الأكراد… تعدّدت فصول التاريخ والنتيجة واحدة: “وطنٌ مشتّت”!
كان الموقع الجيواستراتيجي لـ”كردستان” يعني حكما أنه سيكون دائما مسرحا لصراعات كبرى. ابتدأ ذلك بالحروب اليونانية الفارسية، مرورا بالسلجوقية البيزنطية، ولم يكن آخرها الصراع العثماني الصفوي.
الذي حدث أن القبائل الكردية لم تستطع أن تبني دولا أو ممالك قوية، على النحو الذي يضاهي جيرانها، ما عدا في فترة الهوريين والمتانيين الذين انهارت ممالكهم تحت ضربات الآشوريين، بحسب ما يشير إليه الباحث خالد العيادي.
… ولا كانت هذه القبائل أوفر حظا في وقت لاحق، إذ وقعت بين فكي كماشة الدولة الفارسية الصفوية من الشرق، والدولة العثمانية من الشمال، وكانتا قوتين عظيمتين آنذاك.
في خضم هذه الصراعات، ربما عزّ على الأكراد أن يعرفوا لاحقا، وفق الباحث خالد عقلان، أنفي معركة “ملاذكورد” (1071م)، مثلا، ساند الأكراد الجيش السلجوقي بقيادة السلطان آلب أرصلان، وبفضلهم، انتصر ضد الإمبراطور البيزنطي رومانوس.
ثم أيضا في خضم الصراع الصفوي العثماني، الذي كانت تجري فصوله على “كردستان” المقسمة بين الأتراك والفرس، حسم الأكراد معركة “تشالدران” (1514م)، بدعمهم للسلطان العثماني سليم ياووز في مواجهة الشاه إسماعيل الأول الصفوي.هم كانوا مجرد أداة؛ تأسست على دمائهم أمجاد الدول المتعاقبة.
بعض المصادر الكردية تؤكد أن أول تقسيم لـ”كردستان”، جرى بناء على اتفاقية “قصر شيرين”، التي أنهت الصراع بين العثمانيين والصفويين عام 1636م، وبموجبها تم ترسيم الحدود بين الجانبين.
ثم… لم يعد للأكراد من صديق سوى الجبال!
اللافت، يقول خالد عقلان، أن أولى إرهاصات الوعي القومي الكردي بدأت، أدبيا، من خلال ملحمة العشق الشعرية الكردية “مم وزين”.
هذه الملحمة ألفها الشاعر الكردي المتصوف ملا أحمد خاني (1651-1707م)، واشتكى فيها من تشرذم وتطاحن الإمارات والقبائل الكردية، وأنه لو كان للأكراد زعيم واحد، لتحولوا إلى سلطنة ودولة… يدين لها الأتراك والعجم والعرب بالولاء وفروض الطاعة!
الذي يعنيه هذا، وفق ذات الباحث، أن الدعوة إلى دولة قومية موحدة للأكراد، ظهرت في فكر وشعر هذا الأديب الكردي، حتى قبل ظهور الفكر القومي ومفهوم الدولة القومية في أوروبا، ولدى الأتراك والعرب.
بالمجمل، يُعرّف الباحث محمد بهجت قبيسي تاريخ الأكراد الحديث بكونه سلسلة من الثورات التي كانت ترمي إلى التخلص من النير العثماني والإيراني.
أهم هذه الثورات، في نظره، تلك التي قادها رجل يدعى عبد الرحمن باشا في القرن الـ18م، إذ نادى باستقلال الأكراد وراح يعمل على توحيد جميع البلدان الناطقة بالكردية. لكن الحملة التي جهزها والي بغداد بأمر من الباب العالي، أجهزت على حركته تلك.
مَثَلُ ذلك أيضا في وقت لاحق، ثورة بردخان باشا في إمارة بوتان عام 1847م.
هذه الثورات، أو الانتفاضات، كانت تعبيرا واضحا عن الميل القومي الاستقلالي للأكراد.
يؤكد ذلك أنه، بعد إجلاء العائلة البردخانية مثلا من منطقة بوتان إلى إسطنبول، لم تستسغ ذلك، حد أن أحد أفرادها وهو الأمير مقداد مدحت بردخان، لجأ إلى القاهرة، التي كانت تحت حكم أسرة محمد علي باشا وعلى خلاف مع إسطنبول.
… هناك، أسس جريدة “كردستان”، عام 1898م، وكانت وقتذاك لسان حال المشروع القومي الكردي.
الأكراد بعد ذلك انتفضوا أكثر من مرة، بيد أن مصير الانتفاضات هذه دائما كان الإخفاق…
ثم في خضم الخلاف بين حكومة أنقرة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك وحكومة إسطنبول بزعامة محمد السادس وحيد الدين، نجح أتاتورك في استمالة الأكراد في صراعه على السلطة.
لكن، يبدو أنه قدم لهم وعودا نكثها لاحقا، فانتفضوا على نظامه هو أيضا، ما أدى به إلى سحق انتفاضاتهم… الذي حدث أن النظام العلماني العسكري، الناشئ وقتها في تركيا، سعى إلى تشكيل دولة-أمة على حساب سحق وصهر المكونات القومية الأخرى.
في معرض إيجاد تبريرات مثل هذه، قيل أيضا إنه، بعد تقسيم تركة السلطنة العثمانية بناء على اتفاقية سايكس بيكو سنة 1916، خشيت النخب التركية الحاكمة من زيادة تفتيت المتبقي من السلطنة.
تلك المجازر، بالمناسبة، أنكرها الأتراك قرابة القرن، قبل أن يعترف بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عام 2011م، ويعتذر عنها من دون أن تترتب عن ذلك أي اعتبارات إدارية أو قانونية.
بعد اتفاقية سايكس بيكو، صارت أغلب دول المنطقة عبارة عن محميات للدول المستعمرة، إلى أن استقلت تباعا، كل دولة ضمن حدود جغرافية عينها الاستعمار، فضم بعضها أقليات إثنية كان أهمها المكون الكردي.
يورد الباحث عبد الباسط سيدا، أنه أعطيت للأكراد لاحقا وعود بإنشاء دولة، بخاصة في معاهدة سيفر 1920م، التي تضمنت ما يشبه خارطة طريق لمشروع دولة كردية مستقلة مركزها ولاية الموصل، إلا أن التطورات اللاحقة أجهضت ذلك المشروع.
ثم جاءت اتفاقية لوزان عام 1923م لتتجاهل كليا البنود الخاصة بالأكراد في معاهدة سيفر، وكل ما بقي لهم منها، التزام للحكومة التركية بألا تميز بين مواطنيها على أساس الدين أو القومية أو اللغة… وهو ما ظل، حسب البعض، حبرا على ورق.
مصير يكاد يكون محتما نظرا لما تتوفر عليه “كردستان” من موارد طبيعية، كالبترول أو الماء الذي يمثل، بحسب الباحث خالد العيادي، عنصرا يجعل المنطقة ذات أهمية استراتيجية قصوى مستقبلا.
بقلم: كريم الهاني
المصدر:مواقع ألكترونية