10 أمراض وأوبئة معدية غيرت العالم للأبد
عند التفكير بالأمراض الخطيرة فالسرطان (أو ”هداك المرض“ وفق كل من هم حولي) هو الذي يمتلك السمعة الأسوأ بين الأمراض بكونه لا يزال دون علاج ودون وقاية، والجميع من الممكن أن يصاب به.لكن على عكس الأمراض التي سنتناولها هنا فالسرطان ليس وباءاً والتعامل مع المصابين به لن بتسبب بانتقال عدوى تؤدي لإصابة الآخرين مثلاً. بالنسبة للأوبئة الأمور مختلفة من حيث القدرة الفتاكة على القتل والعدوى، وهذه القدرات بالتحديد هي ما تجعلها عواملاً شديدة التأثير في التاريخ البشري، وهنا سنتناول أهمها:
الطاعون:
واحدة من الأشياء التي لا تزال تذكر بالطاعون كواحد من أسوأ الأوبئة في تاريخ البشرية هو الأقنعة التي يعتقد أن أطباء ذاك الوقت كانوا يرتدونها.
من غير الممكن أن تتحدث عن الأوبئة والأمراض الفتاكة دون أن تتناول الوباء الأسوأ ربما في التاريخ البشري: الطاعون أو ”الموت الأسود“ كما كان يلقب، فعبر القرنين الثالث والرابع عشر عصف المرض بالعالم وانتشر من شرق آسيا إلى أوروبا مروراً بكل ما بينهما قاتلاً الملايين في طريقه ومشكلاً المثال الأول ربما على الأضرار الممكنة للنقل والتواصل العالمي، حيث يمكن لمرض يظهر في بلدة في أقصى الشرق أن ينتشر في بلدان وقارات بأكملها ويتسبب بقتل أشخاص أكثر من أي كارثة طبيعية أخرى.
انتشر المرض مع السفن القادمة من الصين حيث أن السفن كانت تحمل الجرذان التي بدورها تحمل البراغيث التي تنقل العدوى البكتيرية المسببة للمرض، وفي القرون الوسطى حيث الحيوانات في كل مكان والنظافة أمر ثانوي للفقراء فقد انتشر المرض كالنار في الهشيم وقتل الملايين في مختلف المناطق من العالم حيث يقدر أنه قتل حوالي ثلث سكان أوروبا في فترة انتشاره، ومع كون 70٪ من المصابين به يموتون بسببه فالرقم لا يعد غريباً حقاً.
كون الطاعون تسبب بملايين الوفيات قبل قرون عديدة لا يعني أنه انقرض الآن، بل لا يزال موجوداً اليوم لكن بشكل محدود للغاية – الصورة من موقع The Economist/WHO
لم تكن أعراض المرض أقل شدة من سرعة انتشاره في الواقع، فالأمر يبدأ مع حمى شديدة وتعرق مستمر ويزداد الأمر سوءاً حتى ظهور دمامل ذات لون أزرق يميل للسواد في منطقة الفرج أو تحت الإبط عادة، وفي حال لم يتم فتح هذه الدمامل فقد كانت تنمو بسرعة كبيرة وتتراكم السموم ضمنها حتى تقتل المريض في النهاية، لكن حتى في حال تم فتحها فالنجاة غير مضمونة واحتمالات الموت كبيرة، كما أن المرض ينتقل عبر الهواء عند فتح الدمامل وهذا ما يضيف قابلية عدوى إضافية وأكبر.
وفق المؤرخين، أدى انتشار الطاعون إلى تغييرات كبيرة جداً في القارة الأوروبية بالتحديد، فقد ساهم بشكل كبير في إسقاط النظام الإقطاعي، فالموت الذي انتشر في كل مكان أدى إلى نقص كبير بالأيدي العاملة في الأراضي، ومع نقص العرض وارتفاع الطلب على العمال انتقلت الأفضلية من الإقطاعيين إلى العمال الذين بات بإمكانهم المطالبة بأجور أعلى وخدمات أفضل من السابق.
