المائدة الافريقية: الكسكسي وأصوله التاريخية
[rtl]هذا كتاب في فنون الأكل والأطعمة وصنوفها في افريقيا (الاسم الذي أطلقه العرب الفاتحون على شمال تونس وشرق الجزائر وغرب ليبيا، أي أفريكا الرومانية) وليس كتابا في «الغاسترونوميا» أي الذواقة أو فن حسن الأكل، وإن كانت الباحثة سهام الدبابي الميساوي، تلامس هذا الفن في أكثر من فصل من فصول هذا الكتاب الممتع، بلغة علمية مفهومية (من المفهوم) أدبية رائقة؛ وهي تقر في المقدمة بأن الطعام أو الطبِيخ فن ومعرفة وحذق ومهارة، وهوية وتاريخ وتراث، فضلا عن أنه فلسفة وعلم عند المعاصرين.
وزميلتنا سهام سبق لها أن اشتغلت بهذا المبحث الطريف، في رسالتها «الطعام والشراب في التراث العربي» (رسالة دكتوراه دولة). على أن كتابها هذا ليس في آداب الأكل وسننه وقواعده وأعرافه، ولا هو في المُؤاكلة والجلوس إلى المائدة، وما يتعلق بها من الإمتاع والمؤانسة؛ وإنما هو في ألوان الطعام، استئناسا بنصوص قديمة موثقة، وفي أوجه صناعتها وشتى معاني ألفاظها واشتقاقاتها واستعمالاتها. وهي ألوان مما اختصت به افريقيا، وما اشتركت فيه مع غيرها من المغاربة والمشارقة، بيْد أنها لم تجمع في دراسة مفردة، أو مبحث قائم بذاته على نحو ما نجد في البحوث والمصنفات المخصوصة بموائد العباسيين والأيوبيين والمماليك والمرينيين والأندلسيين.
ويكفي أن أشير في السياق الذي أنا فيه، إلى الدور الرائد الذي نهض به زرياب (أبو الحسن الموصلي 789م/ 857م هاجر من بغداد إلى القيروان فالأندلس، حيث استقر في قرطبة) لا في الموسيقى والعود وحسب، وإنما في اللباس وفنون الأكل أيضا. ولا نزال ندين له كما يقول بول بالطا، بتنسيق موائدنا، وبوجبات الطعام الثلاث: المشهيات أو المقبلات مثل الحساء والخضروات، فالطبق الرئيس أو الرئيسي من لحم أو سمك، فالتحلية من فواكه ومكسرات وحلويات؛ مثلما ندين له بكوب الزجاج الرقيق (ذي القدم) بدل المعادن، وبأصص الأزهار وغيرها مما برع فيه زرياب.
يتوزع هذا الكتاب على ستة عشر فصلا، تتعلق كلها بألوان الطعام عندنا، ما قدم منها وما استجد، وما بقي وما اندثر. وأشهرها الكسكسي أو الكسكسو، وهو اليوم أكلة عالمية، والغريب أن هذه الأكلة على شهرتها؛ لم يرد لها ذكر في المصادر الافريقية قبل العهد الحفصي (1207/ 1574). يقول هادي روجي إدريس في «الدولة الصنهاجية: تاريخ افريقيا في عهد بني زيري من القرن 10م إلى القرن 20 م» (‘ترجمة حمادي الساحلي) إن كلمة كسكسي لم ترد في أي نص من النصوص الصنهاجية، ويتساءل ما إذا كان هذا الطعام غير المعروف في المشرق، والمميز للطبيخ المغربي قد ظهر في ما بعد. وهو ما يؤكده إبراهيم جدلة، على الرغم من أن العلامة حسن حسني عبد الوهاب (1884/ 1968) أورد هذه الأكلة البربرية، ضمن أطعمة العهد الزيري؛ ولا ندري بأي مصدر استأنس، إلا أن يكون مخطوطا من المخطوطات النادرة، التي كانت بحوزته؛ إذ يصعب وهو العالم القدير، أن يكون قد ساق الكلمة، دون أن يكون متحققا من مصدرها. والكلمة ترد في بعض النصوص القديمة بثلاث صيغ أو هيئات: كسكسي وكسكس