حج اليهود إلى تونس... فرصة لتجاوز العمليات الإرهابية ومظهر للتسامح الديني
في مناسبة يعدّها مراقبون تونسيون فرصة لترويج صورة للبلاد التي تضررت في الأعوام الأخيرة بفعل بعض العمليات الإرهابية والتجاذبات السياسية، انطلقت مراسم الحجّ اليهودي إلى كنيس "الغريبة" في جزيرة جربة (جنوبي تونس) منذ 4 أيار (مايو) الجاري، على أن تصل الاحتفالات ذروتها يومي 8 و9 من الشهر الجاري، والتي تشهد موكب "الخرجة" وطقوس الزيارة.
ويُنظَّم الحج إلى كنيس الغريبة كل عام في اليوم الـ (33) بعد عيد الفصح اليهودي، وهو في صميم تقاليد اليهود التونسيين، ويُعدّ هذا المعلم أقدم معبد يهودي في العالم ما يزال مفتوحاً، ويعود تشييده إلى العهد الروماني، ويحتفظ بين أروقته بأقدم نسخة للتوراة في العالم.
التسامح الديني
يدخل الزوار الكنيس داعين مصلين متبركين، بينما تُخطّ الأماني على بيض يوضع لاحقاً في سرداب صغير. ومعظم زوّار الكنيس هم يهود من أصول تونسية، يعيش سوادهم الأعظم في فرنسا، بالإضافة إلى إسرائيل، وكندا، والولايات المتحدة.
وقد أشاد رئيس منتدى أئمة فرنسا حسن الشلغومي السبت بالاحتفالات الدينية الموسمية في "كنيس الغريبة" اليهودي بجنوب تونس، مشيراً إلى أنّها تمثل ردّاً على المتطرفين وأعداء الإسلام، وأضاف، في تصريح لإذاعة (شمس) التونسية، أنّ "زيارة كنيس الغريبة هو دليل على أنّ حرية الدين والمعتقد موجودة في الثقافة والدين الإسلامي".
كنيس الغريبة
وقد شهدت تونس (3) ضربات إرهابية عام 2015؛ في متحف باردو، وفي منتجع سياحي في سوسة، وفي وسط العاصمة، أدت إلى إصدار دول غربية تحذيرات عدة من السفر إليها، بينما أوقفت شركات طيران ووكالات سفر عالمية تسويق الرحلات السياحية إلى تونس.
وكان الكنيس هدفاً لتفجير إرهابي في عام 2002، ممّا تسبب في وفاة (21) شخصاً، وهم: (14) ألمانياً، و(5) تونسيين، وفرنسيان.
وقال الشلغومي: "جربة جزيرة السلام... واحتفالية زيارة كنيس الغريبة غير موجودة في العالم، حيث يعيش أكثر من (1500) يهودي في جربة، ويأتيهم يهود العالم للمشاركة في الزيارة إلى جانب تونسيين مسلمين".
شهدت تونس (3) ضربات إرهابية عام 2015؛ في متحف باردو، وفي منتجع سياحي في سوسة، وفي وسط العاصمة، أدت إلى إصدار دول غربية تحذيرات عدة من السفر إليها
وتابع رئيس منتدى أئمة فرنسا قائلاً: إنّ "هذه أكبر رسالة لأعداء الإسلام والعنصريين والإرهابيين الذين يشوّهون الدين، فالإسلام دين سلام، وضامن لحرية الأشخاص والأمن لكل معتقدات أهل الكتاب".
وتفاخر الجزيرة بقيم التسامح والتنوع الثقافي والديني بين سكانها المسلمين واليهود والمقيمين من المسيحيين الأجانب، ويمكن ملاحظة أحد أبرز مظاهر التعايش من خلال المحلات المتجاورة، والعلاقات بين التجار المسلمين واليهود المتواجدين بكثرة في سوق الصاغة.
أقدم معبد يهودي في أفريقيا
كنيس الغريبة يقع في جزيرة جربة التي تبعد (500) كم جنوب شرقي العاصمة التونسية، وقد سكنها اليهود في الماضي، وتُسمّى "الحارة الصغيرة" حالياً، ويقطنها قرابة (1300) يهودي تونسي، ويحظى هذا المعبد بأهمية كبيرة بالنسبة إلى اليهود باعتباره يحتوي على أقدم نسخة للتوراة.
ويعود تاريخه إلى ما يزيد عن (2500) عام، وهو أقدم كنيس في أفريقيا، وأحد أقدم المعابد اليهودية في العالم.
بُني هذا المعبد على أجزاء من الهيكل الأوّل في القدس، ويُعتقد أنّ هذه الأجزاء جلبها النازحون اليهود معهم إلى تونس بعد تدمير الهيكل عام (586) قبل الميلاد، وفق الرواية اليهودية.
