سرفانتس مخلّداً في مغارته الجزائرية... محنة الاختباء التي ألهمته "دون كيشوت"
سرفانتس مخلّداً في مغارته الجزائرية 1-414
على مرتفع جبلي مميز في الجزائر العاصمة، يعبره طريق واحد بمنعطفات حادة الدوران، تتربع مغارة في جوف الغابة تحوّلت رمزاً أدبياً وفكرياً بعدما احتضنت الشاعر الإسباني الشهير ميغيل سرفانتس، ومنها خرجت أهم روائعه الأدبية.
المكان يوحي لك بالغرابة، ويجعلك تدرك أن من مرّ من هنا وبقي في هذا المكان خمس سنوات لم يكن شخصاً عادياً. وفي جوف هذه الغابة الجبلية المحاذية لإحدى أهم حدائق العالم، خرج أحد أهم صنائع السينما العالمية... فيلم "ترزان".
سرفانتس مخلّداً في مغارته الجزائرية 1-415
ارتبط المكان "المغارة"، ارتباطاً وثيقاً بالأدب العالمي، وبين السينما والأدب خيط رفيع تمثل بإنجاز روائع خالدة، فكانت رائعة "دون كيشوت" للأديب الإسباني ميغيل سرفانتس، صاحب الرواية المذكورة، وساكن المغارة بين 1575 و1580، حيث أوى إليها بعد هروبه من أسر العثمانيين في الجزائر.
القليل من الجزائريين يعرفون قصة هذه المغارة، المحاذية للمكتبة الوطنية الجزائرية، وللمتحف الوطني للفنون الجميلة الذي افتتح عام 1897.
جال "النهار العربي" في المغارة... وقفنا بمحاذاتها، لنلتقي بجمع من الشباب، سألناهم إن كانوا يعرفون قصة هذه المغارة، فأجاب سمير: "نعرف دون كيشوت... شفتو رسوم متحركة في التلفزيون وأنا صغير". أما منير، فيقول "كل ما أعرفه أنها مغارة تاريخية وفقط..."، ليقاطعه أمين "يا خويا جامي سمعت بيها...".
هي حال المغارة الرمز، عند جيل بل أجيال من الجزائريين، ولا غرابة في ذلك ما دام أنها ظلت لسنوات طويلة في إهمال تام، مع أنها معلم تراثي أدبي وثقافي تعدت شهرتها حدود الجزائر لتصل إلى أصقاع العالم أجمع عبر رواية سرفانتس "دون كيشوت دو لاماشا" أو "دون كيخوتي" باللغة الإسبانية.
من جندي إلى روائي وأديب عالمي
بأسلوب قصصي مشوّق، روى الكاتب الصحافي والباحث محمد بن زيان، لـ"النهار العربي"، قصة ميغيل سرفانتس، فقال: "في الحامة اختفى سرفانتس عندما حاول الفرار من الأسر، وتشكلت له رؤية رائعته التأسيسية للرواية الحديثة والمعاصرة ("دون كيشوت")؛ ففي طريق عودته من إيطاليا نحو إسبانيا بعد حصوله على إجازة عسكرية، تعرضت السفينة التي كانت تحمل سرفانتس قرب مارسيليا إلى كمين بحارة عثمانيين، وتم أسره وأخاه رودريغو في عام 1575". أضاف بن زيان: "شارك سرفانتس في معركة ليبانت (1571)، وتعددت محاولاته للهرب من الأسر، ليفلح في الأخير وليتخذ من المغارة مكاناً للاختباء قبل أن يُكتشف ويُطلق سراحه في 19 أيلول (سبتمبر) 1580". ويؤكد بن زيان أن المحنة حوّلت سرفانتس من جندي إلى كاتب روائي وأديب مسرحي وشاعر، وتركت فترة وجوده بالجزائر بصمة في نصوصه.
سرفانتس مخلّداً في مغارته الجزائرية 1--117
محاولات الانبعاث
منذ ما يقارب العشرين سنة، حاولت السلطات الجزائرية بالتعاون مع السفارة الإسبانية ترميم المكان وجعله ضمن المسارات التراثية السياحية في عاصمة البلاد، واستمرت عملية الترميم من سنة 2006 إلى غاية عام 2016، احتفاءَ بالذكرى الـ400 لوفاة سرفانتس (1547 ـ 1616)؛ وقبل ذلك راحت مصالح بلدية محمد بلوزداد، تنظف المغارة وتسيّجها لتبقى معلماً غير قابل لدخول وخروج المتشردين ومتعاطي المخدرات وغيرهم، في محاولة توقّع معها كثيرون أن المغارة الرمز ستُبعث من جديد، وستكون "رمزاً ثقافياً وتراثياً وسياحياً وشعاعاً أدبياً وروائياً جزائرياً"، إلا أن المغارة لم تحظ بذلك الاهتمام الذي كان يراد لها، خصوصاً من نخبة المثقفين والأدباء في الجزائر.
