كيف عمل الاستعمار على تشويه "سمعة" نساء الجزائر؟
لم يكتفِ الاستعمار الفرنسي باحتلال الأرض الجزائرية، ونهب خيراتها، وتشريد الشعب الجزائري، لكن مخططاته امتدت إلى محاولة تفكيك المجتمع وضربه في جوهره وأهم مكوناته، أي المرأة.
والصورة النمطية التي أراد إلصاقها بنسوة قبيلة أولاد نايل، وهم من أهم روافد الشعب الجزائري ويسكنون الأطلس الصحراوي وأعدادهم تقدَّر بالآلاف، مفادها أنهن سهلات المنال، وهي أبرز مثال لعمليات التشويه التي تمت هندستها من قبل الاستعمار.
تحت الشمس الساطعة لشمال الصحراء الجزائرية، وفي طبيعة قاسية يندر فيها الماء ولا تكنّ ودّاً للزراعة، تشكل نسوة أولاد نايل منذ قرون صورةً مدهشةً تجمع بين المتناقضات. رقصاتهن وأنغامهن تروي قصة تاريخ مليء بالتحدي والصمود والنضال ويحظين بمكانة مهمة في مجتمعهن، وفي الوقت نفسه يحافظن على تقاليده المحافِظة.
"فانتازيا جنسية" لإنجاح الحملة العسكرية لاحتلال الجزائر
تتصدر لوحات الرسام الفرنسي "أوجين دولاكروا"، جدران متحف اللوفر الفرنسي، لكن أكثرها جدلاً وحضوراً هي لوحة "3 نساء جزائريات في مخدعهنّ"، التي رسمها دولاكروا في بداية حملة الاحتلال الفرنسي للجزائر.
فقد صرح أحد السياسيين الفرنسيين سنة 1837، قائلاً: "من الصعوبة تصوّر مصير الحملة لولا لوحات دولاكروا، فقد لعبت دوراً حاسماً في إغراء الأوروبيين للقدوم إلى إفريقيا ومحاولة اكتشاف سحر الجزائر والفانتازيا والاستحواذ على الأرض والنساء".
استخدام صور النساء العاريات في البطاقات البريدية واللوحات التشكيلية كان جزءاً من إستراتيجية الاستعمار الفرنسي لتجنيد المواطنين الفرنسيين في الجيش الفرنسي ضمن حملة احتلال الجزائر سنة 1830، حيث روّج رسامون وفنانون فرنسيون تحت غطاء المؤسسة الاستعمارية الفرنسية لوحات ورسومات متخيلةً لنساء جزائريات عاريات وبإيحاءات جنسية تصوّر المرأة الجزائرية على أنها مسجونة في مخدعها لا تعرف سوى تقديم المتعة للرجال، وهي مثيرة للشفقة والرغبة في الوقت نفسه وتعاني من القهر وأحياناً تكون عاريةً مغريةً ومستلقيةً في استرخاء ودلال.
كل هذه الرسومات ألهبت خيالات الفرنسيين ودفعتهم للمشاركة في الحملة العسكرية لاحتلال أرض كانت مجهولةً بالنسبة لهم، ولا يعرفون عنها سوى الأوهام التي زرعتها بروباغندا الاحتلال قبل أن يسقطوا في وحل المقاومة الجزائرية، وهم لم يروا حقاً سوى وجوه مكشرة صامدة، ولم يشمّوا سوى رائحة البارود.
يقول الكاتب المصري ممدوح الشيخ، في كتابه "الاستشراق الجنسي"، إن فرنسا تمثل نموذجاً لما يطلَق عليه "النزعة الجنسية للاستعمار"، ويذهب إلى القول إن "الغرب كان يحتاج إلى هذه الصورة الفاتنة لتبرير احتلاله للشرق"، ويرى المؤلف أن الجسد الأنثوي المثير كان الأكثر حضوراً ودلالةً في لوحات المستشرقين وخصوصاً من الذين شكلت لهم روايات مثل "ألف ليلة وليلة"، مرجعيةً وجدانيةً ألهبت خيالهم".
وأشار الكاتب إلى أن الفرنسيين بذلوا جهوداً ضخمةً ودخلوا في معركة هائلة خلال حملة احتلال الجزائر وحشدوا من أجلها أغزر الموارد وأكثرها تنوعاً، وكان الرسم واحداً منها، جسدوا من خلاله المرأة الجزائرية من دون لباس حشمتها وعفتها التي كانت تحرس على الظهور به في تلك الفترة من الزمن بمسميات مختلفة "الحايك، الملحفة، والملاءة...".