بالإضافة للنظام الإقطاعي، فقد تلقت الكنيسة الكاثوليكية ضربة قوية من المرض خصوصاً مع موت العديد من قساوستها وهرب الآخرين من المدن خوفاً من المرض، حيث يعتقد أن الانسحاب الكاثوليكي هذا كان أحد الأسباب البعيدة لما حصل لاحقاً من المطالب الإصلاحية وانشقاق الكنيسة إلى كاثوليك يتبعون البابا ولوثريين أحرار من التبعية، فمع أن النقطة الأساسية كانت صكوك الغفران والضرائب الكبيرة، فالكنيسة كانت قد خيبت رعاياها وفقدت ثقتهم قبلها..
الجدري
عندما وصل الأوروبيون إلى القارة الأمريكية للمرة الأولى في نهاية القرن الخامس عشر، حملوا معهم حيوانات جديدة كلياً للأمريكيتين مثل الأحصنة والأبقار والدجاج، كما أتوا مع تنظيمات قتالية مطورة ودروعاً وأسلحة تسبق نظرائهم من السكان الأصليين بقرون من الزمن.
لكن التفوق الأوروبي من حيث الأسلحة لم يكن الشيء الوحيد الذي جلبوه معهم، فقد حملوا أمراض وأوبئة العالم القديم سواء معهم كأفراد وضمن الحيوانات التي حملوها، ومع أن الأمراض تضمنت الإنفلونزا والحصبة وعدة أمراض أخرى، فالأكثر فتكاً كان الجدري دون منازع.
في العالم القديم، كانت الحياة المزدحمة أمراً معتاداً وطبيعياً مع احتكاك دائم مع الحيوانات التي غالباً ما كانت تبقى في حظائر قريبة من المنازل وضمن المدن حتى، وفي هذه الظروف الخاصة كانت الأوبئة الكبرى مثل الجدري شائعة جداً حيث كان الكثير من الأشخاص يصابون بالمرض سيء السمعة، ومع أن معظمهم كانوا يموتون وسط غياب أي أدوية فعالة، فمن ينجون من المرض كانوا يمتلكون مناعة ضده ولا يصابون به مرة أخرى، لكن ذلك لا يمنع كون البعض يحملون المرض دون أن يظهروا أي أعراض له بل ينقلونه للآخرين فقط.
قتل الأوروبيون العديد من السكان الأصلين، لكن القاتل الأساسي كان الأوبئة وعلى رأسها الجدري الذي انقرض اليوم.
يأتي مرض الجدري بسبب سلالتين متقاربتين من الفيروسات تسميان Variola major وVariola minor، وكونه مرض فيروسي فالأعراض الأولية تأتي مشابهة للأمراض الفيروسية الأخرى حيث تظهر بعد مدة حضانة تبلغ حوالي 12 يوماً، بعدها يتسبب بارتفاع الحرارة وآلام في العضلات والظهر وصداع، لكن الأعراض الأشد تبدأ بالظهور لاحقاً مع خراجات ضمن الفم والبلعوم وانتشار بثور صغيرة وكثيفة على كامل الجسم، وبعد هذه المرحلة إما أن الشخص يموت كما هي الحالة بالنسبة لـ30٪ من المصابين، أو ينجو من المرض لكن البثور لا تزول وتتسبب بتشوهات ومشاكل مثل العمى في بعض الحالات لتدوم مدى الحياة.
تأتي أهمية الجدري في التاريخ البشري من محورين أساسيين، فمن الناحية الأولى يعد أحد أهم العوامل في قدرة الأوروبيين على استعمار الأمريكيتين، فالأوبئة التي كان الجدري من بينها قتلت ما يقدر بـ90٪ من السكان الأصليين وتركت البقية في حالة ضعف شديد بعد نجاتهم من هذه الأمراض، فعلى الرغم من التفوق الأوروبي في السلاح والتنظيم فالأمر كان ليكون مختلفاً للغاية لولا انتشار أوبئة العالم القديم.
الناحية الأخرى تأتي من كونه حمل واحداً من أهم الإنجازات الطبية في العالم، ففي عام 1980 أصبح الجدري أول مرض يتم القضاء عليه بشكل كامل بسبب اللقاحات (ولو أن انتشار الحركات المعادية للقاحات قد تسهم في عودته مجدداً)..
