أغرب العادات في أرخبيل جزر القمرالمذهل
في السماء المُعتمة مع آخر ضوء شمس لعام 2009، على متن إحدى رحلات الخطوط الجوية الأثيوبية، وعبر نافذة بيضاوية تكشف مجموعة من الهضاب والجبال ذات القمم المرتفعة المطلة على المحيط الهندي، كانت دقات قلبي تتسارع معلنة كل مظاهر الترقب والخوف قبيل الهبوط إلى ساحة مطار الأمير "سعيد إبراهيم" الدولي في جزيرة "نغازيكا"، كبرى الجزر التابعة لجمهورية جزر القمر، وبعيداً عن كوني وحيدة في هذه الرحلة، لكن لم تفارق ذهني فكرة أن أشهراً قليلة كانت قد مرّت على حادث سقوط طائرة الخطوط الجوية اليمنية في نفس المكان وربما من نفس الارتفاع، والتي لم ينج من بين ركابها الذين تجاوزوا 150 سوى طفلة وحيدة.
في صالة الاستقبال كان "مسعود" المهندس المعماري الذي استقبلني في المطار من الشركة التي تعاقدت للعمل معها في مهمة قد لا تتجاوز العام. يتحدث العربية بطلاقة، ويدين بالإسلام كغالبية المواطنين القمريين، وهو متزوج وله ثلاثة أطفال.
أوصلني "مسعود" إلى شقتي الصغيرة الجديدة، التي خصصتها لي الشركة بالقرب من مقر العمل في "قلب النار"، هذا الاسم المخيف الذي أخبرني به، حيث يتم إطلاقه على العاصمة "موروني" بسبب وقوعها على سفح جبل "كارتالا"، الأب الشرعي للبركان الثائر الذي يحتضن العاصمة، وهو واحد من أخطر البراكين النشطة، وصاحب أكبر حفرة بركان في العالم.
الحياة في قلب النار
الطقس ليس كلاسيكياً، فعلى الرغم من أنني كنت في فصل الصيف، وأرض الجزيرة شبه صخرية، إلا أن درجات الحرارة معتدلة، ربما بسبب الأمطار التي تتساقط بغزارة، والتي سرعان ما تفسح المجال لأشعة الشمس غير الحارقة لتنشر الدفء في الأجواء.
الطقس ليس كلاسيكياً، فعلى الرغم من أنني كنت في فصل الصيف، إلا أن درجات الحرارة كانت معتدلة، والأمطار تسقط بغزارة
يتحدث القمريون اللغة القمرية فيما بينهم. فالـ"بانتو" هي اللغة الوطنية في البلاد، وتكتب بمزيج من الحروف العربية واللاتينية، ولكنهم يجيدون التحدث والكتابة بالعربية والفرنسية اللتين تعدان ضمن اللغات الرسمية في البلاد.
كوني غريبة تماماً تطوع "مسعود" أن يصطحبني في أيامي الأولى إلى الأماكن التي سوف أحتاج للتردد عليها: السوق التجاري القديم الذي يضم عدداً ضخماً من متاجر الملابس والعطارة والمواد الغذائية والأثاث المنزلي، وتتبعثر هنا وهناك عدة فنادق ومستشفيات ومدارس ومحالّ صغيرة وصيدليات وعيادات طبية، إضافة إلى عدد غير قليل من الشركات المتنوعة، وفي قلب المدينة منطقة قديمة، يمكن تمييزها بوضوح من خلال التصميم العمراني الفريد لبناياتها المختلفة، ويتوسطها أقدم معالم المدينة القديمة، وهو مسجد فريد العمران يطلق عليه القمريون بلغتهم اسم "موسكيفوندرودي".
في منزل "مسعود"
بعد أسبوعين تقريباً من وصولي لـ"نغازيكا" -التي يعرفها العالم باسم "القمر الكبرى"- استقرت أوضاعي العملية والمعيشية، وأصبح بإمكاني التنقل بين شوارع العاصمة المزدحمة والتي تعد العاصمة الاقتصادية والإدارية للبلاد.
