استخدام الفنون أسلوبًا في التعليم
لطالما كانت الفنون جانبًا مهمًّا من جوانب الثقافة الإنسانيّة، وذات دور حيويّ في حياتنا، سواءً أكانت الموسيقى، أم الفنون البصريّة، أم الدراما، أم المسرح. واكتسب استخدام الفنون أسلوبًا تعليميًّا، شعبيّةً في السنوات الأخيرة، حيث أظهرت الأبحاث أنّ دمج العناصر الإبداعيّة والمرئيّة في عمليّة التعلّم يمكن أن يؤثِّر تأثيرًا إيجابيًّا في الطلّاب بمختلف أعمارهم، إذ تسهم الفنون في إثارة الإلهام وتحقيق الترفيه والتعليم.
فوائد استخدام الفنون في التعليم
تتمثّل إحدى الفوائد الرئيسة لاستخدام الفنون في التعليم في أنّها تسمح للطلّاب بالتفاعل مع المواد تفاعلًا شخصيًّا وذا مغزى. على سبيل المثال، عندما ينشئ الطلّاب أعمالهم الفنّيّة الخاصّة، يشاركون بنشاط في عمليّة التعلّم، ومن المرجّح أن يتذكّروا المفاهيم التي تُدرَّس ويفهموها.
يمكن كذلك استخدام الفنون لتدريس موادّ غير فنّيّة، مثل الرياضيّات والعلوم والتاريخ. يستطيع المعلّمون، مثلًا، استخدام الموسيقى لتعليم الكسور والنسب، أو استخدام الفنون المرئيّة لتدريس الأحداث التاريخيّة، أو المفاهيم العلميّة. يتيح ذلك للطلّاب التعامل مع الموضوعات من منظور مختلف، حيث يجعل المواد أكثر تشويقًا وسهلة التحصيل.
فائدة أخرى لاستخدام الفنون في التعليم تكمن في ما يسهم به من تطوير مهارات حياتيّة مهمّة، مثل الإبداع والتفكير الناقد وحلّ المشكلات. هذه المهارات ليست مهمّة للنجاح في المدرسة فحسب، بل للنجاح في مكان العمل والحياة الشخصيّة كذلك. يتعلّم الطلّاب، بمشاركتهم في النشاطات الفنّيّة، التفكير الإبداعيّ، والتعبير عن أنفسهم، والتوصّل إلى أفكار جديدة، والتي يمكن أن تكون مفيدة في العديد من مجالات الحياة.
أثر تعليم الفنون في التطوّر المعرفيّ
استخدام الفنون في التعليم ليس مفيدًا لرفاهيّة الطلّاب العاطفيّة والعقليّة فحسب، بل يمكن أن يكون له أيضًا تأثير إيجابيّ في نموّهم المعرفيّ. أظهرت الدراسات أنّ المشاركة في الفنون يمكن أن تحسّن الذاكرة والتركيز ومهارات حلّ المشكلات بطرق مختلفة:
- الذاكرة: وجدت دراسة أجراها الصندوق الوطنيّ للفنون أنّ كبار السنّ الذين شاركوا في برامج الفنون، مثل الرسم والكتابة الإبداعيّة، يتمتّعون بوظيفة معرفيّة وذاكرة أفضل، مقارنةً بأولئك الذين لم يشاركوا في البرامج. (Robinson, 1993)
- التركيز: أظهرت دراسة أجرتها جامعة هلسنكي أنّ العزف على آلة موسيقيّة، قد يزيد من قدرة الدماغ على تصفية المشتّتات وتحسين التركيز. (Torppa, 2015)
- حلّ المشكلات: تبيّن دراسة أجرتها جامعة شيكاغو أنّ الأطفال الذين شاركوا في تعليم الفنون البصريّة، يتمتّعون بمهارات أفضل في حلّ المشكلات، وهم أكثر قابليّة للتفكير خارج الصندوق، مقارنةً بالأطفال الذين لم يتعلّموا الفنون البصريّة. (Cobbleddick, 1996)
تعدّ هذه الدراسات دليلًا على أنّ المشاركة في الفنون قد تؤثِّر إيجابيًّا في القدرات المعرفيّة، مثل الذاكرة والتركيز ومهارات حلّ المشكلات، إذ يتطلّب تعلّم العزف على آلة موسيقيّة قدرًا كبيرًا من التركيز والاهتمام، ممّا يحسّن هذه المهارات في مجالات أخرى من الحياة أيضًا.
