دهسوا الأطفال واغتصبوا النساء... مجزرة فرنسية في تازركة التونسية
في 18 كانون الثاني/ يناير 1952، دخلت الحركة الوطنية في تونس مرحلةً حاسمةً من النضال ضد المستعمر الفرنسي، بعدما أعلن يومها الحزب الدستوري الجديد، في مؤتمر سرّي، اندلاع الكفاح المسلح والمعركة التحريرية ضدّ فرنسا، فهبّت البلاد بأكملها في ثورة مسلّحة ضد الوجود الفرنسي بعد تجاهل باريس المطالب التونسية وتنكّرها لوعودها السابقة وتعيينها جون دو هوتكلوك، مقيماً عاماً (حاكماً)، على البلاد، فدخلها على ظهر بارجة حربية لتخويف التونسيين وإرهابهم.
واجهت فرنسا القرار التونسي بعنف شديد، وشنّت حملةً قمعيةً غير مسبوقة ضدّ التونسيين في مختلف جهات البلاد، وارتكبت مجازر فظيعةً ضدّ المدنيين والمقاومين، منها مجزرة بلدة تازركة في جهة الوطن القبلي في أقصى الشمال الشرقي للبلاد، والتي حدثت في أواخر شهر كانون الثاني/ يناير، وأسفرت عن مقتل نحو 200 شخص في ليلة واحدة.
ليلة الغدر...
في كتاب "تونس الثائرة" لعلي البلهوان (1909-1958)، وهو أحد رموز الحركة الوطنية في تونس، ذكر أن بلدة تارزكة كانت آنذاك "قريةً صغيرةً في معزل عن الطرق الرئيسة، ومشهورةً بنشاط أهلها وحبهم للعمل، واشتغالهم بالزراعة، وعدد رجالها لا يتجاوز السبعمئة".
برغم المواجهات بين التونسيين والفرنسيين في جبهات عدة، إلا أن المؤرّخين يُجمعون على أنه لم تكن هناك مبرّرات لاقتحام البلدة وارتكاب مجزرة فيها خاصّةً أنّها لم تشارك في الإضرابات والمواجهات التي عرفتها تونس خلال ذلك الشهر، ولم يتظاهر أهلها ضدّ الفرنسيين، لأنّ القرية لم يكن فيها درك فرنسي أو أيّ وجود فرنسي قار.
شنّت فرنسا حملةً قمعيةً غير مسبوقة ضدّ التونسيين في مختلف جهات البلاد، وارتكبت مجازر فظيعةً ضدّ المدنيين والمقاومين أبرزها مجزرة تازركة
يؤكد المؤرخ محمد ضيف الله، في تصريحه، أنّه ليس هنالك دافع واضح يجعل القوّات الفرنسية تقوم بتلك المجزرة الرهيبة في الجهة، مشيراً إلى أنّ القوات الفرنسية دخلت تازركة في إطار حملة تمشيط في ظل الأحداث التي تشهدها البلاد.
بدأت أحداث تازركة في صبيحة 29 كانون الثاني/ يناير 1952، عندما اقتحم الجيش الفرنسي البلدة بينما طوّقتها الفرقة الثالثة من عساكر المظلّات التابعة للَّفيف الأجنبي (قوات مكونة من جنود يتحدرون من المستعمرات)، والتي أتت من فرنسا قبل أسابيع لإجراء مهمّات خاصّة في تونس.
في كتاب "تونس الثائرة"، يحكي الكاتب أن العمدة "فتح الباب فوجد نفسه أمام جماعة من الجنود الذين طلبوا منه أن يدعو منادياً لجمع السكان في الميدان العام. وأخذ بعضُ الجنود يتسلقون السطوح بينما أسرع السكان يجتمعون، ومنذ اللحظات الأولى أُطلقت النّار على مصطفى بن محمد المسعدي، عند دخوله أحد الشوارع المؤدية إلى ميدان الاجتماع، فخرَّ صريعاً".
جمع الجيش الفرنسي كل الرّجال الذين كانوا في البلدة، وأعلن في السّاحة العامّة أنّه سيهدم بيوت المتغيّبين من الرجال، وتمّ بالفعل بعد سويعات من اقتحام البلدة الانطلاق في تفجير المنازل بالديناميت بعد نهب كل محتوياتها، حسب ما ذكر البلهوان.
