آيات ضاعت بكاملها وأخرى أسقطت منها كلمات... مسألة تحريف القرآن بين السنّة والشيعة
قضية "تحريف القرآن" من المسائل القلقة في التراث الإسلامي، نظراً لآية {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] التي يفسرها جمهور المسلمين بأنها تعني تعهداً إلهياً بصون القرآن من أي تحريف، رغم أن الآية قد تحتمل تفسيراً آخر، ربما يكون هو الأرجح، وهو حفظ القرآن في اللوح المحفوظ، {بل هو قرآن كريم، في لوح محفوظ} [البروج: 21-22].
ويبقى التفسير الأول هو الشائع، على الرغم من أن "الذكر" هو أحد أسماء التوراة في القرآن، إذ ورد فيه {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} [النحل:43] و{ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: 105]. لكن الاعتقاد الغالب بين المسلمين أن الله سمح بتحريف التوراة والإنجيل، بخلاف القرآن، ما قد يشي بازدواجية واضحة في ما يتعلق بمسألة عصمة الوحي الإلهي في العقيدة الإسلامية.
واللافت أن استفظاع تحريف القرآن الذي نجده عند عموم المسلمين اليوم لا نكاد نلمسه عند قدماء المحدثين والفقهاء والرواة الكبار الذين لم يجدوا أية غضاضة في معالجة هذه المسألة، بل عمدوا إلى نشر الروايات التي تعضدها، دون أن يتأثموا من جراء ذلك. يستوي في ذلك محدثو وفقهاء الشيعة ونظراؤهم من أهل السنّة والجماعة.
تحريف القرآن عند الشيعة
موقف الشيعة من صحة القرآن الحالي يشوبه بعض الاضطراب. فقدماء المحدثين الشيعة ذكروا صراحة وقوع تحريفات وزيادة ونقصان فيه، في حين يتبرأ شيعة اليوم من هذه التهمة. ولعل تفسير هذا الموقف المتناقض هو اعتقاد الشيعة بأن القرآن الصحيح هو الموجود لدى الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي، الذي ولد سنة 869، واختفى سنة 940 تقريباً، وما زال الشيعة ينتظرون عودته، ويعتقدون أنه انتقل إليه المصحف الصحيح الذي كتبه الإمام علي بن أبي طالب عبر الأئمة من بعده، حسبما جاء في كتاب "أصول الكافي" للمحدث الشيعي محمد بن يعقوب الكليني (864-941).
وقد أكد الفقيه علي بن إبراهيم القمي (ت. 940)، وهو أحد أبرز رواة الشيعة، في مقدمة تفسيره، على دعوى تحريف القرآن في السطور الأولى من كتابه حيث يقول: "فالقرآن منه ناسخ ومنسوخ ... ومنه حرف مكان حرف، ومنه على خلاف ما أنزل الله".
ضريح علي بن إبراهيم القمي
وفي موضع آخر، يوضح المقصود بهذا القول بتعديلات منسوبة للإمام جعفر الصادق (702-765) ويقول: "وأما ما هو على خلاف ما أنزل الله فهو قوله: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران: 110)... إنما نزلت: ‘كنتم خير أئمة أخرجت للناس’... ومثله آية... {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما} (الفرقان: 74) وإنما نزلت: ‘الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعل لنا من المتقين إماما’".
القبة المبنية على قبر الإمام الصادق في البقيع قبل هدمه
ويردف ذاكراً "وقوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} (الرعد: 13-11)... إنما نزلت: ‘له معقبات من خلفه، ورقيب من بين يديه يحفظونه بأمر الله’ ومثله كثير".
بل ويذكر القمي أن آية {لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون} [النساء: 166] نزلت كالتالي: "لكن الله يشهد بما أنزل إليك في عليّ أنزله بعلمه والملائكة يشهدون". ويذكر أربع مواضع أخرى في (المائدة:67) و(النساء:168) و(الشعراء:227) و(الأنعام:93) جميعها أسقط منها اسم علي. ولا يخفى ما في هذه الرواية من تعصب مذهبي لعلي بن أبي طالب.
