تقرير | أمريكا تتبنى الرؤية الملكية في القضية الأمازيغية
دأبت الإدارة الأمريكية، في إطار مساعيها لتعزيز القوة الناعمة والمصالح العليا للولايات المتحدة، على إعداد ونشر تقارير سنوية حول أوضاع حقوق الإنسان في جميع البلدان العضوة في الأمم المتحدة، وتستند في إعداد هذه التقارير على قانون المساعدة الخارجية لسنة 1961 وعلى قانون التجارة لسنة 1974.
في هذا الإطار، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية، مؤخرا، تقريرها السنوي العام حول وضعية حقوق الإنسان في العالم برسم سنة 2022، وضمنه تقرير عن حقوق الإنسان بالمغرب.. تقرير يستند، حسب ما جاء فيه، إلى نتائج تتبع الخارجية الأمريكية للوضع الحقوقي في كل أنحاء البلاد بتعاون وثيق مع الحكومة المغربية وشركاء آخرين كالمجلس الوطني لحقوق الإنسان وجمعيات المجتمع المدني.
ويبدو، من خلال المقارنة بين التقرير السنوي الخاص بالمغرب برسم سنة 2022 والتقارير السنوية الخاصة ببلادنا برسم الست سنوات الماضية، أنه حصل تطور ملحوظ ونوعي في تقدير الخارجية الأمريكية لأوضاع الأمازيغ بالمغرب، وذلك بعد سنوات من “الارتباك” في التعاطي مع الشأن الأمازيغي ببلادنا.
فالتقارير الأمريكية عن السنوات من 2016 إلى 2020، تدرج الشأن الأمازيغي في القسم الخاص بـ”التمييز والانتهاكات المجتمعية”، وبالضبط في القسم الفرعي الخاص بـ”أعضاء مجموعات الأقليات القومية والعرقية والإثنية”، أما التقرير برسم سنة 2021، فقد أدرجه ضمن القسم الفرعي الخاص بـ”العنصرية المنهجية أو التمييز والعنف الإثني”، في حين تخلى التقرير الأخير برسم سنة 2022 عن مفهوم “الأقليات الإثنية” ليحل محله مفهوم “الشعب الأصلي”، الأمر الذي يعتبر تحولا جذريا في موقف الإدارة الأمريكية من الشأن الأمازيغي.
فما هي الأسباب المحتملة لهذا التحول في التعاطي الأمريكي مع الشأن الأمازيغي بالمغرب؟ ماذا جرى حتى أصبح الأمازيغ شعبا أصليا في عيون أمريكا وهي التي كانت دائما تتعاطى معهم كأقلية إثنية؟ هل ستكون لهذا التحول تداعيات على مستقبل الأمازيغية في المغرب؟ هل ستكون له تداعيات جيو-استراتيجية في دول شمال إفريقيا والساحل والصحراء حيث يعيش الملايين من الأمازيغ؟
ليس من السهل الإحاطة بكل الأسئلة أعلاه في حيز مقال لا يريد منه صاحبه سوى لفت الانتباه إلى ما يجري ويدور، بل سنكتفي بتقديم النزر القليل من المعطيات التي تظهر من فوق جبل جليد المعطيات المتشابكة التي تستند إليها الإدارة الأمريكية في كتابة تقاريرها، فتحول الموقف الأمريكي من أمازيغ المغرب لا يمكن أن يحدث دون هزات في جبل المعطيات والرهانات الجيو-استراتيجية الأمريكية في كل بلدان شمال إفريقيا والساحل والصحراء حيث يتواجد الأمازيغ.
أمريكا ونشطاء الحركة الأمازيغية
تعتبر البعثة الدبلوماسية الأمريكية من أنشط البعثات بالمغرب، فلها شبكاتها وشركاء يمدونها بما تحتاجه من معطيات حول أدق تفاصيل الشأن الحقوقي، وهذا ليس سرا من الأسرار، فالتقارير السنوية الأمريكية تؤكد دائما أنها تعمل بشكل وثيق مع الحكومة المغربية وهيئات الحكامة المعنية ونشطاء المجتمع المدني وضمنهم النشطاء الأمازيغ، ونذكر هنا بالجدل الصاخب بعد تسريبات موقع “ويكيليكس” عن المغرب وما رافقه من تراشق إعلامي بين الإسلاميين والأمازيغ المغاربة، سنة 2011، بعد أن تبادل الطرفان تهم الاستنجاد والاستقواء بالولايات المتحدة الأمريكية.
