اكتشاف تسع جثث تعود لمهاجرين إيبيريين جلبوا الزراعة إلى إفريقيا منذ 7400 سنة
اكتشاف تسع جثث تعود لمهاجرين إيبيريين جلبوا الزراعة إلى إفريقيا منذ 7400 سنة 1868
كشف تحليل الحمض النووي عن هجرة كانت عبر مضيق جبل طارق قبل ألف عام على ما كان يعتقد سابقا.
يعتقد بعض المتخصصين أن ما حدث في أوروبا منذ حوالي 7400 سنة كان بمثابة مواجهة حضارة غريبة. كان الأوروبيون عبارة عن جماعات من الصيادين والرحل، خلال لآلاف القرون، حيث كان هذا هو نمط العيش الوحيد المعروف في هذه القارة الشاسعة التي لم تكن مأهولة بالسكان تقريبا. إلى أن استقبلت المنطقة مهاجرين قادمين من الأناضول أي من تركيا الحالية، جالبين معهم الزراعة والثروة الحيوانية ومنه نمط عيش الاستقرار، كان تقدمهم نحو شمال البحر الأبيض المتوسط سريعا للغاية – فقد استمر بالكاد قرنا واحدا- ويعتقد أنهم سافروا في قوارب صغيرة على طول الساحل، واتسمت هذه الفترة بالنزاعات والتعايش، امتزج المزارعون المهاجرون بالسكان المحليين حتى تم استيعابهم واحتواؤهم؛ على الرغم من بقاء بعض العشائر منعزلة من الصيادين المخلصين لأسلوب حياتهم لمدة فاقت 1000 سنة، وهذه التحولات هي التي حملت بذور ثورة العصر الحجري الحديث التي أرست أسس الحضارة.
ويبقى السؤال المحوري خلال هذه الفترة هو؛ كيف وصلت هذه الثورة إلى إفريقيا؟ ومن أبرز الفرضيات وعناصر الإجابة نجد أن الزراعة ظهرت بشكل عفوي في هذا المجال الجغرافي، عن طريق اكتشاف الزراعة، وهناك نظرية أخرى تقول على أن الزراعة ظهرت منذ حوالي 5000 سنة، على أيدي رعاة ومزارعين من الشرق الأدنى.
بينما يُظهر الآن فريق بقيادة علماء من جامعة بورغوس وأوبسالا (السويد) أن العصر الحجري الحديث وصل إلى إفريقيا في نفس الفترة الزمنية التي وصل فيها إلى أوروبا، أي منذ حوالي 7400 سنة، ونشرت استنتاجات أبحاث هؤلاء العلماء في مجلة Nature، حيث استندوا في أبحاثهم إلى نتائج تحليل الأسنان والعظام المكتشفة في أربعة مواقع بالمغرب، وذلك بمقارنتها مع مواقع أخرى موجودة بأوروبا.
المفتاح موجود في مغارة كهف تحت الغار، الذي يقع بسفح بوزيتون على بعد 10 كيلومترات جنوب شرق مدينة تطوان بالمغرب، حيث تم العثور على بقايا بشرية وبذور وقطع فخارية مزينة بأصداف الرخويات، كانت متطابقة عمليا مع تلك التي تم العثور عليها في شبه الجزيرة الإيبيرية.
يقول عالم الآثار بجامعة قرطبة ومشارك بالدراسة رافائيل مارتينيز سانشيز موضحا: “كان الأمر أشبه بالعثور على كاتدرائية باروكية في وسط الأزتك بالمكسيك”.
رحلة ذهاب أو عودة؟
كان عالم الآثار الكاتالوني ميكيل تاراديل أول من أجرى حفريات في هذا الموقع المنتمي إلى المغرب، الذي كان لا يزال تحت الحماية الإسبانية، خلال سنوات الخمسينيات من القرن الماضي، وكان يعتقد أن الفخار المزخرف الموجود في شبه الجزيرة الإيبيرية أحضره مهاجرون من شمال إفريقيا عبروا المضيق، كما يوضح ذلك مارتينيز، لكن عند رؤية الخزف نفسه بالموقع الأثري غير تاراديل رأيه وافترض أن الأمر كان معكوسًا: أي نقله الإيبيريون إلى إفريقيا، غير أنه توفي سنة 1995 دون أن يتمكن من إثبات ذلك.