دعاني "مسعود" إلى منزله الذي يقع في الحي القديم بـ"مكازي"، إحدى المدن القريبة من العاصمة للتعرف على عائلته الصغيرة، واستقبلتني "حميدة" زوجته وهي مرتدية الـ"شيروميني" اللباس التقليدي للنساء من المواطنات المحليات في أرخبيل القمر، وهو فستان طويل من القطن الملون تتوسطه تنورة فضفاضة، بينما ارتد، الأطفال الـ"سارونج" وهو أحد الأزياء التقليدية وعبارة عن تنورة طويلة ملونة وفضفاضة.
باستقبال ودود، وابتسامة لم تفارق وجهها، قدمت "حميدة" لنا الغداء: الـ"تسولولا" هو واحد من الأطباق التقليدية الرئيسية في الأرخبيل، مزيج من لحوم الأسماك والأبقار والأغنام التي يتم طهوها معا، في حليب جوز الهند، مع الـ"مكاترة" وهو اسم الخبز، بالإضافة إلى الموز والكسافا المشويين، قبل أن تقدم لنا فطيرة كبيرة من المانغا والموز مع عصير الأناناس، إذ تشتهر البلاد بتعدد أنواع الفاكهة وسعرها المنخفض الذي هو في متناول الجميع بسبب كثرة الغابات في مختلف الجزر القمرية.
الـ"شيروميني" هو اللباس التقليدي للنساء في الأرخبيل، وهو فستان طويل من القطن الملون تتوسطه تنورة فضفاضة، أما الـ"سارونج" فهو لباس الأطفال الملون الفضفاض
بعد جلسة تعارف وسمر ممتعة، وجهت لي "حميدة" الدعوة لحضور حفل زواج أخيها الأكبر، الذي يقطن في مدينة "ميتساميولي" التي تقع على الساحل الشمالي الغربي لـ"نغازيكا". بالطبع لم أتردد بقبول الدعوة وأنا يملأُني الفضول لاكتشاف تقاليد البلاد، لم أكن أتخيل أنني على بُعد خطوات قليلة من طقوس فريدة، لم أشهدها أو أقرأ عنها من قبل.
طقوس الزواج الكبير
كانت مآذن "ميتساميولي" تردد تكبيرات العيد في غير أوانها حين وصلت المدينة، المئات من النساء والرجال يرتدون الملابس التقليدية للأرخبيل ويجتمعون في ميدان واسع تملأه أضواء الزينة والأعلام يؤدي إلى بيت العريس، بينما يتكدس الأهالي في الشرفات وعلى أسطح البنايات المطلة على الميدان، حيث استقبلتني "حميدة".
كان الحضور يتشحون بأكاليل الزهور ويمسكون بفطائر حلوى يتم توزيعها على جانبي الشوارع المزدحمة، بينما تدق الطبول وأصوات الدفوف في أنحاء الميدان المتسع، وترقص مجموعات من الشباب رقصات محلية، قبل أن يفاجئنا عدد من الأطفال باختراق صفوف الشارع المزدحم مرددين عبارات لم أفهمها، أخبرتني "حميدة" أنهم متجهون لحلبة الثور في أقصي الميدان، حيث يلعب الرجال.
يستطيع الشباب الزواج شرعاً، لكن لا بد لهم من إعلان زواجهم بحفل "الزواج الكبير" والذي قد يقام بعد عشرات السنوات من الزواج ويكون مكلفاً جداً
ساحة منزل "العريس" كانت شديدة الازدحام، تساءلت أين صاحب تلك الليلة الموعودة، فأجابتني "حميدة" أن أخاها مع باقي الرجال في حفل "الذكر" في المسجد الرئيسي في المدينة، بعد قليل حضر "العريس" ومعه عدد كبير من الشيوخ الذين يرتدون ملابس رجال الدين المعتادة، وبدأ الشباب في تقديم الوليمة للمشايخ، قبل أن يتخذوا أماكنهم عقب انتهائهم من الطعام، ثم تجمع الأطفال حول المائدة بعد أن غادر الشباب.
تفاجأت حينما رأيت "العريس"، وهو رجل أسمر البشرة ذو شعر أبيض كثيف، يحمل سيفاً على خصره، ويرتدي زياً تقليدياً مع وشاح أخضر اللون حول عنقه، يبدو في العقد الخامس من العمر.