وكسكسو. وترد في نص طريف بصيغة غير معروفة هي «كسكسون» فقد جاء في «ابتسام الغروس ووشي الطروس في مناقب سيدي أحمد بن عروس» لعمر بن علي الجزائري الراشدي: «قال لي أبو القاسم بن محمد اليماني أحد مدرسي دمشق ونحن يومئذ فيها… نزل بي مغربي فمرض حتى طال عليّ أمره، فدعوت الله أن يفرج عني (هكذا، ولعل الأصوب عنه) بموت أو صحة؛ فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي أطعمه الكسكسون. قال يقوله هكذا بالنون. فصنعته له، فكأنما جعلت له فيه الشفاء». وظل هذا الدمشقي أبو القاسم يقوله بالنون، ويخالف الناس في حذفه من هذا الاسم، ويقول لا أعدل عن لفظ الرسول أبدا. وقد ساق المقري في «نفح الطيب» لفظة كسكسون، على لسان أحد شيوخ دمشق. ووصف الوزان (الحسن بن محمد الزياني المعروف بليون الافريقي) في «وصف افريقيا» (ترجم إلى العربية هذه الأكلة أثناء زيارته لفاس، قال:»في الشتاء يأكلون اللحم المطبوخ مع طعام يسمى الكسكسو، يصنعونه من دقيق مبلل…» وتبين سهام الدبابي أن الباحثين اختلفوا في أصل المصطلح، وذهب مرتضى الزبيدي إلى أن له وجها في العربية، ورجح أن يكون مشتقا من الكَس (بفتح الكاف) وهو الدق الشديد أو من الكسكسة وهي تعني الدق والكسر. والحجة لذلك هي الوزن الرباعي (فعلل). على أن هذا لا يسوق إلى القول إن الكلمة عربية، فمردها إلى الخصوبة الكبيرة التي يؤمنها القياس للوزن. وثمة إخصاب في الأوزان تتعدد فيه المدلولات محتفظة بوضوحها وتمايزها على أساس نحوي ومعنوي دلالي.
[/rtl]
[rtl]وكل ما يمكن الاطمئنان إليه، أن البربر هم الذين ابتكروا طريقة التئام دقيق حبوب القمح الرطب أو اليابس أو الدخْن البري، وكان صنع حبات صغيرة من الدقيق مألوفا عندهم، في إعداد العصيدة أو الحسو. ثم كانت النقلة من الحبوب البرية إلى الحبوب الزراعية، وطبخها بالبخار؛ وهو ما أفضى إلى صنع الكسكسي.[/rtl]
[rtl]وقد ذكر كانتينو في «أصول وأوزان» أن لكل كلمة في العربية أصلها ووزنها، ومن الممكن أن تشبه المفردات بنسيج لحمته هي مجموع الأصول المروية في اللغة، وسداه مجموع الأوزان الموجودة. فنقطة التقاء، أو تقاطع السدى واللحمة تعد كلمة، إذ أن كل كلمة محددة دون لبس بوساطة أصلها ووزنها. وكل وزن يقدم في الواقع من جانبه كلمات ذات أصول مختلفة، كما أن أغلب الأصول تقدم كلمات ذات أوزان مختلفة. وفي الموسوعة التيمورية، يذكر تيمور باشا (ت 1930) أن الكلمة هي «سكسو» وقد تكون بربرية، ثم عربت إلى كسكسو. ونقف على الإشارة نفسها في دائرة المعارف الإسلامية (سكسو وكسكسو وكوسكوس وكوسكس). ويقطع سليم شاكر وهو المتضلع في اللسانيات البربرية، بأن أصل المصطلح بربري (أمازيغي) فـ»سكسو موجودة في اللهجات القبائلية والشلحية والريفية، وكسكسو في لهجتي الطوارق والغدامس وفي بربرية الشمال» وهو يشير أيضا إلى كلمتين أخرييْن قريبتين من كسكسو هما، أسكسوت وبركوكس مؤنثه تبركوكست (الكسكسو الغليظ) ويبين أن السابقة «بر» تستعمل في الأمازيغية للتعبير عن الزيادة. لكن اللافت للانتباه أن كلمة كسكسي تطلق على الطعام أو الغذاء عامة، على نحو ما نجد عند المستشرق رينار دوزي، وكذلك عند فيكتوريان لوبينياك وليفي بروفنصال ووليام مارسي وشارل بلا وبرنار رزنبرغر. لكن طعام من؟ والجواب، وقد يلوح مستغربا؛ نظفر به عند روبار برنشفيك، فهو يقول إن الكسكسي كان علامة على حد أدنى من الرفاه، إذ لم يكن في متناول عامة الافريقيين، كما نقول عادة؛ وحجته أن السواد الأعظم من سكان المناطق الساحلية في تونس وطرابلس، كان طعامهم يقتصر على البسيسة والبازين، وهما مصنوعان من دقيق الشعير والزيت والماء. وهو ما يقوله أبو الحسن الوزان أيضا. ويطرح المؤرخ التونسي المعروف حسين فنطر السؤال: لماذا لم نعثر طوال اكتشافاتنا الأركيولوجية على شقفة كسكاس، والحال أن الأمر يتعلق بطعام محلي خاص بشمال افريقيا؟ ويجيبه غابريال كامبس إجابة شافية، إذ تم العثور على أوان فخارية رومانية مثقوبة تشبه الكسكاس؛ وهي معروضة في متحف سوسة التونسية، فضلا عن أن غياب هذا الإناء الخزفي؛ لا يعني غياب هذا الطعام في عصور افريقيا القديمة، وقد كان الناس في الجزائر يتخذون السلال كسكاسا وهي أوان من الحلفاء، كانت تستعمل في جهة وهران. ويذهب غاست مارسو إلى أن هناك ناحية تظل مجهولة، وهي الأصول التاريخية لطريقة إعداده. وكل ما يمكن الاطمئنان إليه، أن البربر هم الذين ابتكروا طريقة التئام دقيق حبوب القمح الرطب أو اليابس أو الدخْن البري، وكان صنع حبات صغيرة من الدقيق مألوفا عندهم، في إعداد العصيدة أو الحسو. ثم كانت النقلة من الحبوب البرية إلى الحبوب الزراعية، وطبخها بالبخار؛ وهو ما أفضى إلى صنع الكسكسي. وترجح مونيكا شاستني فرضية ظهور الكسكسي شمال الصحراء الكبرى، فانتشاره إلى الجنوب؛ إذ كان هناك تبادل تجاري كبير بين بلاد المغرب وجنوب الصحراء، بل تدفع قُدُما بفرضية أخرى، فقد يكون الكسكسي ظهر في العصر الحجري، في قلب الصحراء في المجتمعات الزراعية، التي انعطفت لأسباب مناخية نحو المناطق الرطبة شمالا وجنوبا. وقد عثر على شقفات مثقوبة في قرية تيشيل جنوب موريتانيا تعود إلى 700 و400 عام قبل الميلاد. وتعزز افتراضها بانتشار أُكْلة الكسكسي في مناطق كثيرة من افريقيا.
أما الإشارة الأقدم في النصوص العربية، إلى الكسكسي في بلاد السودان، فنجدها عند ابن بطوطة وهو يصف طعاما قدم له بين يولاتن ومالي، ويقول إنه «دقيق من النبق والأرز والفوني كحب الخردل يصنع من الكسكسو والعصيدة». على أن أهم ما يشدنا في هذا المصنف الذي يفيد الكاتب أكثر من الباحث، هو توفق الباحثة في ربط خصائص الطبيخ في افريقيا بالناس وبالفضاء المغاربي وثقافته المتنوعة، ذات البعد الأمازيغي العربي المتوسطي. وعسى أن نفي هذا الجانب حقه في مقال مقبل.
[/rtl]

[rtl]٭ كاتب تونسي[/rtl]
[rtl]المائدة الافريقية: الكسكسي وأصوله التاريخية 147
[/rtl]




[rtl]
[/rtl]
مائدة مغربية تقليدية عصرية حضرتها لضيوفي كسكس مكناسي وصفة البناكوتا

[rtl]
[/rtl]
[rtl]
[/rtl]
الكسكس اﻷدراري على مائدة زوزو

[rtl]
[/rtl]
و أخيرا .. كسكس أفران ... طعام أفران أو عيش أفران بأدرار .. حصري و أول مرة على اليوتيوب