ويذكر الكليني، في نهاية فصل "النوادر" في مصنفه "الكافي"، حديثاً منسوباً للإمام جعفر الصادق يقول فيه: "إن القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمد (ص) سبعة عشر ألف آية".
ويذكر في موضع آخر حديثاً منسوباً للإمام محمد الباقر (677-733) يقول فيه: "ما ادعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب والأئمة من بعده".
تروي كتب الحديث عن السيدة عائشة أن هناك آيات ضاعت من القرآن، وكانت قد كتبتها في صحيفة تضعها تحت سريرها، ولكن لما مات الرسول دخلت عنزة وأكلتها
ويذكر التابعي سليم بن قيس الهلالي (ت. 695) في كتابه المسمى باسمه، والذي يُعَدّ أقدم كتب الشيعة، في الحديث الحادي عشر، حديثاً منسوباً لطلحة بن عبيد الله يسأل فيه علي بن أبي طالب عن سبب إخفائه مصحفه وعدم إرساله إلى عمر عندما طلبه منه، قبل أن يقول: "فدعا عمر الناس، فإذا شهد اثنان على آية كتبها وما لم يشهد عليها غير رجل واحد لم يكتبه! وقد قال عمر، وأنا اسمع: ‘إنه قد قتل يوم اليمامة رجال كانوا يقرأون قرآناً لا يقرأه غيرهم’، وقد جاءت شاة إلى صحيفة، وكُتاب عمر يكتبون، فأكلتها وذهب ما فيها، والكاتب يومئذ عثمان!".
ويستطرد الهلالي ذاكراً على لسان طلحة قوله: "سمعت عمر يقول وأصحابه الذين ألفوا ما كتبوا على عهد عثمان: ‘إن الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة، والنور ستون ومائة آية، والحجرات تسعون آية’... وقد شهدت عثمان حين أخذ ما ألف عمر فجمع له الكتاب وحمل الناس على قراءة واحدة ومزق مصحف أبي بن كعب وابن مسعود وأحرقهما بالنار".
ويذكر محمد بن علي بن بابويه القمي (918-991)، أحد كبار محدثي الشيعة والمعروف بـ"الشيخ الصدوق"، في كتابه "ثواب الأعمال وعقاب الأعمال" مسألة تحريف القرآن عند ذكر سورة الأحزاب، ويذكر رواية عن عبد الله بن سنان عن جعفر الصادق يقول فيها: "سورة الأحزاب فيها فضائح الرجال والنساء من قريش وغيرهم، يا ابن سنان إن سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب وكانت أطول من سورة البقرة ولكن نقصوها وحرّفوها".
كذلك يذكر المحدث الشيعي، هاشم البحراني (1620-1695) في تفسيره "البرهان" روايات كتب السنّة عن عملية جمع المصحف التي استبعد منها علي بن أبي طالب، ويعلق: "القرآن الذي بأيدينا ليس من جمع النبي (ص) بل إن الذي تصدى لجمعه أبو بكر ثم عمر ثم عثمان وأنه الذي أتم جمعه ورتبه ترتيبه الموجود وأن ذلك كان على يد زيد بن ثابت الذي في أخبارنا، أنهما كلفاه تأليف القرآن على وفق إرادتهما من إسقاط بعضه إلا أنهم لم يذكروا في ذلك السبب الذي ورد في أخبارنا، بل لفقوا لذلك أعذاراً أخر كما هو دأبهم ويؤيد ذلك ما يستفاد منها أيضاً من أنهم لم يدخلوا علياً في ذلك أصلاً وأنهم محوا سائر المصاحف".