كشف تحليل الحمض النووي أجري على أربعة أفراد من هذا الموقع عن الإشكالية، حيث كانت الملامح الجينية لهؤلاء المزارعين مماثلة بنسبة 75٪ لتلك الموجودة في شبه الجزيرة الإيبيرية، وحوالي الثلث الآخر من شمال إفريقيا، والدليل القاطع على أصل هؤلاء المهاجرين هو أنهم يحملون أيضًا القليل من الحمض النووي الذي يعود للصيادين الأوروبيين الذين تعايشوا وامتزجوا بالمزارعين في فترة تاريخية سابقة.
يستخلص من العمل أن مجموعة من المزارعين من شبه الجزيرة الإيبيرية وصلوا إلى شمال إفريقيا، وتزاوجوا مع السكان المحليين واستقروا، كما جلبوا تقنيات الزراعة إلى القارة لأول مرة، وذلك قبل حوالي 1000 سنة مما كان يعتقد سابقًا، ويرجح مارتينيز أنهم عبروا المضيق عبر قوارب خشبية بدون أشرعة، مستخدمين فقط المجاديف، وتبقى مجرد فرضية ما لم يجدوا أي بقايا تخص هذه القوارب.
“إنه شيء لم يسبق له نظير، لم يتمكن الصيادون وجامعو الثمار في أوروبا أبدًا من ابتكار أسلوب الحياة في العصر الحجري الحديث بمفردهم، فقد كان ذلك دائما عن طريق استيعاب واندماج مع جماعات أخرى”.
اكتشاف تسع جثث تعود لمهاجرين إيبيريين جلبوا الزراعة إلى إفريقيا منذ 7400 سنة 1-590
كريستينا بالديوسيرا، جامعة بوركوس:
الأمر الغامض هو أنه في إفري نعمرو موسى، على بعد حوالي 300 كيلومتر نحو الجنوب، يوجد موقع آخر يؤرخ لنفس الحدث بعد قرن من الزمن على الأقل من الموقع الأول، حيث تم العثور على بقايا بذور وأواني فخارية ومواشي، لكن أثبتت التحاليل أن سكانها أصليون بنسبة 100٪، لا يمكن تمييز حمضهم النووي عن الحمض النووي الخاص بسكان البدو الصيادين الذين سكنوا هذه المنطقة منذ 15000 سنة تقريبا، بالإضافة إلى ذلك تقليدهم المتمثل في سحب قاطعي الفك العلوي للتمييز بين أنفسهم، كما أوضح لويز همفري وعبد الجليل بوزوكار في المقال المكمل.
تمكن السكان المحليون من خلق نمط عيش مستقر بعد عدة قرون، على الرغم من أنهم لم يختلطوا مع المهاجرين من أوروبا، كما لو كانت هناك حدود تفصل بينهم، تشبه تلك الحدود الموجودة في أجزاء من أوروبا بين المزارعين وآخر الصيادين.
تقول عالمة الإحياء بجامعة بورغوس والمشاركة في هذا العمل الاستكشافي كريستينا فالديوسيرا: “إنه شيء لم يسبق له نظير”. وذلك بالإشارة إلى أنه “في أوروبا، لم يتمكن الصيادون وجامعو الثمار أبدا من ابتكار نمط عيش المتسم بالاستقرار في العصر الحجري الحديث بمفردهم، فقد كان ذلك دائمًا من خلال الاستيعاب والاندماج مع جماعات أخرى”.