هكذا فجّر الجيش الفرنسي عشرات المنازل في تازركة، انتقاماً من السكان، وعقاباً جماعياً لهم، ونهب الفرنسيون كل محتوياتها، ولم تسلم حتى الحلي التي كانت تضعها النسوة، ومزقوا الملابس وبعثروا محتويات المنازل وأتلفوا المؤن التي كان يكتنزها الأهالي.
كما ورد في كتاب "تونس الثائرة": "أصيبت محال أخرى منها خمسة دكاكين بقالة؛ نُهب جميع ما فيها من المواد، كما نُهب دكان الحلاق صالح جويعة، وكذلك نُهبت مكاتب المأذونين ومُزّقت الدفاتر والعقود وغير ذلك من الوثائق الرسمية، وبُعثرت على الأرض".
حاول الجيش الفرنسي إذلال السكان وإرهابهم والعبث بكل ما يملكون من أشياء مادية ومعنوية، فعمدوا إلى الاعتداء على مقدّساتهم حسب ما ذكر البلهوان من "تدنيس للمسجد" و"تمزيق للمصاحف والكتب الدينية".
قتل الرُضّع واغتصاب النساء
في شهادته أمام هيئة الحقيقة والكرامة، يوم 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، قال المناضل حمادي غرس، إنّ الجيش الفرنسي توجّه إلى تازركة في 28 كانون الثاني/ يناير 1952، وقام بإخراج الرجال من بيوتهم وتجميعهم في بطحاء تحت الحراسة المشدّدة، ثم عاد الجنود إلى البيوت ليهتكوا أعراض النساء، ويقتلوا الأطفال الرُضّع.
أضاف غرس، أنّ الرجال كانوا يسمعون صراخ نسائهم وبناتهم وأمهاتهم اللواتي يتعرّضن للاغتصاب، مبيّناً أنّ كلّ رجل يحاول التحرّك لإنقاذ عائلته تعرّض للقتل مباشرةً.
ارتكب الفرنسيون مجزرةً فظيعةً في تازركة ضد المواطنين العزّل، خاصّةً النّساء والأطفال الصغار منهم، فبينما كان رجال القرية محشورين في الميدان العام ومهدّدين طوال اليوم، كانت النّساء يواجهن أسوأ الانتهاكات من جنود الاحتلال، ويتصارعن معهم من أجل إنقاذ حياتهنّ وشرفهنّ، وأظهرن يومها شجاعةً ورباطة جأش عظيمةً ما جعلهن مثالاً يُحتذى به وأظهرن بسالةً واستماتةً، بحسب بعض الروايات.
توجّه الجيش الفرنسي إلى تازركة في 28 كانون الثاني/ يناير 1952، وأخرج الرجال من بيوتهم وجمّعهم في بطحاء تحت الحراسة المشدّدة، ثم عاد الجنود إلى البيوت ليهتكوا أعراض النساء، ويقتلوا الأطفال الرُضّع
يقول علي البلهوان: "كان التنكيل بالتونسيين يرمي إلى إيذائهم أذى عميقاً، والمس بتقاليدهم وروحانيّاتهم، ولذا أُطلقت يد الجنود في تلك الليلة على النساء عند غياب رجالهن، علماً من المستعمر بأنّ كل امرأة مسلمة تُنتهك حرمتها تصاب بعار لا يمحوه الدهر، وتصبح كأنها منبوذة من المجتمع".
تناوب الجنود على اغتصاب بعض النساء، حتى أنّ الفتيات كنّ يفضّلن الانتحار على أن يكنّ لقمةً سائغةً لدى جنود الاحتلال. يقول بلهوان: "م.ج، سنّها 16 سنةً، انتُشلت من فراشها، وعندما هددها الجند بالاغتصاب فرّت هاربةً وألقت بنفسها في البئر".
كانت حوادث الاغتصاب أفظع الحوادث التي دارت في تلك اللّيلة المرعبة، وذكرت بعض المصادر أنّ كثيرات من الأمّهات كنّ يُخرجن بناتهنّ من الغرف ويدفعن بهنّ إلى البئر للارتماء فيها.