ويؤكد البحراني على اعتقاد كبار فقهاء الشيعة بتحريف القرآن ويقول: "الذي يظهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن... وكذلك شيخه علي بن إبراهيم القمي... ولقد قال بهذا القول أيضاً ووافق القمي والكليني جماعة من أصحابنا المفسرين كالعياشي والنعماني وفرات بن إبراهيم وغيرهم وهو مذهب أكثر محققي محدثي المتأخرين، وقول الشيخ الأجل أحمد بن أبي طالب الطبرسي كما ينادي به كتابه الاحتجاج".
ويضيف البحراني: "وعندي في وضوح صحة هذا القول (تحريف القرآن) بعد تتبع الأخبار وتفحص الآثار بحيث يمكن الحكم بكونه من ضروريات مذهب التشيع وأنه من أكبر مفاسد غصب الخلافة".
ويعلق الشيخ محمد شريف الصواف في كتابه "بين السنة والشيعة: المسائل الفقهية التي خالف فيها الشيعة الإمامية أهل السنّة والجماعة" بأن المقصود أن أبي بكر وعمر وعثمان بعد أن غصبوا الخلافة من علي، على حسب زعم الإمامية، حذفوا من القرآن آيات فيها النص أو الإشارة إلى أحقية علي بالخلافة ومن ذلك أنه كان في القرآن سورة كاملة اسمها "سورة الولاية"، وأنهم أسقطوا من سورة الأحزاب آيات كثيرة في فضل علي وآل بيته، وغير ذلك.
سورة الولاية
ورغم ذلك قال الشيخ محمد بن علي بن باويه القمي في كتابه "الاعتقادات": "اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد (ص) هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك. ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة. وعندنا أن ‘الضحى’ و’ألم نشرح’ سورة واحدة، و’لإيلاف’ و’ألم تر كيف’ سورة واحدة. ومن نسب إلينا أنا نقول إنه أكثر من ذلك، فهو كاذب".
ويتناول المستشرق الألماني ثيودور نولدكه (1826-1930) تناقض الموقف الشيعي من تحريف القرآن، في مؤلفه "تاريخ القرآن" فيقول: "تعتبر الطائفة الشيعية مصحف عثمان كتاباً مقدساً وتستعمله حتى يومنا هذا، بصرف النظر عن كل التهم التي قُذف بها. لكن هذا بحسب اعتقادهم ليس إلا حلاً مؤقتاً إلى أن يحين زمن مملكة المهدي. فالقرآن الصحيح الخالي من التزوير هو في حيازة خلفاء علي السريين، وهم الأئمة الاثنا عشر الذين يخلفونه، إلى حين يكشف عنه الإمام الأخير، وهو المهدي القائم".
ثيودور نولدكه
تحريف القرآن عند السنّة
تُعَدّ مسألة إسقاط وتغيير آيات كثيرة من القرآن من الأمور التي تكاد تتفق عليها المصادر السنّية، ومنها الرواية التي ذكرها السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن" عن أن ابن عمر قال: "لا يقولن أحدكم: قد أخذت القرآن كله، وما يُدريه ما كله؟ قد ذهب منه قرآن كثير ولكن ليقل: قد أخذت منه ما ظهر".
وتُعَدّ سورة التوبة السورة الوحيدة في القرآن التي لا تبدأ بالبسملة، ويذكر السيوطي سبب ذلك نقلا عن مالك: "أولها لما سقط سقط معه البسملة، فقد ثبت أنها كانت تعدل البقرة لطولها".
وهناك رواية يذكرها المحدث السني أبو القاسم الطبراني (873-918)، أحد كبار علماء أهل السنّة، في كتابه "المعجم الأوسط" عن عمر بن الخطاب: "قال رسول الله (ص) القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف"، أي ثلاثة أضعاف القرآن الذي وصل إلينا والذي يبلغ عدد آياته بحسب الفقيه مجاهد بن جبر (642-722) 320015 حرفاً.
