة الإنسانية.
فإذا كانت أحوال Homo Erectus و Homo Habilis الفزيولوجية تسمح لهما بالتواصل، وإذا كانت أحوالهما الإجتماعية تفرض ذلك، فكيف لا تفعل ذلك بالنسبة للإنسان العاقل الأكثر تطورا؟
لا مناص إذن من النتيجة التي مفادها أن إنسان إيغود كان يتوفر على كل المقومات الفزيولوجية والوظيفية لاستعمال اللغة، أكثر بكثير من أجداده الهومو هابيليس والهومو إيريكتوس! لكن ما هي اللغة التي كان يستعمل إنسان إيغود؟ هل كان إنسان إيغود يتحدث بصورة قديمة للغة الأمازيغية مادام كان يعيش في نفس الأرض التي ستظهر فيها القبائل والممالك الأمازيغية؟
الأمازيغ امتداد لإنسان إيغود
ينبني النموذج التاريخي الذي بناه كامپ (صاحب كتاب “أصل الأمازيغ” 1981)، انطلاقا من المعطيات الحفرية المتوفرة لديه، على فكرة مفادها أن الشعوب الأمازيغية تتكون من ثلاث “طبقات” أنتروپولوجية أقدمها إنسان العصر الحجري الوسيط الذي عاش في شمال إفريقيا 30000 و12000 سنة ق.م والذي ورث صناعة الأدوات الحجرية مباشرة من الإنسان الموستيري (الذي كان من نوع النياندورتل). وثانيهما إنسان “مشتا أفالو” الذي عاش في منطقة شمال إفريقيا منذ حوالي 20000 سنة ق.م.، وكان طويل القامة يشبه الماكرماڭنون الأوروپي لكنه أصيل في شمال إفريقيا. ثم يأتي الإنسان القفصي الذي أدخل الثقافة الحجرية إلى المنطقة اختُلف حول ما إذا كان أصيلا بالمنطقة أم قادما إليها من منطقة فلسطين.
ومن المهم أن نذكر في هذا السياق أن الإنسان القفصي لم يقض على سابقه المشتاوي بل استوعبه وتدافع معه في الأرض حتى قيل إن كثيرا من المشتاويين انتقلوا نحو ساحل المحيط الأطلسي ثم جنوبا نحو الصحراء. فمن هذا الخليط انحدرت القبائل والممالك الأمازيغية.
إلا أن العنصر الجديد الذي يضيفه اكتشاف قدم إنسان إغود (300000 سنة ق.م) أن أصل هذا الخليط الأنتروپولوجي ليس هو إنسان العصر الحجري الوسيط الذي عاش في شمال إفريقيا حوالي 12000 سنة قبل الميلاد، بل يمتد إلى أبعد من ذلك كثيرا في عمق التاريخ … فإذا كان إنسان العصر الحجري الوسيط امتدادا لإنسان إغود، والإنسان المشتاوي امتدادا لإنسان العصر الحجري، والإنسان القفصي مستوعبا للإنسان المشتاوي ومتجاوزا له، والإنسان الأمازيغي امتدادا لكل هؤلاء، فإن الإنسان الأمازيغي هو وارث التراكمات الثقافية لكل هؤلاء (كامپ 1981) التي من بينها اللغة. فهل هناك ما يدل على أن اللغة الأمازيغية قد احتفظت لنا بصورة أعرق لغة تحدث بها الإنسان العاقل البدائي الأول؟ هل هناك دليل يدل على عراقة الأمازيغية بقدر عراقة إنسان إغود؟ وللأسف لم يسجل إنسان لغته حتى نقرأها اليوم، لكننا نستطيع أن نلمس في بنية الأمازيغية ملامح أقدم لغة تكلمها الإنسان. لنشرح.