الإنفلونزا الإسبانية:
خلال فترة انتشارها، يقدر أن الانفلونزا الاسبانية تسببت بوفاة 50 حتى 100 مليون شخص – صورة: Universal History Archive/Getty Images
بين عامي 2009 و2010 انشغلت الأخبار العالمية بمعظمها بمرض ”جديد“ سمي باسم انفلونزا الخنازير، انتشر هذا المرض بسرعة كبيرة جداً كما مختلف أنواع الانفلونزا، ومع أن وفياته العالمية كانت حوالي 17,000 حالة فقط، فقد سبب خوفاً وقلقاً شديداً في الأوساط الطبية لسبب بسيط: تلك لم تكن المرة الأولى التي يظهر فيها الفيروس المعروف باسم H1N1، بل كان قد ظهر قبلها بحوالي قرن من الزمن وتسبب في ذلك الوقت بأعداد هائلة من الوفيات تصل وفق بعض التقديرات حتى 100 مليون وفاة على نطاق عالمي.
يعرف معظم الأشخاص اليوم التفاصيل الأساسية للحرب العالمية الثانية التي امتدت بين عامي 1939 و1945، لكن الحرب العالمية التي سبقتها تبقى طي النسيان للكثير من الأشخاص لسبب بسيط ربما، فبينما شهدت الحرب العالمية الثانية تغيرات كبيرة في المناطق المسيطر عليها من الأطراف المتحاربة، فالحرب العالمية الأولى كانت حرب خنادق بالدرجة الأولى وبقيت حدود الاشتباك فيها ثابتة معظم الوقت، ولو أن هذا الأمر لم يمنع الوفيات من أن تصل حتى 20 مليون ضحية بين مدنيين وجنود، لكن القاتل الأساسي هنا لم يكن الرصاص، بل الأمراض وعلى رأسها الانفلونزا الإسبانية التي يعتقد انها حسمت نتيجة الحرب.
شهد عام 1918 أول حالة وبائي معروفة لفيروس H1N1 الشهير اليوم، وعلى الرغم من أن بعض سلالاته تصيب البشر طوال الوقت فالسلالة التي انتشرت مطلع القرن العشرين كانت مميزة عن سواها بكونها أسرع انتشاراً وأشد فتكاً.
انتشر المرض بشكل عالمي وقتل الملايين حول العالم، لكنه اكتسب ارتباطه بإسبانيا من كونها البلد الأكثر تأثراً به حيث انتشر بشكل استثنائي هناك، وحتى الملك الإسباني ألفونسو الثامن أصيب به لفترة من الزمن.
الجنود في الحرب العالمية الأولى كانوا الفئة الكثر عرضة للإصابة والموت بسبب الانفلونزا الإسبانية – صورة: CORBIS
كون الإنفلونزا الإسبانية حصلت قبل قرن كامل من اليوم، فالمعلومات عنها ليست دقيقة تماماً خصوصاً من ناحية معدلات الوفيات، لكن الأمر الواضح حينها كان أن المرض يقتل الأشخاص في فترة الشباب أكثر من غيرهم حيث أن تأثيره يرتبط بالجهاز المناعي القوي للشباب على عكس كبار السن الذين كانت معدلات وفاتهم منخفضة بشكل غريب.
الوفاة الحاصلة من المرض كانت كما معظم الوفيات التي تسببها الإنفلونزا: ذات الرئة، لكن على عكس الوضع الحالي حيث تفتل ذات الرئة حوالي 4 ملايين شخص سنوياً، الوفيات كانت تتراوح بين 50 و100 مليوناً وفق التقديرات الحديثة.
كان المميز في الانفلونزا الإسبانية هو كونها تعمل بشكل مختلف عن معظم الأوبئة الأخرى، فعلى الرغم من أنها قتلت الملايين حول العالم فالأمر حصل بسرعة كبيرة وعبر عدة انتشارات للمرض فقط، وسرعان ما اختفى المرض بمثل السرعة التي ظهر بها وذلك معاكس للأمراض الأخرى التي كانت تستمر بالانتشار والقتل لقرون أحياناً.