كنيس الغريبة يقع في جزيرة جربة التي تبعد (500) كم جنوب شرقي العاصمة التونسية
وبحسب ما هو مُتداول، تعود تسمية المعبد بـ "الغريبة"، إلى امرأة يهودية قدمت إلى المنطقة واستقر بها الحال في جربة، وأسست كنيس الغريبة، وسُمّي "الغريبة" نسبة إلى هذه المرأة، حيث كانت غريبة عن المكان وأهله.
ويتوافد اليهود إلى هذا المزار سنوياً من مناطق شتى من العالم في شهر أيار (مايو) كل عام من اليوم الـ (33) من تقويم الفصح اليهودي، فيقيمون شعائر دينية ومراسم وطقوساً متنوعة.
يُذكر أنّ المبنى نفسه من حيث الهيكل والألوان يتسم بطابع عربي، ولدى دخوله يطلب من النساء تغطية رؤوسهن، ومن الرجال وضع القبعة السوداء الصغيرة التي يضعها اليهود، كما يطلب من الجميع نزع أحذيتهم.
كان الكنيس هدفاً لتفجير إرهابي في عام 2002، ممّا تسبب في وفاة (21) شخصاً، وهم: (14) ألمانياً و(5) تونسيين وفرنسيان
ولا تقيم تونس علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ولكنّهما تبادلتا عام 1996 فتح مكتبين لرعاية المصالح، وعينت كلٌّ منهما مندوباً دائماً لدى البلد الآخر، لكنّ السلطات التونسية أغلقت هذه الممثليات خلال تشرين الأول (أكتوبر) 2000 احتجاجاً على قمع الانتفاضة الفلسطينية.
وتبقى فرنسا في طليعة الدول التي يأتي منها اليهود للمشاركة في الاحتفالات الدينية، ويقدر عدد الزوار منها بـ (4) آلاف، ويأتي الباقون من إيطاليا وبريطانيا وألمانيا.
تراجع الطائفة اليهودية بتونس
وكان يوجد في تونس نحو (100) ألف يهودي، حتى منتصف القرن الماضي، قبل أن تتراجع أعدادهم إلى حدود (2000) نسمة فقط، حيث كانت الجالية اليهودية في تونس من أكبر الجاليات اليهودية في المنطقة العربية.
وقد غادر قسم كبير من اليهود الذين كان عددهم يقدر بحوالي (100) ألف نسمة، بعد عدة أعوام من استقلال تونس عام 1956، للإقامة خصوصاً في فرنسا وإسرائيل.
ويتركز أكثر من نصف يهوديي تونس بجزيرة جربة التي تضم (11) معبداً يهودياً في حارتين تسمّيان "الحارة الكبيرة" و"الحارة الصغيرة"، حيث توجد بعض البيوت اليهودية التي تتميز بالكتابة العبرية على جدرانها.
كان يوجد في تونس نحو (100) ألف يهودي، حتى منتصف القرن الماضي
كما توجد بعض الفنادق التي يملكها يهود تونسيون، وهناك تونسيون من غير اليهود يسكنون هذه الحارات أيضاً.
ولهذه الطائفة التي تُعتبر من الأقدم في تاريخ تونس إرث مادّي وغير مادّي ضخم، يمتدّ من شمال البلاد إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها.
هذا، وتُعتبر الجالية اليهودية في تونس، برغم تراجعها، من أعرق الأقليات المقيمة بالبلاد، ممّا سمح لها بالتغلغل في مختلف الجوانب الحياتية كالاقتصاد والمجتمع والثقافة والسياسة، حتى أنّ البعض يعتبرونها أحد مكونات الهوية التونسية المعروفة بالتنوع والانفتاح.
رئيس منتدى أئمة فرنسا: هذه أكبر رسالة لأعداء الإسلام والعنصريين والإرهابيين الذين يشوّهون الدين، فالإسلام دين سلام، وضامن لحرية الأشخاص والأمن لكل معتقدات أهل الكتاب
ومن بين أسباب تراجع الطائفة اليهودية، التي ذكرها مؤرخون تونسيون، صدور "قانون العودة" الذي أقرته إسرائيل، فضلاً عن قرار الرئيس السابق الحبيب بورقيبة تأميم الأراضي الزراعية عام 1964، خاصة أنّ عدداً كبيراً منهم كانوا من مالكي الأراضي.
وتشير بعض الإحصائيات إلى أنّ عدد يهود تونس كان عام 1896 حوالي (100) ألف، ليتقلص في فجر الاستقلال عام 1956 ويصبح (57700) يهودي تونسي، ثم تراجع عام 1970 إلى (10) آلاف، يتوزعون بالأساس بين جزيرة جربة وتونس العاصمة ومحافظتيْ سوسة وصفاقس.
وكانت ليهود تونس إسهامات في الحياة السياسية قبل الاستقلال وبعده، ونشطوا قبل الاستقلال في صفوف "الحزب الشيوعي التونسي"، وقام بورقيبة بإشراكه في الحياة السياسية، لكنّ مشاركاتهم ظلت متقطعة.
المصدر:مواقع ألكترونية