بالإضافة إلى ذلك، رُبِط تعليم الموسيقى ببعض المهارات الرياضيّة، حيث إنّه يساعد الطلّاب على تنمية حسّ الإيقاع والتوقيت. يمكن، مثلًا، استخدام الموسيقى لتعليم الكسور والنسب، بإنشاء الطلّاب إيقاعاتِهم وألحانَهم بتوقّعات زمنيّة محدّدة، أو بتعرّفهم إلى الكسور والنسب في الأغاني الموجودة. وفي الوقت نفسه، يمكن استخدام الفنون المرئيّة لتدريس الأحداث التاريخيّة، بإنشاء الطلّاب رسومًا توضيحيّة، أو لوحات تصوّر لحظات مهمّة، أو شخصيّات من التاريخ، أو بتحليلهم الرموز والمعاني الكامنة وراء الأعمال الفنّيّة التاريخيّة. فضلًا عن إمكانيّة توظيف الفنون المرئيّة في تدريس المفاهيم العلميّة بإنشاء تمثيلات مرئيّة للمبادئ العلميّة، مثل إنشاء لوحة جداريّة لتصوير دورة المياه في الطبيعة، أو تمثال يوضّح نظام الهيكل العظميّ البشريّ.
يمكن، كذلك، ربط تعليم الفنون البصريّة بالتطوّر المعرفيّ بعدّة طرق، منها:
- التفكير المكانيّ: يطوّر الطلّاب، بإنشائهم الفنّ المرئيّ، مهاراتهم في التفكير المكانيّ، والتي يمكن أن تساعدهم على فهم المفاهيم الرياضيّة مثل الهندسة، والتطبيقات العمليّة مثل الهندسة المعماريّة.
- المهارات الحركيّة الدقيقة: يؤدّي إنشاء الفنون المرئيّة أيضًا إلى تحسين المهارات الحركيّة الدقيقة، والتي تعدّ ضروريّة لمهمّات الكتابة والرسم والتلاعب بالأشياء الصغيرة. يمكن أن يساعد ذلك الطلّاب على الكتابة وبعض المهارات الأخرى التي تتطلّب مهارات يدويّة.
- حلّ المشكلات: يطوّر إنشاء الفنون المرئيّة مهارات حلّ المشكلات لدى الطلّاب، حيث يتعيّن عليهم التفكير تفكيرًا خلّاقًا، للتوصّل إلى أفكار جديدة وإيجاد حلول للتحدّيات الفنّيّة.
- التحليل المرئيّ: يمكن للطلّاب، بتحليلهم الأعمال الفنّيّة وتفسيرها، تطوير مهارات التحليل المرئيّ لديهم، والتي قد تفيد في التصميم الجرافيكيّ والإعلان وتطوير المواقع الإلكترونيّة.
- الإبداع: يتيح إنشاء الفنون المرئيّة أمام الطلّاب فرصة الإفادة من إبداعاتهم، والتي يمكن أن تساعدهم على التفكير خارج الصندوق، والتوصّل إلى أفكار وحلول جديدة للمشكلات.
يتمتّع، كذلك، تعليم الدراما والمسرح بفوائد معرفيّة، إذ يتطلّب من الطلّاب تفكيرًا إبداعيًّا، وتذكّرًا للخطوط، والعمل ضمن فريق. هذه المهارات ليست مهمّة للنجاح في المسرح فحسب، ولكن في مجالات أخرى من الحياة أيضًا، مثل إدارة الأعمال والسياسة.