التأثير الأهم ربما كان على نتائج الحرب العالمية الأولى، فالجنود في الخنادق كانوا عرضة للأمراض أكثر من سواهم بسبب ظروف النظافة السيئة ونقص التغذية، ووفق التقديرات اليوم فالسجلات تشير إلى أن جنوداً أمريكيين ماتوا من الإنفلونزا الإسبانية أكثر من أولئك الذين قتلوا على جبهات القتال..
شلل الأطفال (Polio):
في الأربعينيات شكلت ”الرئة الحديدية“ أملاً بالحياة للكثير من المصابين بشلل الأطفال على الرغم من أن الشلل الناتج عن المرض غير قابل للعكس.
بالنسبة لمعظم الشباب من مواليد التسعينات وما بعدها، فشلل الأطفال لا يعدو عن كونه مرضاً تم تلقيحهم ضده في طفولتهم وربما لم يشاهدوا أحداً مصاباً به طوال حياتهم، لكن هذا المرض -الذي لا يزال موجوداً حتى اليوم- كان أكثر فتكاً بكثير خلال القرن العشرين، خصوصاً وأنه ناجح جداً في التعايش مع المضيف وفي معظم الحالات يكون الشخص مصاباً بالمرض دون أن يدرك أنه مريض أصلاً بسبب غياب الأعراض تماماً، لكن بالنسبة للحالات القليلة حيث الأعراض موجودة فالأمر كان يأخذ منحى سوداوياً للغاية.
خلال النصف الأول من القرن الماضي كان المرض منتشراً بشكل كبير جداً ويقتل الآلاف كل عام في مختلف الأماكن، ومع أن آلات ”الرئة الحديدية“ اخترعت في الأربعينيات للحفاظ على حياة من تظهر عليهم أعراض المرض ويعجزون عن التنفس، فشهرتها وكونها صبغت صورة تلك الحقبة لم يعني أنها كانت منتشرة حقاً فمعظم الأشخاص كانوا إما غير قادرين على تحمل تكاليفها الباهظة أو يعيشون في أماكن بعيدة جداً بحيث لا يستطيعون الوصول إليها أصلاً.
الفتاوى المعادية للقاحات من قبل طالبان تشكل عاملاً رئيسياً في بقاء المرض حتى اليوم في باكستان وأفغانستان.
لم يظهر لقاح شلل الأطفال للمرة الأولى حتى عام 1955، وتبعه لقاح فموي رخيص جداً (يكلف حوالي 0.1 دولار للجرعة، أو 0.3 دولار للطفل) عام 1961، لكن حملات التلقيح واجهت مشاكل عديدة في الوصول إلى بلدان العالم الثالث، فالأماكن الصعبة الوصول من ناحية، والأنظمة السياسية المنغلقة تسببتا بتأخير وصول اللقاحات وإنهاء المرض بشكله الوبائي لعقود عدة في العديد من البلدان، وحتى بعد أكثر من نصف قرن من اختراع اللقاح الفموي للمرض لا تزال هناك حالات تسجل سنوياً في أفريقيا وعدد من الإصابات في كل من باكستان وأفغانستان.
لقاح شلل الأطفال يقضي على المرض تقريبا
كانت الحكومات في العالم قد بذلت جهوداً متضافرة لتلقيح مواطنيها خلال الأربع وستين سنة منذ أن طوّر (جوناس سالك) Jonas Salk أول لقاح لشلل الأطفال. حالياً لا تزال أربع دول فقط تحارب شلل الأطفال.
بالإضافة للتاريخ السيء من آلات الرئة الحديدية (التي لا تزال بعض منها تعمل حتى اليوم) والمعاناة الكبيرة للمصابين بالمرض، فربما أبرز شيء يتعلق بالمرض اليوم هو دور الحركات المعادية للقاحات، فاستمرار شلل الأطفال في كل من باكستان وأفغانستان لا يأتي وليد مصادفة، بل أنه أتى من إشاعات ظهرت بعد هجمات 11 أيلول الإرهابية والغزو الأمريكي لأفغانستان، حيث أشيع أن اللقاح مجرد مؤامرة من الأمريكيين لتخفيض خصوبة الرجال المسلمين، وسرعان ما صدرت فتاوى من طالبان بتحريم اللقاح..