سألتها لماذا تأخر أخوها ليتزوج بالرغم من قدرته المادية الواضحة والتي تظهر من خلال مظاهر الاحتفال؟ بعد ضحكات صاخبة، لا تقل عن صخب الاحتفالات والزغاريد وأصوات الموسيقي والأغاني الشعبية التقليدية التي تملأ جنبات المكان عبر مكبرات الصوت، أجابتني "سألتها لماذا تأخر أخوها ليتزوج بالرغم من قدرته المادية الواضحة والتي تظهر من خلال مظاهر الاحتفال؟ بعد ضحكات صاخبة، لا تقل عن صخب الاحتفالات والزغاريد وأصوات الموسيقى والأغاني الشعبية التقليدية التي تملأ جنبات المكان عبر مكبرات الصوت، أجابتني "حميدة" أن العريس متزوج منذ أكثر من ربع قرن، وله من الأبناء خمسة، أحدهم طبيب والآخر مهندس، وحين سألتها لماذا يُقدم على الزواج ثانية أخبرتني أن هذا الحفل ليس إعلان زواج ثانٍ، بل احتفاء بزواجه الأول، أين الزوجة؟ تساءلت لتجيبني أنها في انتظار "الزوج" في المنزل حيث سيعيشان ، أجابتني "حميدة".
في الأرخبيل يتكلف "الزواج الكبير" كثيراً، خاصة في ظل الفقر الذي يعاني منه الناس، وتنفق أموال كثيرة للمهر الجديد ومجوهرات العروس وهدايا أقارب العروس والولائم للحضور، بالإضافة لمظاهر الاحتفال الصاخبة في كل أرجاء المدينة تقريباً، إلا أن طقوسه هي جزء من التكوين الثقافي للشعب القمري.
لا تحول الرسوم الكبيرة لطقوس "الزواج الكبير" دون ظاهرة الزواج في الأرخبيل، حيث يمكن للشباب الزواج بشكل شرعي بأقل تكلفة دون بذخ، ولكنهم سيحرمون من عدة حقوق سياسية واجتماعية ودينية إلى حين إعلان زواجهم الكبير إذا استطاعوا ذلك، فمن لم يعلن زواجه بـ"الزواج الكبير" لا يحق له الترشح في الانتخابات المحلية أو النيابية، كما لا يُسمح له بإمامة الناس في الصلاة وإن كان متعلماً ومتديناً، ولا يستعين به أحد في جلسات الصلح والتحكيم العرفية التي تنتشر في مختلف المدن، كما لا يحق له ارتداء الوشاح الأخضر الذي يرمز إلى مكانة اجتماعية ويميز علية القوم وسادتهم.
بدون "الزواج الكبير" لا يستطيع الرجل ممارسة كافة حقوقه السياسية كالترشح للمجالس البلدية والإنتخابية، وإمامة الصلاة، وارتداء الوشاح الأخضر الذي يرمز إلى المكانة الاجتماعة ويرتديه سادة القوم
رمضان في الأرخبيل
مع بداية الأسبوع الأخير من شهر شعبان يبدأ القمريون في استقبال شهر رمضان على طريقتهم الخاصة، إذ تنتشر مجالس عقد القرآن وإعلان الزواج، واعتدت أن أرى عدداً كبيراً من مجالس الزواج في ميدان "باب الجنان" قرب المسجد القديم في العاصمة، حيث جرت العادة أن يستقبل الزوجان رمضان لحصد بركة الشهر من خلال إعلان زواجهما قبله واستقباله معاً.
بين الأغاني الدينية على وقع دقات الدفوف وتواشيح التعبد والابتهالات الدينية تنتشر الحفلات الوطنية التي ينظمها الشباب في مختلف الميادين الرئيسية، بينما يبدأ الأطفال بتزيين المنازل والشوارع، وعقب إعلان دار القضاة رؤية هلال شهر رمضان يسمع صوت الأطفال وهم يرددون في الشوارع "وونيها"، وتعني ظهر الهلال باللغة القمرية، ليبدأ المواطنون بحمل المشاعل والتوجه بأعداد كبيرة مصحوبة بدقات الطبول الثابتة نحو الساحل، حيث يستمتعون بمد أرجلهم في مياه المحيط بينما يحملون المشاعل، ويستمر هذا الاحتفال حتى يتناولوا السحور معاً حتى فجر أول أيام رمضان قبل العودة مجدداً إلى ديارهم.