استفظاع الحديث عن تحريف القرآن الذي نجده عند عموم المسلمين اليوم لا نكاد نلمسه عند قدماء المحدثين والفقهاء والرواة الكبار الذين لم يجدوا أية غضاضة في معالجة هذه المسألة، بل عمدوا إلى نشر روايات تعضدها
وقد مرت عملية جمع القرآن بثلاث مراحل، يعرضها الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني، (ت. 1948)، أستاذ علوم القرآن والحديث بالأزهر، في كتابه "مناهل العرفان في علوم القرآن". تبدأ المرحلة الأولى في عهد النبي محمد واقتصرت على كتابة الآيات وترتيبها ووضعها في مكانها الخاص من سورها، لكنها بقيت مبعثرة بين جريد النخل وعظام الحيوانات والحجارة والرقاع ونحو ذلك، ثم المرحلة الثانية في عهد أبي بكر إذ نقل القرآن وكتب في صحف مرتبة الآيات، والمرحلة الثالثة في عهد عثمان إذ نقل ما في تلك الصحف إلى مصحف واحد، واستنسخت مصاحف منه ترسل إلى الآفاق الإسلامية.
ورغم أن النبي قال "خذوا القرآن من أربعة، من عبد الله بن مسعود وسالم ومعاذ وأبي بن كعب" [البخاري: 4999] لم يتبع الخليفتان أبو بكر وعثمان بن عفان وصيته عند قيامهما بجمع المصحف، إذ لم يأخذا القرآن عن هؤلاء الأربعة، بل قام عثمان بحرق مصحف أبي بن كعب، وأرغم عبد الله بن مسعود على تسليم مصحفه وأحرقه وهو يعترض قائلاً: " أفأترك ما أخذت من في رسول الله (ص)؟". وكان سالم بن معقل قد قتل في معركة اليمامة (632) إبان خلافة أبي بكر، وتوفى معاذ بن جبل في خلافة عمر.
والمدهش أننا نجد أن أبا بكر ثم من بعده عثمان قد كلفا بدلاً من الأربعة الذين نص عليهم النبي، أربعة آخرين ربما كانوا أقل دراية منهم بالقرآن، وهم زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
ويذكر المحدث ابن كثير الدمشقي (1301-1373) في كتابه "فضائل القرآن" أن الصحابي عبد الله بن مسعود انتقد تكليف الشاب زيد بن ثابت بجمع القرآن، قائلا: "لقد قرأتُ القرآن من في [فم] رسول الله (ص) سبعين سورة وزيد صبي".
ربما يكون السبب وراء ذلك الصراع بين أبي بكر وعمر من جهة وعلي بن أبي طالب من جهة أخرى والذي سعت روايات أهل السنّة إلى طمسه، فربما كان استبعاد أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود من لجنة جمع المصحف سببه تقاربهما من علي الذي تفرض الروايات السنّية تعتيماً لافتاً على استبعاده تماماً من هذه العملية، رغم أنه كان أول مَن سارع إلى جمع القرآن في مصحف واحد بعيد وفاة النبي، بحسب رواية التابعي محمد بن سيرين (653-729) وذلك قبل أن يتم التخلص من مصحفه أيضاً.
وتحفل كتب أهل السنّة والجماعة لا سيما في صحيحي البخاري ومسلم، بالعديد من الشواهد على وقوع تحريفات وتصحيفات وزيادة ونقصان في القرآن خلال هذه عملية جمعه، وهو ما يسميه أهل السنّة والجماعة بـ"المنسوخ تلاوة" وهو ما نجم عنه إسقاط بعض الآيات، الأمر الذي يراه الشيعة عملاً مدبراً يخدم أجندة سياسية لدى الخلفاء الثلاثة الأوائل.
من هذه الروايات ما رواه مسلم عن الصحابي أبي موسى الأشعري الذي تحدث عن سورة قد نسيها لا توجد في النسخة الحالية من القرآن إذ يقول: "إنا كنا نقرأ سورة، كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة [سورة التوبة] فأُنسيتها، غير أني حفظت منها: ‘لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب’، وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني حفظت منها ‘يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة’ [صحيح مسلم: 1050].