عراقة اللغة الأمازيغية
من اللسانيين الذين أدركوا عراقة اللغة الأمازيغية اللساني البريطاني بوب جونز موريس الذي لاحظ أن أقرب نظام تركيبي لتركيب لغة الويلش السابقة تاريخيا عن اللغة الهندوــ أروپية القديمة هي اللغة الأمازيغية، خصوصا في نسختها اللهجية التي تسمى تاماشيقت (أنظر رينان 1873). لذلك فالبحث في معجم الأمازيغية وبنائها سيمكننا من فهم أعرق أساليب التعبير والتفكير. يؤمن بعض الأنتروپولوجيين المعاصرين مثل سيدريك ليونارد أن الأمازيغية وباسكية الپيرينيس هما المفتاحان اللذان نملكهما اليوم لفهم أقدم التجليات الحضارية الإنسانية.
مقتضى “دلائل قِدم الأمازيغية وعراقتها” أن هناك من مباني اللغة الأمازيغية ما يحمل أمارات العراقة مما يندُر وجوده في باقي اللغات وما يُحْتاجُ له في تفسير ظواهر لغوية مختلفة في لغات أخرى يعسُر فهمها بدون ردّها لأصلها الأمازيغي. من “دلائل القدم” التي وقفنا عليها: (1) دليل “الضمائر غير الشخصية”، و(2) دليل “المعانى على الحقيقة”، و(3) دليل “الجذور البسيطة”. وفي ما يلي بيان هذه الأدلة وتفصيلها.
أولاــ دليل “الضمائر غير الشخصية”
مقتضى هذا الدليل أن اللغة الأمازيغية تتضمن نظامين من الضمائر أحدهما معقد وحديث وثانيهما بسيط وحامل لأمارات القدم وكل الأدلة تدل على النظام الضميري البسيط القديم ورثته اللغات الأفرو أسياوية والهندو أوروپية بشكل فقد كمال هذا النظام الأمازيغي الأصلي. لنشرح.
من الضمائر المعقدة في الأمازيغية: نكّي ⵏⴽⴽⵉ (تنطق أيضا: نيك ⵏⵢⴽ ، ونشي ⵏⵛⵉ) ، وكيّي ⴽⵢⵢⵉ (تنطق أيضا كيّين ⴽⵢⵢⵉⵏ وكايونان ⴽⴰⵢⵓⵏⴰⵏ)، وكمّي ⴽⵎⵎⵉ (تنطق أيضا كم ⴽⴻⵎ وكمّونان ⴽⵎⵎⵓⵏⴰⵏ)، وغيرها. الجامع بين هذه الضمائر أنها تعرب فواعل وأنها تحمل سمات الجنس والعدد والشخص. لكن هناك ضمائر أخرى في الأمازيغية يكاد يختفي استعمالها في هذه اللغة تحمل سمات الجنس والعدد، ولكنها لا تحمل سمات الشخص، وهي: الضمير المفرد المذكر: وا ⵡⴰ (تنطق أيضا وو ⵡⵓ) و الضمير المفرد المؤنث: تا ⵜⴰ (تنطق أيضا تو ⵜⵓ)، والضمير الجمع المذكر: وي ⵡⵉ والضمير الجمع المؤنث: تي ⵜⵉ من خصائص هذه الضمائر أنك تجدها مدمجة في غيرها من البُنى لا تكاد تستقل بنفسها، كما في قولك وا ـ لّي يدّان ⵡⴰⵍⵍⵉ ⵢⴷⴷⴰⵏ “ذاك الذي ذهب”، وتا ــ لّي يدّان ⵜⴰⵍⵍⵉ ⵢⴷⴷⴰⵏ تلك التي ذهبت. بل إن هذه الضمائر تدمج دمجا في أسماء الإشارة فلم تعد تتميز عنها كما في غُّاد ⵖⵖⵯⴰⴷ “هذا” (تنطق بغين مدورة) و ختاد ⵅⵜⴰⴷ “هذه” (تنطق بخاء غير مدورة). فالأصل في غُّاد ⵅⵜⴰⴷ غ ــ وا ــ آد (التي معناها الحرفي: “في هذا الذي” حذفت واوها بعد أن دوّرت الغين ودُمج مد حرف الوصل فيها آد ⴰⴷ في مدّ الضمير وا ⵡⴰ)، والأصل في ختاد ⵅⵜⴰⴷغ ــ تا ــ آد (التي معناها الحرفي: “في هاته التي” هُمِست غينها تأثرا بتاء الضمير تا ⵜⴰ المهموسة ودُمج مد حرف الوصل فيها آد ⴰⴷ في مدّ الضمير تا ⵜⴰ).