المطلع على وثائق “ويكيليكس” وعلى توضيحات المستشار كريك كارب، مُحرر الوثيقة السرية التي وثقت لمجريات لقاء بين السفير الأمريكي ونشطاء أمازيغ بالمغرب سنة 2007، سيدرك أن الإدارة الأمريكية تتابع عن كثب تطورات الملف الأمازيغي وتعتقد بأن القضايا الأمازيغية يجب أن تصبح واضحة في سياسات الحكومة المغربية في التعليم والإعلام، لكن في إطار ما تسمح به الشرعة الدولية لحقوق الإنسان للأقليات الإثنية، فالأمازيغ في نظر الإدارة الأمريكية “يجب أن يتمتعوا بحقوقهم باعتبارهم أقلية”.. هكذا تصنفهم وتصفهم في تقاريرها إلى حدود سنة 2022، مع أنها تعرف أن الدستور المغربي الجديد يعتبر الأمازيغية رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء، ورغم أنها تعرف أن نشطاء الأمازيغية بالمغرب يرفضون اعتبار الأمازيغ أقلية، ويصرون على ذلك في تقارير جمعياتهم وفي المنتديات العالمية حول حقوق الإنسان والشعوب التي يشاركون فيها.
الأسباب المحتملة وراء التحول الجذري لموقف أمريكا من أمازيغ المغرب
لا تطلق أمريكا الكلام على عواهنه ولا تكتب تقاريرها بشأن حقوق الإنسان في العالم حبا في الشعوب وفي الشرعة الدولية لحقوق الأفراد والجماعات، فتقاريرها تخضع لحساباتها الجيو-استراتيجية كما أشارت إلى ذلك كوندوليزا رايس، كاتبة الدولة في الخارجية على عهد الرئيس بوش الابن، حيث أكدت في مقال لها نشرته مجلة “Foreing Affairs” في عددها الصادر شهر يناير 2000: “مخطئ من يعتقد بضرورة قراءة المصلحة القومية عبر مشارب القانون الدولي ومنظمات كالأمم المتحدة.. الولايات المتحدة ليست ضد المصلحة الإنسانية، لكنها تضعها في الصف الثاني بعد مصالحها القومية”.
يجب إذن، أن ندرك نحن المستهلكين لتقارير أمريكا، إن أردنا أن نكون فاعلين وليس مفعولا بهم، أن هناك أسبابا جوهرية وراء التحول من تصنيف الأمازيغ كمجموعة إثنية إلى تصنيفهم كسكان أصليين، فللكلمات سلطانها.
خبراء الإدارة الأمريكية يعرفون جيدا أنه لا يوجد تعريف متفق عليه دوليا للمجموعات السكانية التي تشكل أقليات (يراجع في هذا الشأن الإعلان بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية)، كما يعرفون أن تصنيف الأمازيغ كأقلية يقتضي بالضرورة، حسب القانون الدولي لحقوق الإنسان، تعريف الأمازيغ لأنفسهم بأنهم أقلية، ورغم كل ذلك، كتب هؤلاء الخبراء في تقاريرهم، ولسنوات طوال، أن الأمازيغ أقلية.
أمريكا لها خططها لمستقبل شمال إفريقيا والساحل والصحراء، وهذا ليس سرا من الأسرار، وهي تعرف أن الملف الأمازيغي يمكن أن يكون عاملا معززا للاستقرار في بعض البلدان كالمغرب، كما يمكنه أن يكون قنبلة قابلة للانفجار في وجه أنظمة أخرى في المنطقة، كما هو الحال في مالي وليبيا والجزائر، فالملف الأمازيغي حاضر في استراتيجيات القوى الكبرى المتنافسة على مناطق النفوذ في شمال إفريقيا والساحل والصحراء، والتي لا يمكنها أن تتجاهل سلاح الطوارق في مالي، ومطالب “حكومة القبايل في المنفى” بالانفصال عن الدولة الجزائرية، والدور المتزايد للأمازيغ في الغرب الليبي.
لتقارير الإدارة الأمريكية بشأن حقوق الإنسان دور تلعبه في حرب المنافسة حول مناطق النفوذ بشمال إفريقيا والساحل والصحراء، فالملفات الحقوقية غالبا ما تستعمل للضغط على بعض الأنظمة لتحقيق مكاسب جيو-سياسية لصالح أمريكا، فوراء كل موقف “حقوقي” حزمة من التدابير كما تؤكد الإدارة الأمريكية في مقدمة كل تقاريرها: “إن الدفاع عن حقوق الإنسان لا يشمل فقط الوضوح في الكلمات التي نستخدمها لوصفها، بل يشمل أيضا الإجراءات التي نتخذها لمناصرة الحريات المشتركة في أي مكان يتم فيه إنكار هذه الحريات، وتجاه أي شخص يقوم بإنكارها، ويشمل الدفاع عن حقوق الإنسان التزامنا بمعالجة الأثار المدمرة التي يسببها القمع في جميع أنحاء العالم”.