تمنع الحكومة النساء من ارتداء الملابس الضيقة والقصيرة خلال رمضان، وتُجرم تناول الطعام في الأماكن العامة دون عذر
تمنع الحكومة بحكم القانون النساء من ارتداء الملابس الضيقة والقصيرة خلال رمضان، وتُجرم تناول الطعام في الأماكن العامة دون عذر يمنع من الصيام، كما تنتشر الشرطة في مختلف المؤسسات والشوارع الرئيسية لتنفيذ القانون، إذ تتم معاقبة المخالف بغرامة مالية كبيرة. بينما تتفرغ المساجد لجلسات العلم وتفسير القرآن حتى موعد الإفطار، حيث تبدأ غالبية الأسر في حمل طعامها الذي أعدَّته وتتجه نحو المساجد لإفطارات جماعية دون أن ندرك من طها/ طهت ماذا، قبل أن يسارع الجميع في تنظيف المسجد من أجل صلاة العشاء والتراويح والوتر.
في الأعياد ساحات مصارعة وأناشيد صوفية
كعادة كل البلدان ذات الأغلبية المسلمة تتوقف المؤسسات الحكومية والخاصة عن العمل خلال الأعياد الدينية، وتكثر الأضاحي، في الوقت الذي يتبادل فيه المواطنون التهاني والمباركة طيلة أيام العيد عبر زيارات متبادلة، إلا أن عيد الأضحى له طبيعة خاصة في "الأرخبيل".
في عطلة عيد الأضحى تنتشر ساحات المصارعة في الميادين الكبرى، ومسيرات الطرق الصوفية
قضيت عطلة عيد الأضحى في "موتسامودو" كبرى مدن جزيرة "أنجوان" التي تبعد عن العاصمة القمرية أكثر من 100 كيلومتر، حيث عقدت ساحات المصارعة في أكبر الميادين في المدينة، حيث يتجمع الرجال والنساء للاستمتاع بفنون اللعبة القتالية، بينما انتشرت مسيرات الطرق الصوفية وروادها في الشوارع الرئيسية رافعة الأعلام ومعلنة الاحتفال بالعيد بترديد الأذكار والشعر الصوفي على أنغام بعض الآلات الفلكلورية الشعبية التي تحملها بعض السيارات ويسير الناس خلفها.
حين عدت إلى "موروني" في نهاية أيام العيد لاحظت وجود حلقات المصارعة الحرة عند مداخل "باب الجنان"، حيث أخبرني "مسعود" أنها بطولة سنوية تقليدية تقام في مختلف الجزر التابعة للأرخبيل بنظام التصفيات الداخلية، قبل أن تتم النهائيات في العاصمة لتحديد بطل العيد الجديد.
على الرغم من كونها واحدة من أفقر دول العالم، ويظهر ذلك جلياً في غياب تطوير أبسط وأهم مرافقها الأساسية، إلا أن بيئتها البكر غنية للغاية، فسحر الطبيعة الخلابة في أرخبيل القمر قادر علي أن يجعلك أسيراً لبلاد الأحلام، حيث روعة الإطلالة علي المحيط الهندي بما يحتويه من أسرار في أعماقه، وشواطئه الصخرية المنتشر بها أشجار النخيل والموز، والمرتفعات الجبلية المكسوّة بالخُضرة، وزهور الايلانغ لانغ العطرية المُحملة بشذى القرنفل؛ وتبقي الثقافة الوطنية الثرية بالتنوع للأرخبيل واحدة من أهم سمات هذا البلد، الذي استطاع أن يجمع بين طياته مختلف من تقاليد الأعراق لتنصهر معاً مكونة بوتقة واحدة من أفرد ثقافات وعادات البلدان حول العالم.
المصدر:مواقع ألكترونية