السفلس (الداء الزهري):
المرحلة الثانية من السفلس تتضمن انتشار الطفح والتقرحات في جسم المصاب وفي حال لم يعالج المرض ينتهي الأمر بأضرار عصبية تتضمن الخرف والعمى.
ربما يكون نقص المناعة المكتسب الناتج عن فيروس HIV الشهير هو الأكثر شهرة بين الأمراض المنتقلة جنسياً اليوم، لكنه بالتأكيد ليس الأول أو الأوسع انتشاراً حتى، ومع أنه يمتلك السمعة الأسوأ اليوم بين الأمراض الجنسية فلوقت طويل من الزمن كانت هذه السمعة مرتبطة بالسفلس (أو الداء الزهري) الذي انتشر منذ قرون عدة دون مصدر معروف ومحدد، وشكل كابوساً للعديدين بسبب أعراضه السيئة من ناحية، وكونه قد يؤدي للموت من الناحية الأخرى.
يعمل مرض السفلس عبر 4 مراحل لدى المصابين به، فهو يبدأ بقرحة بسيطة في مكان الإصابة تظهر بعد 3 إلى 90 يوماً من اتصال جنسي وملامسة تقرحات مصابة لدى شريك جنسي، ومن ثم ينتقل المرض إلى طفح جلدي يشمل معظم مناطق الجسم مع تورم الغدد اللمفية، ويعود للاختفاء في المرحلة الثالثة مما يخدع الكثير من المصابين بكونهم تخلصوا من المرض، وأخيراً يبدأ الجزء الأخطر من المرض الذي يهاجم الجهاز العصبي المركزي ويتسبب بانحلال في الأعصاب الحركية بالإضافة لفقدان البصر والخرف.
لا أحد يعرف المصدر الأصلي لانتشار المرض العالمي في القرون الأخيرة، لكن العديد من النظريات ترجح كونه أتى من العالم الجديد، حيث أن انتشاره ترافق مع استكشاف الأمريكيتين وأستراليا واحتمال كونه أتى من احتكاك الأوروبيين مع السكان الأصليين ومن ثم عودتهم مع المرض إلى العالم القديم ممكن للغاية.
على أي حال فالأعراض الجسدية الواضحة للسفلس في مرحلته الثانية جعلته يشكل فضيحة كبرى للمصابين به، خصوصاً من الطبقات العليا من المجتمع مثل بابا الكنيسة الكاثوليكية يوليوس الثاني الذي أشيع أنه عانى من السفلس..
نقص المناعة المكتسب (AIDS):
حتى الآن لا يوجد علاج يخلص المصابين من فيروس نقص المناعة، لكن الإصابة لم تعد حكماً قطعياً بالموت اليوم.
هناك العديد من الأمراض الخطيرة اليوم، لكن أياً منها يمتلك السمعة السيئة والنظرة السلبية للمصابين به مثل مرض نقص المناعة المكتسب، فعلى الرغم من أن المرض من الممكن أن ينتقل بأي عمليات تتضمن نقل دم أو استخداماً لأبر أو أدوات مصابة، فخلال الفترة الأولى من انتشاره تشكلت نظرة كون المرض جنسي فقط وخاص بالمثليين الذكور بالتحديد، وسرعان ما تم تحويله إلى وصمة عار تلاحق المصابين به وتفرض عليهم صورة اجتماعية سلبية لا تزال مستمرة حتى اليوم.
يعتقد أن المرض وصل أصلاً للبشر في أفريقيا من اتصالهم مع رئيسيات أخرى (قرود أو سعادين) مطلع القرن العشرين وانتشر من هناك ببطء، لكنه لم يصبح محط الأضواء حتى مطلع الثمانينيات حيث انتشر بين الرجال المثليين في كل من ولايتي نيو يورك وكاليفورنيا، ومن هنا أتت إحدى تسمياته الأولى Gay-Related Immune Deficiency باختصار ”GRID“ حيث اجتاح الخوف من المرض العديد من البلدان وبات محط نظر الإعلام لمدة من الزمن بسبب كونه غير قابل للشفاء منه، وفي البداية كانت الإصابة به حكماً بالموت.