تصور أمريكا للسكان الأصليين بالمغرب
وأخيرا أدركت وزارة الخارجية الأمريكية أن الأمازيغ ليسوا أقلية بالمغرب وأكدت في تقريرها الأخير أن الأمازيغ “شعب أصلي”، فخبراء الإدارة الأمريكية تخلوا عن الغموض الدلالي (le flou sémantique) الذي ساعدهم في خندقة الأمازيغ، ولسنوات عديدة، ضمن الأقليات بالمغرب إلى جانب الأقليات الجنسية والدينية وغيرها.
خبراء الإدارة الأمريكية أدركوا، أخيرا، أن أمازيغ المغرب سكان أصليون وإن اختلفت حالتهم عن حالة أغلب الشعوب الأصلية في العالم، لذلك وظفوا مفهوم الشعوب الأصلية في تقريرهم برسم سنة 2022 مقرونا ببعض التفاصيل التي تحيل إلى الأبعاد التاريخية والسياسية والاجتماعية التي تؤطر المفهوم في الحالة المغربية.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية استوعبت أخيرا مضامين حوار صحفي للملك محمد السادس مع جريدة “لوفيغارو” الفرنسية، يوم 4 شتنبر 2001، حيث قال جوابا عن سؤال حول المقارنة بين القضية الأمازيغية في المغرب والجزائر: ((إن مطالبهم ليست هي نفسها مطالب القبايل، فعندنا الحساسية الأمازيغية – وليس البربرية – هي حساسية اندماجية، فأنا مغربي قبل أن أكون أمازيغيا أو عربيا وهناك مغاربة أمازيغ وآخرون من أصل عربي أو إفريقي أو أندلسي، فأبي كان من أصل عربي فيما أمي أمازيغية، وهذه الحقيقة تعبر عن العبقرية المغربية)).
الوعي المتأخر بأن هناك عبقرية وخصوصية مغربية، دفعت – على ما يبدو – الخارجية الأمريكية إلى إضفاء الصفة الأصلية على أمازيغ المغرب والتأكيد في القسم الفرعي الخاص بالسكان الأصليين في تقريرها حول حقوق الإنسان بالمغرب على ما يلي: “أفاد معظم السكان، بما في ذلك الأسرة المالكة، أن لديهم بعض الإرث الأمازيغي…”.. إن سكوت خبراء الإدارة الأمريكية عن ماهية الإرث المشار إليه في تقريرهم يفتح الباب أمام كل التأويلات، فقد يكون هذا الإرث جينيا أو ثقافيا أو حضاريا.
في القسم الفرعي الخاص بالسكان الأصليين من تقريرها، عبرت الإدارة الأمريكية عن قلقها من أشكال ظلم تاريخية لحقت الأمازيغ، نجمت عن تهميش لغتهم وثقافتهم وإقصاء مناطق أمازيغية من ثمار النمو في البلاد، وبالتالي، منعها بصفة خاصة من ممارسة حقها في النهوض بثقافتها ولغتها، ومن حقها في التنمية وفقا لاحتياجاتها الخاصة، خصوصا بجبال الأطلس والأرياف.
ختاما: الدولة المغربية لا يزعجها تعاطي الإدارة الأمريكية مع أمازيغ المغرب كشعب أصلي، فتاريخها العريق وفي صلبه أزيد من 33 قرنا من تاريخ أمازيغ المغرب.. كلها عوامل قوة تستند إليها في تعزيز قوتها وإشعاعها بين الدول. ونتذكر جميعا رَدَّ الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، الأستاذ عمر هلال، على استفزازات وزير الخارجية الجزائري في اجتماع لدول عدم الانحياز سنة 2021، بالقول: “إن الوزير الجزائري الذي يقف كمدافع قوي عن حق تقرير المصير، ينكر هذا الحق نفسه لشعب القبايل، أحد أقدم الشعوب في إفريقيا، والذي يعاني من أطول احتلال أجنبي”.
فما يجب أن يزعج الدولة المغربية وتخجل منه، بعيدا عن تقارير أمريكا والاتحاد الأوروبي وغيرهما، هو الوضع المقلق للغة والثقافة الأمازيغيتين ومعدلات الفقر والهشاشة بالبلاد، فالسرعة التي تُدْفَعُ بها اللغة الأمازيغية نحو الاندثار، والفقر الذي ينهش سكان الجبال والمناطق النائية، كلها قضايا محبطة وتضر بسمعة البلاد وحقوق المغاربة في العيش الكريم.
المصدر:مواقع ألكترونية