تتفق رواية أبي موسى الأشعري مع رواية الصحابي جابر بن عبد الله الذي أكد: "كنا نقرأ ‘لو أن لابن آدم ملء وادٍ مالاً، لأحب إليه مثله. ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. ويتوب الله على من تاب’".
كما روى الإمام مسلم عن عائشة في مسألة التحريم بالرضاع قولها: "كان في ما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرّمن، ثم نُسِخْن بخمس معلومات، فتوفى رسول الله (ص) وهن في ما يُقرأ من القرآن" [صحيح مسلم: 1452].
لكن رواية مسلم لم توضح كيف ضاعت هذه الآيات، بعكس الرواية التي أخرجها ابن ماجه ويروي فيها عن عائشة: "قالت: لقد نزلت آية الرجم، ورضاعة الكبير عشراً، ولقد كان في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله (ص) وتشاغلنا بموته، دخل داجن [عنزة] فأكلها" [سنن ابن ماجة: 1944].
يذكر الزرقاني في "مناهل العرفان" بعض الطعون التي تعرّض لها القرآن في معرض تفنيدها، ومنها "أن الصحابة حذفوا من القرآن كل ما رأوا المصلحة في حذفه، فمن ذلك آية المتعة أسقطها علي بن أبي طالب بتّة، وكان يضرب مَن يقرؤها. وهذا مما شنعت عائشة به عليه قالت: إنه يجلد على القرآن، وينهى عنه، وقد بدّله وحرّفه".
كما يضرب السيوطي في "الإتقان في علوم القرآن" مثالاً آخر ويقول إن أبي بن كعب حذف ما كان يرويه ولا نجده اليوم في المصحف وهو: "اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله. نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد. نرجو رحمتك ونخاف عذابك، إن عذابك الجِد بالكفار ملحق". وهما المعروفتان بسورتي الخلع والحفد.
ويشير المحدث السنّي أبو الثناء الآلوسي (1802-1854) في تفسيره "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني" إلى بعض اختلافات في مصاحف بعض الصحابة عن المصحف الحالي، ويقول: "فالسور مثلاً في مصحفنا مائة وأربعة عشرة بإجماع من يعتد به وقيل ثلاثة عشرة بجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين... وفي مصحف أبي خمسة عشرة لأنه كتب في آخره بعد ‘العصر’ سورتي الخلع والحفد وجعل سورة ‘الفيل وقريش’ فيه سورة واحدة وترتيب كل [منها] أيضاً متغاير ومغاير لترتيب مصحفنا مغايرة لا سترة عليها".
ويذكر الآلوسي ما رواه الإمام أحمد بن حنبل عما جاء في مصحف أبي بن كعب من أن الرسول قرأ بنفسه عليه: "لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة، رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة، فيها كتب قيمة، وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة، إن الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفره". وروى عنه أيضاً أنه كتب في مصحفه سورتي الخلع والحفد وهما غير موجودتين في المصحف الحالي.
كما يذكر المحدث أبو عبيد القاسم بن سلام (774-838) في "فضائل القرآن" رواية عن عائشة قالت فيها: "كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي (ص) مئتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف، لم يقدر منها إلا على ما هو الآن". ونفس هذه الرواية تتكرر بأكثر من صيغة في كثير من كتب السنّة مسنودة إلى عمر وأبي بن كعب وحذيفة بن اليمان، وهو ما يؤيد نفس الرواية الشيعية في هذا الصدد.
مخطوطة لكتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام يرجع تاريخها لحوالي السنة 319هـ (931م)
مخطوطة لكتاب غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام يرجع تاريخها لحوالي السنة 319هـ (931م)
وأدى إسقاط أو ضياع أجزاء كبيرة من سورة الأحزاب إلى فقدان آية الرجم (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم) وهي آية أصر عمر بن الخطاب على أنها كانت مذكورة في القرآن، إذ قال: "كان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله" [البخاري: 6830].
