الأرض ممتلئة بالهيدروجين وطاقته قد تدوم آلاف السنين
يقدم الهيدروجين مصدراً لطاقة وفيرة وخالية من التلوث (إنوفيشن نتورك)
الهيدروجين متوفر في كل أنحاء الأرض وبكميات كبيرة تتكفل إمداداتها بتوفير طاقة نظيفة تكفي البشرية آجالاً. لعله خبر علمي صغير، لكنه ربما يشكل نقطة تحول أساسية في مشهدية الطاقة على امتداد الكرة الأرضية! يتعلق الخبر باكتشاف يثبت مقولة راودت علماء الطاقة فترة طويلة في شأن توافر غاز الهيدروجين في أمكنة تنتشر على خريطة الكرة الأرضية كلها.
ووفق الموقع الشبكي "الجمعية الأميركية لتقدم العلوم" American Association for the Advancement of Sciences، ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2022، قدم "مركز المسح الجيولوجي" الأميركي التابع لوزارة الطاقة، نموذجاً رقمياً مشغولاً بالذكاء الاصطناعي يبين أن اليابسة تحتوي كميات من الهيدروجين تكفي للاستمرار في المستوى الحالي من استهلاك الهيدروجين طيلة آلاف الأعوام. ووفق ذلك النموذج المحوسب، هناك تفاعلات بين الصخور والماء تجري في أعماق المسطحات المائية وتنتج الهيدروجين بصورة مستمرة. ويتجمع ذلك الهيدروجين في أمكنة على اليابسة تتلقى تسرباته كالآبار الجافة والمناجم المهجورة.
واستطراداً، استند ذلك النموذج إلى أعمال مجموعة صغيرة ودوؤبة من العلماء اشتغلت على تطوير اكتشاف جرى عام 2012 قوامه العثور على الهيدروجين الطبيعي الصافي في بئر جافة عمقها 108 أمتار في إحدى قرى دولة مالي الأفريقية. وحدث ذلك أثناء أعمال تنقيب لشركة "شابمان للهـندسة البترولية". وبعد التعمق في وضعية الحقل الذي ظهر فيه الهيدروجين الطبيعي في بئر بمالي، تكررت اكتشافات مشابهة في البرازيل وأستراليا والولايات المتحدة. وفي تطور بارز، تمكنت شركة "طاقة الهيدروجين الطبيعي" من إنجاز أول حفرة للهـيدروجين في ولاية نبراسكا. وفي 2022، تولّت "الرابطة الأميركية لجيولوجيي البترول" تشكيل أول لجانها المتخصصة في الهيدروجين الطبيعي.
انتشار مذهل لـ"قلب" الطاقة في الغاز
تشدد الكلمات السابقة نبرتها على كلمتين هما الهيدروجين والانتشار.
لنبدأ بالثانية. إنها تشير إلى أن غاز الهيدروجين الطبيعي يتوافر في مخازن ومخابئ في الدول كلها، على عكس النفط مثلاً الذي يتركز في أمكنة معينة.
نعود للكلمة السحرية الأولى، أي الهيدروجين. تشكل هذه المادة القلب في الغاز الطبيعي الذي بات رائجاً القول إنه يتجه إلى احتلال الصدارة في مشهدية الطاقة أثناء العقود المقبلة، بل يوصف الزمن الحاضر بأنه عصر الانتقال إلى طاقة الغاز، مع "مرافقة" من مصادر الطاقة النظيفة كتلك الآتية من الرياح والشمس والسدود الكهرومائية وغيرها. وهناك منافس شرس وموضع خلافات لا حصر لها يتمثل في الطاقة النووية، مع ملاحظة أن أي اختراق علمي في ذلك الحقل، خصوصاً الاندماج النووي، من شأنه نقل كل نقاشات الطاقة إلى مستويات مغايرة نوعياً.
إذاً، لنعد للغاز الطبيعي. إنه أقل تلويثاً بكثير من النفط، وأدنى تلويثاً بما لا يقاس من الفحم الحجري الذي أعادته حرب أوكرانيا إلى مشهدية الطاقة بصورة لم تكن متوقعة.
وفي مقلب مغاير، يعطي الهيدروجين طاقة نظيفة تماماً. ولا يقف الهيدروجين على طرف نقيض من الغاز الطبيعي لأن تركيبة الأخير تحتوي على كثير من الهيدروجين.
ومن الناحية العلمية، "يحترق" الهيدروجين ويعطي طاقة ضخمة ولا ينتج منه نظرياً سوى الماء المكون من الأوكسجين والهيدروجين. بالتالي، تكون طاقة الهيدروجين نظيفة تماماً، في الأقل من الناحية النظرية. لنتأمل الغاز الطبيعي. تتألف تركيبته أساساً من غاز الميثان المكون أربعة أخماسه من الهيدروجين وخمسه من الكربون. إذاً، قلب الطاقة في الغاز الطبيعي يتمثل أساساً في الهيدروجين. وينطبق الأمر نفسه على الأشكال المختلفة للغاز التي تحمل كلها تسميات تبدأ بالإشارة إلى الهيدروجين كالأخضر والأزرق والرمادي وغيرها.
يشغل الهيدروجين خلايا الوقود التي تعد بطاقة نظيفة ورخيصة ولا تتطلب شبكات مركزية للكهرباء (هيدروجين فوروم)
في تفاصيل بارزة عن طاقة الهيدروجين، يشار إلى أن كل ثلاثة ليترات منه تنتج مقداراً من الطاقة يساوي ما يعطيه ليتر من البنزين. ولعل ذلك يوضح إشكالية مهمة في مسألة الخروج من الوقود النفطي تتمثل في أن التركيز العالي للطاقة فيه وسهولة التعامل معه تحت شروط العيش الطبيعي، يرفعان معيار التحدي أمام بدائل النفط.