من مظاهر قدم هذه الضمائر التي بينها اللساني النمساوي الهنغاري ويرنر ڤيسيشل (في مقال له سنة 1957 عنوانه “أداة التعريف في الأمازيغية”) أنها أدمجت في الأسماء حتى صارت أدوات تعريف. من ذلك قولك أفوناس ⴰⴼⵓⵏⴰⵙ أصلها وافوناس ⵡⴰⴼⵓⵏⴰⵙ (أداة التعريف فيها الضمير وا ⵡⴰ)، وتافوناست (تدل تا ⵜⴰ على المفرد المؤنث فيها، وهي عين الضمير المفرد المؤنث)، وئيفوناسن ⵉⴼⵓⵏⴰⵙⴻⵏأصلها ويفوناسن ⵡⴰⴼⵓⵏⴰⵙⴻⵏ (أداة التعريف فيها الضمير وي ⵡⵉ)، وتيفوناسين ⵜⵉⴼⵓⵏⴰⵙⵉⵏ (تدل تي ⵜⵉ فيها على الجمع المؤنث، وهي عين الضمير الجمع المؤنث). ومن الأدلة القوية على حدوث هذا الإدماج أن هناك بعضا من الأسماء الأمازيغية لا زالت تحتفظ بالضمير كاملا كما في واڭرزام ⵡⴰⴳⵔⵣⴰⵎ “الفهد” (تنطق أيضا أڭرزام ⴰⴳⵔⵣⴰⵎ) و ويتريكن ⵡⵜⵔⵉⴽⴻⵏ “نوع من العشب” (لم تحذف واو ضمير الجمع المذكر فيها).
من أمارات القدم أيضا في هذه الضمائر أنها إشارية deictic بمعنى أنها لا تدل على معنى مجرد بل تحيل على أشخاص كما تحيل أسماء الإشارة على مواضيعها في سياقات معلومة. ومعلوم أن الإشارة أسبق زمنيا من المعاني المجردة وألصق منها بمقام الكلام الذي لا يُتَصوّر أن يبتعد عنه عقل الإنسان البدائي الأول بعميق التجريد وبعيده.
من اللغات التي احتفظت بجزء من هذا النظام الضميري لغة “البداوي” أو “تابداوي” Beja التي يتحدث بها حوالي مليوني شخص في الساحل الغربي للبحر الأبيض المتوسط حيث تستعمل هذه الضمائر أدوات تعريف شكلها كما يلي:
وو … (بواو ممدوة): المفرد المذكر
تو … (بواو ممدودة): المفرد المؤنث
يا … (بألف ممدودة): الجمع المذكر
تا … (بألف ممدودة): الجمع المؤنث
فقد اكتسبت هذه الأدوات مَدّها من علامات إعراب الفاعل في لغة البداوي وهو ما حرف نطقها عن أصله في الأمازيغية. ومما يدل على أن أصلها قديم يوجد في غير هذه اللغة (أي في الأمازيغية) أن البداوي تستعملها بصورتها الضعيفة (أدوات التعريف) ولا تستعملها بصفتها القوية (الضمائر الإشارية).
واحتفظت اللغة الهندو أوروپية القديمة بضمير واحد من هذا النظام وهو وا، ألحقت به سينا فصار “سوا”. فتحول هذا الضمير إلى “هڤا” في الهندية القديمة، و”هو” في اللغات السامية، و”سوڤاس” في اللاتينية القديمة التي منها الضمير غير الشخصي soi في اللغة الفرنسية (معجم اللغات الأوروپية الأسياوية). إلا أن هذه اللغات فقدت الجزء الأكبر من هذا النظام الضميري غير الشخصي أو أدمجتها في نظام ضميري شخصي. فتتميز الأمازيغية عليها كلها باحتفاظها بنظامين كاملين: الشخصي وغير الشخصي.