دور تعلّم الفنون في تعزيز التفاهم والتنوّع الثقافيّ
تربط الفنون بين الثقافات المختلفة، ويمكن أن يؤدّي استخدامها، وسيلةً للتعليم، دورًا مهمًّا في تعزيز التفاهم الثقافيّ والتنوّع. يستطيع المعلّمون مساعدة الطلّاب على تقديرهم وجهات النظر المختلفة وفهمهم أساليب الحياة، بتعريضهم إلى ثقافات وأشكال فنّيّة مختلفة. على سبيل المثال، يمكن أن يُعرِّف دمجُ الموسيقى العالميّة في المناهج الدراسيّة الطلّابَ إلى ثقافات وأنماط موسيقيّة مختلفة. كما يمكن أن يساعدهم ذلك على فهم السياق الثقافيّ للموسيقى، وتقدير الصفات الخاصّة بكلّ ثقافة.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن لدراسة الفنّ والهندسة المعماريّة للثقافات المختلفة أن تمنح الطلّاب فهمًا أعمق لتاريخ هذه الثقافات ومعتقداتها وقيمها. الأمر الذي يساعدهم على اكتساب فهم كامل للثقافة وشعبها، وتقدير الإسهامات الفريدة التي قدّمتها كلّ ثقافة إلى العالم. فدراسة الفنّ والعمارة في مصر القديمة مثلًا، يُعرِّف الطلّاب إلى معتقدات الحضارة المصريّة القديمة، والممارسات الدينيّة، والهياكل السياسيّة والاجتماعيّة فيها، والحياة اليوميّة للمصريّين القدماء. فضلًا عن إمكانهم دراسة هندسة الأهرامات التي تعدّ رمزًا أيقونيًّا لمصر القديمة، والتقنيّات المستخدمة في بنائها، والمعنى الكامن وراءها. ودراسة الفنّ والهندسة المعماريّة للثقافة اليابانية التقليديّة، يُعرِّف الطلّاب إلى معتقدات الشعب اليابانيّ وقيمه وتاريخه، إذ يدرسون بذلك العمارة اليابانيّة التقليديّة، مثل بيت الشاي، والرموز الكامنة وراءها.
تُستخدَم الفنون أيضًا لتعزيز التنوّع والشموليّة داخل الفصل الدراسيّ. على سبيل المثال، يمكن أن يساعد تشجيع الطلّاب على إنشاء فنّهم الخاصّ، ومشاركة وجهات نظرهم، في خلق بيئة تعليميّة أكثر شمولاً. الأمر الذي يمكّن المعلّمين من تقديم المساعدة في كسر الحواجز وتعزيز التفاهم والقبول بين الطلّاب، وذلك بتوفير الفرص أمامهم للمشاركة في المسابقات الفنّيّة التي يعبِّرون فيها عن ثقافاتهم المختلفة.
تحدّيات تعليم مادّة الفنون
نقص الموارد والمواد
لا تستطيع العديد من المدارس في العالم العربيّ تحصيل المستلزمات أو المعدّات الفنّيّة، الأمر الذي يجعل من الصعب على المعلّمين إنشاء برامج تعليميّة فنّيّة هادفة وجذّابة.
لمواجهة هذا التحدّي، يجب أن يكون المعلّمون مبدعين وواسعي الحيلة، وعليهم اكتشاف طرق بديلة لتعليم الفنّ، مثل استخدام المواد الموجودة، أو دمج أدوات الفنّ الرقميّ.
السياق الثقافيّ
قد لا يدرس العديد من الطلاب في العالم العربيّ الفنَّ، وقد لا تكون لديهم خلفيّة المعلّم الثقافيّة ذاتها.
لمواجهة هذا التحدّي، يجب أن يكون المعلّمون شاعرين بالاختلافات الثقافيّة، ويجب أن يسعوا جاهدين إلى خلق بيئة تعليميّة شاملة ومحترمة. كما عليهم البحث عن طرق لدمج عناصر ثقافة الطلّاب في مناهج الفنون.
قلّة فرص التطوير المهنيّ
لمواجهة هذا التحدّي، على المعلّمين أن يكونوا سبّاقين في البحث عن فرص التطوير المهنيّ، وعليهم بناء شبكة دعم مع معلّمي الفنون الآخرين في المنطقة. ويجب عليهم أيضًا البحث عن طرق للتعاون مع الفنّانين والمنظّمات المحلّيّة لتوفير موارد إضافيّة ودعم طلّابهم.
في الختام، وبناءً على ما تقدّم، نجد أنّ تدريس الفنّ في العالم العربيّ يمكن أن يمثّل مجموعة فريدة من التحدّيات أمام المعلّمين. ومع ذلك، يمكنهم فهم هذه التحدّيات ومعالجتها وإنشاء برامج تعليم فنّيّة أكثر فاعليّة وجاذبيّة، بتطوير وجهات نظر المعلّمين حول تدريس هذه المادّة، والإفادة منها في تدريس بقيّة الموادّ.
المصدر:مواقع ألكترونية