ومثلاً، يقدر الإنتاج الحالي لدول "أوبك+" بحوالى 30 مليون برميل يومياً، ويساوي ذلك بالطاقة الهيدروجينية حوالى 90 مليون برميل يومياً.
يعطي كل ليتر ماء ربع ليتر من الهيدروجين. ويعني ذلك أن إنتاج "أوبك" من النفط يحتاج إلى قرابة 360 مليون برميل ماء يومياً. ويشير ذلك إلى تحدٍّ آخر يواجه بدائل النفط، فليس الماء أقل أهمية من الطاقة كي يصرف في استخراج طاقة الهيدروجين!
كذلك يستخدم غاز الهيدروجين مصدراً للطاقة في الصناعة، على غرار تخزينه في قوارير كي يستعمل لتلحيم المعادن بالحرارة، إذ إنه يكون مضغوطاً بقوة 250 بار (يساوي كل بار قوة الضغط الجوي).
وكذلك يستخدم الهيدروجين سائلاً في الصواريخ والمركبات وبعض الطائرات ليكون مصدراً مباشراً للطاقة ،لكنه يستلزم وضعه في برودة 254 درجة مئوية تحت الصفر. ومرة أخرى، إنها أحد التحديات البارزة في مسألة الطاقة البديلة. وبصورة عامة، يعتمد قطاع الفضاء والصواريخ الباليستية مثلاً على الهيدروجين، إذ يستعمل سائلاً لدفع الصواريخ الباليستية البعيدة المدى، بما في ذلك عابرات القارات.
لمحة عن خلايا الوقود وعلاقتها بالهيدروجين
يعتبر غاز الهيدروجين Hydrogen أبسط المواد في الطبيعة وأخفها.
وتتألف ذرة الهيدروجين من إلكترون وحيد، يدور حول نواة فيها بروتون مفرد ونيوترون وحيد أيضاً. ويحمل الإلكترون إشارة كهرباء سلبية، فيما يحمل البروتون إشارة كهربائية إيجابية. ولا يحمل النيوترون إشارة كهرباء، فيعتبر "محايداً".
وتذكيراً، لقد اكتشف غاز الهيدروجين، ورمزه "أتش 2" H2 ، على يد الإنجليزي تشارلز كافندش (1766) والفرنسي أنطوان لافوازييه (1783).
ويتألف الماء في شكله الكيماوي المجرد من ذرتي هيدروجين متحدتين مع ذرة أوكسجين. ولدى مرور التيار الكهربائي فيه، يتحلل الماء إلى هيدروجين وأوكسجين.
وبالاستعادة، لقد وضع الأسس النظرية لخلايا الوقود Fuel Cells العالم الألماني ويليام غروف (1811- 1896).
يرتكز المبدأ الرئيس لعمل خلايا الوقود على "معاكسة" عملية التحليل الكهربائي للماء. وبدلاً من أن يعمل تيار الكهرباء على فصل الأوكسجين عن الهيدروجين، يعمل غشاء خاص على التقاط بروتونات الهيدروجين [لنلاحظ أن الهيدروجين يصبح مكهرباً بعد أن يتخلى عن الإلكترون الوحيد فيه، فيتصرف كبروتون]، ويمزجها مع ذرات الأوكسجين لتوليد الطاقة مع الماء. ويسمى الغشاء "بروتون إكستشنج ميمبرين" Proton Exchange Membrane وترجمته "غشاء تبادل البروتونات". وبمعنى آخر، تحول خلايا الوقود الهيدروجين إلى كهرباء وحرارة.
ومن المستطاع تصنيف خلايا الوقود بحسب مصدر الهيدروجين الذي تستهلكه إلى نوعين. يتمثل أولهما في الخلايا التي تستعمل وقوداً مشبعاً بالهيدروجين، خصوصاً الغازولين (من البترول) والميثانول (من الغاز الطبيعي). ويتجسد الثاني بخلايا تستعمل الهيدروجين مباشرة، كأن يأتيها عبر قوارير الـ"هايدرايد" Hydriade المتطورة التي تصنع من مزيج من التيتانيوم والنحاس. [تذكير بأهمية المعادن النادرة في صناعة خلايا الوقود]. ويعطي "غشاء تبادل البروتونات" خلايا الوقود القدرة على توليد كميات كبيرة من الكهرباء ولمدة طويلة.
ومع اكتشاف أن الهيدروجين الطبيعي متوافر في بقاع اليابسة كلها، يتوقع كثير من خبراء الطاقة أن تجدد صناعة خلايا الوقود نشاطها، بل قد تنتشر بسرعة فلكية مدوخة، فتصير مصدراً أساسياً للكهرباء في المنازل والسيارات وحتى المصانع. وبديهي القول إن تحقق تلك الصورة من الانتشار التي ما زالت تصوراً تقنياً، سيغير مشهدية الكهرباء والطاقة بصورة جذرية، إذ سيتوافر للمنازل والمساكن والمباني والمنشآت أن تكون مصدراً للكهرباء، وربما تستطيع تغذية شبكات الكهرباء أيضاً، لكنها ربما تستحث أيضاً على تغيير مفهوم الشبكات ولوجستياتها واقتصاداتها.
إذاً، هل يضعنا اكتشاف الانتشار الواسع للهـيدروجين الطبيعي أمام نقطة تحول متعددة الأبعاد في مشهدية الطاقة، أم ستظهر معطيات أخرى تغير ذلك الرهان نفسه جذرياً؟ لننتظر ولنرَ.
المصدر:مواقع ألكترونية