ثانياــ دليل “المعنى على الحقيقة”
ومقتضى هذا الدليل أن إذا بحثت في المشترك المعجمي بين اللغة الأمازيغية وغيرها من اللغات، فإنك ستلاحظ أن الأمازيغية تستعمل هذا المشترك بالمعنى المجازي المولّد، كما في اللغات الأخرى، ولكنها كثيرا ما تنفرد باستعمالٍ على الحقيقة لهذا اللفظ يندر أن تجده في اللغات الأخرى، مما يدل على احتواء هذه اللغة على أعرق الإستعمالات اللغوية. من الأمثلة على ذلك لفظة ئڭر ⵉⴳⴻⵔ التي تعني “الحقل”. فأنت تجد ما يوافق هذه الكلمة لفظا ومعنى في العديد من اللغات في العالم كله، منها Agr “أڭر” في اللاتينية (التي منها Agriculture، وأكراز Akraz.. “الحقل، المرعى” في الجرمانية الأصلية، وأڭروس Agros في اليونانية القديمة، وإكّير ekker في الفريزية القديمة، وآشر acer في الإنجليزية القديمة، وأجراس ajras في السنسكريتية. إلا أن ما تتميز به الأمازيغية أنها تتوفر على الألفاظ ذات نفس الجذر التي تحمل المعنى الأصلي الموضوع على الحقيقي (غير المجازي) وهو معنى “الإلقاء بالشيء”. فالأصل في معنى الحقل معنى “المكان الذي يلقي لك بثماره” ومعنى “الطلوع” المتعلق بطلوع الزرع والنبات. من ذلك في الأمازيغية مادة ڭر ⴳⴻⵔ (وهي المادة 280 في قاموس حدادو) تفيد معنى “ألقى بالشيء” وهو فعل ڭر ⴳⴻⵔ، منه تاڭوري ⵜⴰⴳⵓⵔⵉ وهي “الكرة” أو “القبضة من النار تلقي بها”. منه أيضا فعل ئڭير ⵉⴳⵉⵔ يقال عن النخيل إذا ألقى بتمره. فالأصل إذا هو “الإلقاء” و”الطلوع”، والفرع هو معنى “الحقل” والفلاحة”. فتنفرد الأمازيغية بجمعها بين الأصل والفرع، وتكتفي باقي اللغات بالفرع دون الأصل.
المثال الثاني الذي أقدمه هنا لأبين لك عراقة المعنى الأمازيغي متعلق باللفظة “أيّور”. فعندما تدرس هذه اللفظة في الأمازيغية تجد أنها تجمع بين الأصل المبني على الحقيقة (المعنى غير المجازي) والفرع المبني على المجاز. فالمادة ير ⵢⵔ، وهي المادة 910 في معجم حدادو، تلهج بأشكال مختلفة ك ئيور ⵉⵢⵓⵔ وأيّور ⴰⵢⵢⵓⵔ وؤير ⵓⵢⵔ (في لهجة غدامس) تعني “القمر” و”الشهر القمري” كليهما. أما إذا بحثت عن هذا الأصل في اللغة الهندو أوروپية الأصلية، فإنك ستجد المادة يير yr تعني “سنة” و”موسم” لا تفيد معنى “القمر” أو أي شيء مما كان يستدل به الإنسان البدائي على الزمان. من هذا الأصل جاءت year الإنجليزية وهورا hora اليونانية التي تعني أي جزء من السنة بما فيها الشهر، وأي جزء من اليوم بما فيها الساعة (منها hour الإنجليزية و heure الفرنسية). منها أيضا jahr بالألمانية و “شهر” بالعربية، وjaru بالسلاڤونية، وغير ذلك كثير مما تمدنا بها المعاجم الإتيمولوجية.