موقف الكنيسة الكاثوليكية المعادي للواقيات الذكرية لعب دوراً كبيراً في إبقاء نقص المناعة المكتسب كمرض شديد الانتشار في أفريقيا.
اليوم وحتى بعد سنوات طويلة من بداية المرض، لا يزال بعض المحافظين يصفون نقص المناعة المكتسب بكونه عقاباً إلهياً للمثليين، وذلك على الرغم من إثبات كونه يصيب الجميع في حال توافر طريقة نقل مناسبة.
على أي حال فقد تغير المرض بشكل كبير عن الأيام الأولى له، وعلى الرغم من أنه كان أشبه بحكم بالموت قبل عقدين أو ثلاثة، فمن يتم تشخيصهم بالإصابة بالفيروس (قبل بدأ متلازمة نقص المناعة) يمكن أن يعيشوا حياة طبيعية مع التحكم بالفيروس والحد من انتشاره دوائياً، ولو أن علاجه بشكل كامل لا يزال غير ممكن.
على الرغم من أن المرض اشتهر في الولايات المتحدة، فالغالبية العظمى من المصابين بالمرض والإصابات الجديدة كل سنة تجري في أفريقيا لعوامل عدة، السبب الأهم ربما هو الالتزام الديني والحملات المستمرة للفاتيكان ضد استخدام الواقيات الذكرية (التي تمنع انتشار المرض)، لكن أسباباً أخرى مثل الحروب الأهلية التي تعصف بالقارة واستخدام الاغتصاب كأداة ضمنها بالإضافة للخرافات حول كون الجنس مع الفتيات العذارى يشفي من المرض تلعب دوراً كبيراً في نشر المرض في القارة السمراء، حيث الغالبية العظمى من المثابين لا تتابع أية برامج علاجية..
تنويه: في اللغة العربية غالباً ما يتم الخلط بين حمل الفيروس والإصابة بمتلازمة نقص المناعة، لذا يجب التذكير بكون متلازمة نقص المناعة المكتسب هي المرحلة النهائية من الإصابة بالفيروس ومن الممكن للمصاب أن يعيش لسنوات عديدة وهو يحمل الفيروس دون أن تتطور الحالة إلى متلازمة نقص المناعة المكتسب.
السل (التدرن):
من الممكن أن يصيب السل أماكن مختلفة من جسم الإنسان، لكن 90٪ من حالاته تتركز في الرئتين.
السل هو واحد من الأمراض التنفسية الأخطر التي تصيب البشر (في حال كانت عدوى نشطة) وواحد من أشهر الأمراض، مع كون واحدة من علاماته المميزة تاريخياً هي السعال المصحوب مع الدماء لمن يعانون منه.
ومع أن المرض اليوم بات قليل الذكر إلى حد بعيد بفضل اللقاحات من ناحية واستخدام التعقيم والبسترة (للحليب ومنتجاته) من الناحية الأخرى، فثلث البشر في الواقع مصابون بالسل لكن النوع الواسع الانتشار هو النوع الضامر الذي لا يظهر أعراضاً ويمكن التعايش معه بشكل كامل دون معرفة كون الشخص مصاباً به أصلاً.
ينتقل السل عادة عبر الهواء بسبب السعال والعطاس حيث يتطاير اللعاب والمواد المخاطية من فم المريض إلى الآخرين، لكنه قادر على الانتقال عبر السوائل والأغراض الشخصية والاحتكاك المباشر بأدوات المريض، وفي حال الإصابة فالمرض يأخذ أحد الشكلين الفعال أو الضامر، حيث أن من تحدث لديهم إصابة فعالة يعانون من الحمى والرجفان والتعرق ليلاً بالإضافة لفقدان الوزن والشهية.
يصيب المرض أياً من أجزاء الجسم في الواقع، لكن معظم الحالات تتضمن الإصابة الرئوية حيث تضاف آلام الصدر والسعال الدموي إلى الأعراض.