وفي هذا الشأن يؤكد بن زيان لـ"النهار العربي"، "أن عدداً من المثقفين دعوا للاستثمار ثقافياً وسياحياً في المغارة وغيرها من المواقع المماثلة، مثل المغارة التي كتب فيها ابن خلدون مقدمته في نواحي فرندة التابعة لمحافظة تيارت (غرب الجزائر) ... والأمل لا يزال قائماً لتحرك رجال المال والأعمال، مثل مبادرة أحدهم في وهران حين قام بتهيئة وتحويل بيت إيف سان لوران إلى معلم سياحي وثقافي".
وكان سبق أن طرح مثقفون مقترحات عديدة لجعل مغارة سرفانتس فضاءً ثقافياً، ودعا الكاتب عبد الرزاق بوكبة، قبل سنوات، إلى تمكين المغارة من احتضان فكرة المقهى الثقافي الجامع لنخبة المثقفين والأدباء والكتاب من مختلف مشاربهم، وجعلها مكان لقاء وتبادل للكتب وعروض فنية ومداخلات وغيرها، غير أن الفكرة بقيت مجرد مقترح غير قابل للتجسيد ولو معنوياً حتى الآن، ولا تزال مغارة سرفانتس "مهملة ومهمشة في المشهد الثقافي"، على حد تعبير بوكبة.
اهتمام فكري و"سياسي"
فكرياً اهتم باحثون وكتاب جزائريون بالفترة التي عاشها ميغيل سرفانتس في الجزائر، من بينهم الروائي واسيني الأعرج، الذي كتب روايته "حارسة الظلال" مستلهماً حكاية اختباء سرفانتس في المغارة؛ كما كان للكاتب جمال غلاب، صولة حول المغارة حين كتب عام 2006 "سرفانتس في الحامة"، معتبراً أن الأديب العالمي لا يزال حياً على الصعيد الأدبي، وقد خلّد الجزائر في رائعته "دون كيشوت" التي عرفت أكثر من 800 طبعة وتُرجمت إلى معظم لغات العالم.
سرفانتس مخلّداً في مغارته الجزائرية 1--38
أما باقي المثقفين الجزائريين، فما فتئوا ينادون بإعطاء المغارة المنزلة التي تليق بها، وأن تحظى بالاهتمام الفعلي من وزارة الثقافة والسلطات عامة، خاصة أن الجزائر تعيش حقبة جديدة على كل الأصعدة، مؤكدين أن مشهد المغارة البانورامي سيزيد المنطقة رونقاً وسمفونية جمالية راقية.
سياسياً، وقبل التوتر الحاصل بين البلدين، الجزائر وإسبانيا، كان رئيس حكومة مدريد بيدرو سانشيز قد زار الجزائر خريف عام 2020، وكانت خاتمة زيارته مغارة سرفانتس، حيث أكد حينها أن "الفنانين والمبدعين والأدباء ينتمون للأرض التي ترعرعوا وكبروا فيها"، مضيفاً أن جزءاً من حياة الكاتب مرتبطة بالجزائر. كما أوضح في تصريح إعلامي، أن إسبانيا والجزائر "تعملان منذ سنوات طويلة على تجسيد مؤلف يتناول حياة الكاتب الإسباني والمسار الذي سلكه، ونعمل أيضاً على تحقيق درب سرفانتس، وهو مشروع جزائري - إسباني حول المسار السياحي بالتنسيق مع محافظة الجزائر ومعهد سرفانتس الذي "يجسد اختلاط ثقافتي البلدين" على حد قوله.
سرفانتس مخلّداً في مغارته الجزائرية 1---42
وتحاول بعض الأطراف السياسية ورجال المال والأعمال الإسبان خاصة، المتأثرين تأثراً بالغاً بتعليق معاهدة الصداقة التي تربط البلدين وتوقف الحركة التجارية بينهما، اللعب على وتر الثقافة والتراث القريبين إلى روح الشعبين، لتخفيف التوتر الذي دخل عامه الثاني قبل أيام، رغم الصرامة التي تبديها السلطات الجزائرية في هذا الخصوص.


المصدر:مواقع ألكترونية