وقد رفض زيد بن ثابت أن يثبت آية الرجم في المصحف الذي جمعه أبو بكر لأن عمر لم يكن معه شاهد آخر على هذه الآية، وفقاً لما ذكره السيوطي في "الإتقان في علوم القرآن"، نقلاً عن ابن اشتة في كتاب "المصاحف" المفقود، إذ يقول: "أول مَن جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل... وإن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها، لأنه كان وحده".
ولكن ثمة روايات أخرى تشير إلى أن أبي بن كعب شهد بصحة هذه الآية، وأكد أنها كانت جزءاً من سورة الأحزاب [صحيح ابن حبان: 4429]. كما يتفق مع رواية عائشة في حديثها عن ضياع آية الرجم بعد أن أكلت العنزة صحيفة بها قرآن تحت سريرها بعد وفاة النبي [سنن ابن ماجة: 1944].
وثمة روايات أخرى تشير إلى آيات كاملة لا نجدها اليوم في القرآن منها ما أشار إليه عمر بن الخطاب عندما قال: "ثم إنا كنا نقرأ في ما نقرأ من كتاب الله أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم – أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم" [البخاري: 6830].
وهناك رواية لأنس بن مالك يذكر فيها آية غير موجودة في القرآن الحالي وهي "بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا" [البخاري: 4090].
ويذكر المحدث السنّي المتقي الهندي (1472-1567) في كتابه "كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال" رواية عن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: "ألم تجد فيما أنزل علينا: ‘أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة’، فأنا لا أجدها؟ قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن" [كنز العمال: 4741].
وثمة روايات تشير إلى كلمات سقطت في بعض آيات القرآن الحالي مما أدى إلى اختلال المعنى فيها. تشير رواية لابن عباس أنه قال: "كان ذو المجاز وعكاظ متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت: "ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج" [البخاري: 1770] ولا توجد "في مواسم الحج" في الآية الحالية من القرآن (البقرة: 198) رغم أن المعنى لا يستقيم إلا بها. ويرد مثال آخر في رواية عن ابن عباس أنه كان يقرأ: "وأما الغلام فكان كافراً، وكان أبواه مؤمنين" [البخاري: 4725]، لكن في الآية الحالية (الكهف: 80) سقطت "كافراً وكان" رغم أن المعنى لا يستقيم إلا بها.
ويذكر الإمام أبو محمد البغوي (1044- 1122) في تفسيره المسمى "معالم التنزيل" أحد الأمور الشائكة في القرآن وينسبها إلى عائشة وعثمان وابنه أبان، وهي مسألة اللحن في القرآن (الأخطاء الإعرابية)، ويشير إلى ثلاثة منها عند تفسير آية: {لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً} [النساء: 162]، إذ يبدو للوهلة الأولى أن "المقيمين" من المفترض أن تكون مرفوعة لا منصوبة.
يعلق البغوي على ذلك قائلاً: "حكي عن عائشة رضي الله عنها وأبان بن عثمان: أنه غلط من الكُتاب ينبغي أن يكتب ‘والمقيمون الصلاة’ وكذلك قوله في سورة المائدة {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون" (البقرة: 62)، وقوله {إن هذان لساحران} (طه: 63) قالوا: ذلك خطأ من الكاتب. وقال عثمان: إن في المصحف لحناً ستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له: ألا تغيّره؟ فقال: دعوه فإنه لا يُحل حراماً ولا يُحرم حلالاً".
لكن على أية حال، ورغم جميع المؤاخذات التي طالت اجتهاد عثمان بن عفان في هذا الصدد، يذكر الزرقاني في "مناهل العرفان" أن ما قام به الخليفة الثالث أنقذ المسلمين من الشقاق "وأصبح مصحف ابن مسعود ومصحف أبي بن كعب، ومصحف عائشة، ومصحف علي، ومصحف سالم مولى أبي حذيفة. أصبحت كلها وأمثلها في خبر كان، مغسولة بالماء أو محروقة بالنيران".
المصدر:مواقع ألكترونية