واحدة من عوامل الخطورة الأساسية للمرض هي ضعف المناعة، فنسب الإصابة لذوي المناعة الضعيفة مثل من خضعوا لعمليات زرع أعضاء ويتعاطون أدوية مثبطة للمناعة أو المصابين بنقص المناعة المكتسب تكون أعلى بكثير من سواهم، وعلى الرغم من توافر عدة علاجات للمرض حالياً فالشفاء التام صعب للغاية، وعادة ما يتم العلاج للسيطرة على تقدم المرض بالدرجة الأولى، وترك المرض دون عاج يفاقم الأمر أكثر بالطبع مع كون نسب الوفاة تصل حتى 66٪ ممن يصابون بالمرض ولا يتلقون العلاج..
الملاريا:
تنتشر الملاريا عادة في المناطق التي تتضمن المستنقعات حيث يكثر البعوض، وهذا ما يفسر انتشارها في أفريقيا وسابقاً في جنوب الولايات المتحدة.
من المعروف كون البعوض واحداً من أكثر الحشرات المكروهة بسبب نقلها للعديد من الأمراض، لكن بين مختلف الأمراض التي عادة ما تنتقل عبر البعوض فأي منها لا يقارن بالملاريا من حيث الخطورة وسرعة الانتقال الكبيرة جداً.
حالياً لا تزال الملاريا واحدة من أخطر الأمراض في العالم حيث أنه يوجد حوالي 200 مليون مصاب بها حول العالم، مع معدل وفيات يتجاوز نصف مليون وفاة كل عام بسبب المرض ومضاعفاته، وكما هو متوقع فالمتضرر الأكبر هو القارة الأفريقية.
تأتي إصابة الملاريا بعدة أشكال مختلفة عادة، فهناك عدة فصائل فيروسية تسبب المرض منها ما يسبب حالة مخففة يمكن علاجها بالأدوية دون الحاجة للمستشفى، بينما الإصابات الشديدة التي عادة ما تنتج عن فيروس P. falciparum بالتحديد وتحتاج لمستشفيات وعلاج مكثف بسبب خطورتها العالية، حيث أن نسب الحالات القاتلة تتراوح بين 10٪ و50٪ في حال غياب العلاج.
حالياً لا تزال الأدوية المخصصة للملاريا فعالة، لكن عوامل الخطورة تزداد مع مقاومة المرض للمضادات الحيوية بسبب الاستخدام المفرط لها.
واحدة من أكبر التأثيرات التي تسببت بها الملاريا للبشرية هي تقويتها لتجارة العبيد عبر الأطلسي، فعندما أراد المستعمرون الأوروبيون الاستفادة من الأراضي الزراعية للقارة، كان الخيار الأول هو استعباد السكان الأصليين، لكن الأمر لم يجرِ بشكل جيد بسبب الإصابات القاتلة للمرض وكونه يتكاثر بشكل أكبر في البيئات الرطبة، وهذا ما قاد الأوروبيين إلى الاعتماد على شراء العبيد من غرب أفريقيا كون معظمهم كانوا إما منيعين ضد المرض، أو أنهم أصيبوا به ونجوا منه مما يزيد مقاومتهم له في حال تكرر الإصابة مجدداً..
الإيبولا:
التعامل مع الإيبولا يتم بشكل حذر للغاية حيث انها من الممكن أن تنتقل عبر أي من سوائل الجسم وتتسبب بالوفاة في نصف الحالات تقريباً.
باستثناء نقص المناعة المكتسب، جميع العناصر الأخرى في هذه القائمة تعد أمراضاً قديمة موجودة منذ عدة قورن ومعروفة بفتكها بالبشر، لكن الاستثناء الآخر هو مرض الإيبولا الذي اكتشف في أفريقيا مع نهاية السبعينيات، وتسبب منذ ذلك الوقت في عدة موجات من الذعر بسبب سرعة انتشاره من ناحية، وأعراضه الشديدة والمخيفة ومعدلات الوفيات العالية من الناحية الأخرى، فحتى 30 عاماً بعد اكتشافه لا يزال المرض يتسبب بنفس مستوى الخوف المعهود عند الإصابة به والذعر العالمي من الانتشار الكبير له عام 2014 مثال على ذلك.