على حافة الانهيار
قادت فالديوسيرا سنة 2018 دراسة مماثلة في شبه الجزيرة الإيبيرية، وأظهرت الدراسة أن العثور على بقايا المزارعين في بعض المواقع، مشابه جدا للبقايا الموجودة الآن في المغرب، وتقدر الاختصاصية في علم الوراثة أن المجموعات الأولى من المهاجرين الذين عبروا المضيق بلغ عددهم عشرات الأفراد وأنه لا بد من وجود عدة موجات الهجرة على طول المسار نفسه.
كان سكان شمال إفريقيا على وشك الانقراض قبل وصول المزارعين الأوائل، إذا انهار عدد السكان خلال العصر الجليدي الأخير في أوروبا، وبالكاد ظل 5000 شخص، فلم يتبقى في شمال إفريقيا سوى 1400 شخص، وترى فالديوسيرا أن وصول المهاجرين كان خلاصا لهم من الانقراض، وزادهم من التنوع الجيني وخلصهم من طفرات زواج الأقارب.
أكدت هذه الدراسة أنه بعد حوالي 1000 سنة من أول موجة هجرة خلال العصر الحجري الحديث، وصلت موجة ثانية من الشرق الأدنى، والذين جاؤوا عبر الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط إلى أن وصلوا إلى المغرب، تظهر نتائج الحمض النووي لثلاثة أشخاص عاشوا قبل 6400 سنة في صخيرات روزي، على الساحل الغربي للبلاد، المميزات الجينية لهذه الموجة الجديدة من المهاجرين، حيث تم العثور على نفس السيمات لدى السكان الحاليين في المغرب، وكذلك في جزر الكناري، والتي ينحدر أصل سكانها من المهاجرين المنتمين لشمال إفريقيا.
تمازج كامل:
يعتبر موقع كهف البارود أحدث موقع تم تحليله، ويقع على بعد حوالي 50 كيلومتر جنوب الموقع السابق، وأثبتت تحاليل الحمض النووي أن سكانها بالفعل ينتمون للمزارعين الإيبيريين الأوائل، كما أن التحاليل نفسها اثبتت انتماؤهم للسكان الأصليين في شمال إفريقيا والمهاجرين الرعاة من الشرق الأوسط، الأمر الذي يمثل مزيج كامل بين السكان الأصليون والمهاجرون الوافدون.
يسمي الخبير في الأنثروبولوجيا بجامعة فيينا رون بنهاسي، هذه الدراسة “بالمثيرة والهامة”، حيث كان هناك الكثير من الجدل حول ما إذا كان العصر الحجري الحديث قد نشأ بشكل عفوي وتطور حاصل بالمنطقة، أم أنه جاء من أوروبا أو الشرق الأوسط عن طريق المهاجرين، والمثير للدهشة أن كل الفرضيات تتحقق، وإن لم يكن في نفس الوقت، كان المزارعون الإيبيريون أول من بدأ هذه الفترة، والشيء الأكثر إثارة للاهتمام هنا هو أنهم اختلطوا مع السكان المحليين، في حين أن بعض السكان المحليين لم يختلطوا معهم، وظلوا محافظين على جناتهم الأصلية، هو الأمر الذي أثبتته الدراسة.
اكتشاف تسع جثث تعود لمهاجرين إيبيريين جلبوا الزراعة إلى إفريقيا منذ 7400 سنة 1-591
يعتقد عالم الوراثة كارلوس لالويسا فوكس التابع للمجلس الأعلى للأبحاث العلمية، أنه “بهذا البحث لم تعد هناك فرضية نقل ثقافة العصر الحجري الحديث بدون العنصر البشري”، “على الرغم من أن ذلك كان هو التفكير السائد قبل بضعة عقود، ويضيف في شرحه لهذه العبارة؛ أعتقد أنه من الواضح أن الزراعة ليست شيئا يمكن تفسيره أو نسخه ببساطة، مثل تجارة وأنشطة أخرى، فهي تتطلب أشخاصا يمارسونها وعلى دراية بها، أي هناك إمكانية أخذها عن طريق المهاجرين على الأقل في اللحظة الأولى والاستمرار بها “.

المصدر:مواقع ألكترونية