ومن أفظع ما ارتكبه الجنود الفرنسيون في قرية تازركة، قتل الرضّع دوساً بالأقدام ورمياً على الأرض، وقد اتفقت جميع التقارير ومراسلو الصحف الأجنبية حسب ما ورد في كتاب "تونس الثائرة"، أنّه "تمّ قتل رضيعة عمرها 20 يوماً، بينما تمّ انتزاع رضيع عمره 45 يوماً من أمّه، فداسه جندي بالأقدام، فيما قام آخر بانتزاع رضيعة عمرها خمسة أشهر من حضن أمِّها ورميها أرضاً بعنف أدَّى إلى موتها، بينما تمّ إلقاء طفلة عمرها عام ونصف فرّت أمها للسطح فلحق بها جندي فاغتصبها وعندما عادت إلى بيتها وجدت بنتها ميتةً".
مجزرة لتخويف التونسيين
قال المؤرخ والأستاذ في الجامعة التونسية محمد ضيف الله، إن مجزرة تازركة في كانون الثاني/ يناير 1952، جاءت في إطار تمشيط جيش الاحتلال الفرنسي لجهة الوطن القبلي مع انطلاق الكفاح المسلح في الـ18 من الشهر نفسه، مشيراً إلى أنّ جيش الاحتلال بدأ بتمشيط تازركة خوفاً من إخفاء سلاح المقاومين فيها كونها من أقرب المدن إلى العاصمة.
وأضاف ضيف الله في تصريح لرصيف22، أن من أهداف تلك المجزرة الشنيعة تخويف المقاومين على أساس أنّ الاستعمار الفرنسي لا يتسامح مع التمرّد لذلك استعمل المحتلّ العنف الشديد.
بقي دخول تازركة ممنوعاً على التونسيّين وغيرهم، وظلت مقطوعةً في الحقيقة عن العالم مدة أشهر متوالية
أفاد ضيف الله بأنّ عملية التمشيط في الوطن القبلي استهدفت بلدات عدة، لكن تازركة كانت أكثر المدن تضرّراً، بحكم عدد الضحايا والفظائع التي تعرض لها أهلها.
وبيّن محدّث ، أنّ الذين تعرّضوا للاعتداء في تازركة كانوا من المدنيّين العزّل، ولم يرفعوا السلاح ضدّ الجيش الفرنسي آنذاك، على عكس بعض المجازر التي حدثت في جهات أخرى، مثل معركة برقو في تشرين الثاني/ نوفمبر 1954، مشيراً إلى أنّ الأمر مرتبط بمجزرة ضدّ المدنيّين بالأساس.
وأشار ضيف الله، إلى أنّ مناطق عدة في جهة الوطن القبلي تعرّضت للاضطهاد والمجازر بهدف تخويفها خشية أن يتم إخفاء الأسلحة من قبل المقاومين فيها، مثل بلدات بني خلاد وقليبية والعديد من المناطق الأخرى.
شكوى أمام مجلس الأمن
بقي دخول تازركة ممنوعاً على التونسيّين وغيرهم، وظلت مقطوعةً في الحقيقة عن العالم مدة أشهر متوالية حتى أن جريدة الصباح التونسية، كتبت في عددها الصادر بتاريخ 21 أيار/ مايو 1952، أنّ السلطات المحلية في تازركة كانت تفتح تحقيقاً مع كل زائر للمنطقة، حتى من كان يزور أهله أو أصدقائه منهم، وتمنعه من الإقامة فيها أكثر من بضع ساعات.
وذكرت الصحيفة أنّه تم فتح بحث مع المضيف أو القريب الذي ينزل عنده الزائر، وهكذا حيل بين كثيرين من أفراد العائلات التازركيّة المقيمة في تونس، وبين زيارتهم لذويهم.
غادر الجيش الفرنسي تازركة نهائيّاً، يوم 3 شباط/ فبراير 1952، بينما بلغت أصداء المجازر الفرنسيّة في تازركة أروقة الأمم المتحدة إذ تكوّنت لجنة تحقيق دولية من الكونفدرالية النقابية الدولية (السيزل)، وتقدمت قيادة الحركة الوطنية ممثلةً في صالح بن يوسف ومحمد بدرة، بشكاية ضدّ فرنسا لدى مجلس الأمن في نيويورك سنة 1952، وقدّما صوراً لهذه المجزرة الفظيعة، فيما تواصل الكفاح المسلح في تونس إلى أواخر عام 1954، عندما تم الاتفاق على الاستقلال الداخلي الذي تحقق في حزيران/ يونيو 1955، ومهّد للاستقلال التام بعد أشهر.
المصدر:مواقع ألكترونية*