كما الكوليرا، يأتي الإيبولا في عدة سلالات تتسبب بالمرض مع أعراض متشابهة ونسب وفيات متفاوتة تصل في السلالات الأكثر خطورة حتى 90٪ من المصابين، تبدأ الأعراض عادة بعد يومين من الإصابة حيث تتضمن جفاف البلعوم والألم العضلي والتقيؤ والإسهال، وفي بعض الحالات تتطور إلى نزيف شديد داخلي وخارجي ينتهي بالوفاة في نصف الحالات بالمتوسط.
حتى الآن لا يوجد أي دواء مرخص يستطيع شفاء المرضى، بل أن العلاجات تأتي بشكل داعم للجسم لتقليل معدلات الوفيات بالدرجة الأولى.
كون المرض لا يمتلك علاجاً فعالاً حتى الآن هو جزء أساسي من الخوف الكبير المصاحب لحالاته، وعلى الرغم من أنه لا يزال محصوراً في أفريقيا إلى حد بعيد، فهناك عدة حالات وصلت إلى الولايات المتحدة وأوروبا حيث تم احتوائها، فحتى مصاب واحد من الممكن أن ينقل المرض للكثير من الأشخاص الآخرين كون المرض ينتقل بالتلامس والتعامل مع أغراض المريض وعبر سوائل الجسم، مما يجعله سريع الانتشار للغاية وواحداً من أكبر التحديات الصحية التي تواجه العالم في القرن الحادي والعشرين..
الكوليرا
المياه الملوثة بالفضلات البشرية هي العامل الأساسي لانتشار الكوليرا وبقائها حتى اليوم، مع مئة ألف وفاة سنوياً.
إن كان هناك مرض يعبر عن القرن التاسع عشر فهو دون شك الكوليرا، التي شهدت ستة انتشارات واسعة ووبائية خلال ذلك القرن، وتحولت من مرض محلي كان منتشراً في الهند بالدرجة الأولى إلى وباء عالمي وصل إلى جميع بقاع العالم في عدة مرات بسبب التطور الكبير في النقل من ناحية، وسوء الظروف الصحية في المدن وبالأخص المشاكل الناجمة عن وصول الفضلات البشرية إلى مياه الشرب ومياه ري المزروعات، حيث تنتقل العدوى بسرعة كبيرة جداً ومن الممكن أن يتحول الأمر من عدم ظهور أية أعراض إلى موت المريض خلال ساعات في الحالات الأشد من المرض.
في معظم الحالات لا تعد الكوليرا مرضاً شديد الخطورة ويمكن التغلب عليها مع التغذية الجيدة وتأمين المياه النظيفة والمعادن للمرضى، لكن انتشار المرض في البيئات الفقيرة والأماكن التي تفتقد البنية التحتية السليمة يعني أنها لا تزال مرضاً قاتلاً حتى اليوم، وتشير التقديرات إلى حوالي مئة ألف حالة وفاة ناتجة عن المرض كل عام، مع حوالي 4 ملايين إصابة جديدة تتركز في بلدان العالم الثالث بالأخص في أفريقيا والهند وأمريكا الجنوبية حيث الظروف الصحية والمعيشية لا تزال سيئة للغاية.
أدى الانتشار المتكرر للكوليرا عبر القرن التاسع عشر إلى تغييرات كبيرة في التخطيط المدني، فبينما كانت العديد من المدن والبلدات تتجاهل الصرف الصحي للفضلات البشرية ولا تقوم بتنظيم مياه الشرب ومدى نظافتها، بات الأمر ضرورة قصوى بوجود وباء مثل الكوليرا ينتظر أي فرصة للانتشار مجدداً.
حالياً تعد الكوليرا في أدنى فترات انتشارها منذ انتشارها الوبائي الأول عام 1817، لكنها لا تزال تهديداً حقيقياً وكانت عاملاً أساسياً في اعتبار الوصول لمياه الشرب النظيفة واحدة من ”حقوق الإنسان“ وفق الأمم المتحدة.
المصدر:مواقع ألكترونية