مثال ثالث نوضح به عراقة المعنى الأمازيغي لفظ غير متداول وهو لفظ ئيري ⵉⵔⵉ جمعه ئيران (المادة 671 من معجم حدادو) وهو يعني في أمازيغية الأطلس المتوسط “الحد بين أرضين” و”المنطقة من الأرض التي تُحد بأثرين صنعتهما الآلة” ( lisière بالفرنسية). و بقليل من البحث في المعاجم الإتيمولوجية العلمية ستكتشف أن هذا هو الأصل الذي بنيت عليها ألفاظ “الأرض” في العربية و”إيريتز” في العبرية وearth في الإنجليزية وئرثا erthe في الفريزية القديمة. وبمزيد من البحث ستكتشف أن الصوت الأخير المضاف إلى هذه الكلمات لم يكن أصليا بل أضيف لاحقا إلى هذه الألفاظ. والدليل على ذلك لفظة ئيرا era في الإغريقية القديمة تعني “الأرض” وئيرو erw في السلتية يعني “فلح الأرض”. والأصل في الصوت المضاف هنا يتضح من خلال البحث في اللفظ الدراڤيدي “ريڭادي” يتكون من جزئين أحدهما “ري” وهي “الطين” وثانيهما “ڭادي” وهي “القطعة من الشيء”، فيكون معنى اللفظ كاملا “القطعة من الطين”.
ثالثاــ دليل الجذور البسيطة
مقتضى هذا الدليل أن الأمازيغية تحتوي على أنواع مختلفة من الجذور أقدمها في هذه اللغة جذور تتكون من صائت واحد مضعّف، وهذا عين ما يُتَصوّر أن يبدأ به الإنسان البدائي معجمه. فالجذور الوحيدة الصائت لا يُحتاج معها لكثير من الجهد الذهني والفزيولوجي للنطق بها ولتجميعها ولتذكرها. لذلك يرى اللساني الفرنسي أندري باسي أن أقدم الأفعال في الأمازيغية تلك التي تستعمل صائتا مضعفا مثل ئدّا، ئدّو ⵉⴷⴷⴰ, ⵉⴷⴷⵓ “ذهب” (أقحمها حدادو في المادة 842)، ئشّا ⵉⵛⵛⴰ “أكل” (المادة 336 في حدادو)، ئكّا ⵉⴽⴽⴰ “مرّ” (المادة 409)، ئنّا ⵉⵏⵏⴰ (المادة 597). آف ⴰⴼ “وجد”. ؤف ⵓⴼ “أن يكون أفضل، أسمى”، وإلّا ⵉⵍⵍⴰ “وُجِد”، وغيرها كثير. والمثير أن إيهيرت حاول أن يبحث عن أقدم الجذور في مجموعة اللغات الأفرو أسياوية فوجد أن أقدمها تتكون من صامتين وأن الصامت الثالث في اللغات السامية كالعربية ليس أصيلا بل هو نوع من اللواحق عددها سبعة وعشرون حققها وجمعها في كتابه المذكور أعلاه. لكن عدم دراسة إيهيرت للأمازيغية حرمه من إدراك وجود جذور أبسط من تلك الذي أقدم من غيرها، وهي الجذور الأمازيغية ذات الصائت الوحيد المضعف.
خلاصات
نستنتج من المعطيات التي أوردناها في هذا المقال أن السيد رشيد بنعيسى ليس لسانيا يُعتَدُّ برأيه في شؤون اللغة، وأن اعتقاده ب”فينيقية” الأمازيغية و”كنعانيتها” لا ينبني على أي أساس تاريخي، وأن ما يقوم به من “ربط” اييتيمولوجي بين العربية وغيرها من اللغات مجرد ممارسة فولكلورية لا علاقة لها بالعلم، وأن التأكيد على على الانتماء “الحامي السامي” للأمازيغية حق أريد به باطل بقدر ما يُغفل الأمازيغوفوببيون الأصل الافريقي للغات الانسانية.
عبدالله الحلوي
فاعل أمازيغي ورئيس شعبة الدراسات الإنجليزية بجامعة القاضي عياض ودكتور في اللسانيات