نساء للمتعة والرقص
كلّف احتلال الجزائر فرنسا دماء وأرواحاً وأموالاً كبيرةً، وعقوداً من الزمن للوصول إلى مشارف الصحراء بعد حروب ومقاومة شرسة أهمها تلك التي قادها الأمير عبد القادر الجزائري، لكن الأراضي الجديدة المستعمرة لم تكن صالحةً للزراعة والطبيعة فيها تميل إلى القسوة، وأدى هذا إلى عزوف المستوطنين الفرنسيين عن الإقامة فيها، فمارست فرنسا منهجيتها السابقة لإغراء مستوطنين من بلدان مثل إيطاليا وإسبانيا ومالطا، وأوهمتهم بأن الأراضي التي تعيش فيها قبائل أولاد نايل تعج بالمتعة والملذات وعلى رأسها المرأة النايلة.
واستناداً إلى دراسة اجتماعية تحت عنوان "الراقصات والدعارة في مناطق أولاد نايل بين الواقع والأسطورة"، للمؤرخة الجزائرية المتخصصة في الأنثروبولوجيا الدكتورة بركاهم فرحاتي، كانت مدينة بوسعادة، وهي أرض لقبائل أولاد نايل أجرت فيها الباحثة دراستها، تُعدّ منطقةً "غير صالحة" للاستيطان الاستعماري لفترة طويلة، وبقيت بعيدةً عن التأثيرات التي صاحبت المد الاستعماري. لذلك، استطاعت أن تحتفظ بخصائصها الاجتماعية العريقة طويلاً، حتى قرر لها المستعمر مستقبلاً سياحياً، أراده على شاكلة تغري السياح الأوروبيين المتعطشين إلى الشمس وكذلك النساء الشرقيات، وتم بناء العديد من الكباريهات على شاكلة ما انتشر في مصر تحت اسم آخر "المقاهي الموريسكية"، أو "مقاهي الزهو"، وفي داخلها حلبة الرقص والغناء، وطاولات تقدّم صنوف الخمر والغذاء وسلالم تؤدي إلى غرف البغاء".
وأكدت الكاتبة أن المجتمع المحلي احتفظ بخصوصيته وموروثه الثقافي في مواجهة التأثيرات الاستعمارية، وتصدى لحماية قيمه وتقاليده. وتمكّن من المحافظة على هويته الثقافية الخاصة بما في ذلك المحافِظة منها واستمر في ممارسة تقاليده.
وتذكر الكاتبة الفرنسية إيبرتين أوكلر، في كتابها الصادر عام 1901، بعنوان "النساء المسلمات في الجزائر"، أن أعيان مدينة المنيعة وهي من حواضر أولاد نايل راسلوا السلطات الاستعمارية وهددوا بإحراق الثكنات الفرنسية والثورة في حالة بناء ملاهٍ ليلية في مدينتهم.
أثر رسومات "ديني" في الترويج للصورة المغلوطة عن نساء أولاد نايل
كان للرسومات والروايات دور كبير في تشكيل الصورة النمطية عن نساء أولاد نايل، ومن أهمها لوحات الرسام إيتيان ديني، في المرحلة التي سبقت اعتناقه الإسلام وثقافة المنطقة.
لا تزال اللوحات التي رسمها ديني تتصدر نتائج محرك غوغل عند البحث عن ثقافة أولاد نايل، وساهمت في الترويج بشكل سلبي لفهم العالم لهؤلاء النساء وتاريخهن.
كانت النايليات يستخدمن الرقص كلغة إشارة مشفرة لا يفهمها سوى النايليين خلال حرب الاستقلال
رواية "خضرة... راقصة أولاد نائل"، هي عمل أدبي صدر قبل قرن من الآن، وتُعدّ من أوائل الروايات الجزائرية الحديثة، وتحكي قصة خضرة بنت الطاووس التي كانت تعمل راقصةً في الملاهي برفقة أمها في مدينتي بوسعادة وغرداية في الجزائر. وتم طبع اسمين على الغلاف، إيتيان ديني وسليمان بن إبراهيم.
لكن النقاد كتبوا غير ذلك، وعلى رأسهم الصحافي الروائي سعيد خطيبي، الذي كتب مقالاً بعنوان "أولاد نائل... والخروج من حيز الاستشراق"، أكد فيه أن إيتيان ديني في تلك المرحلة كان جزءاً من إستراتيجية تجارية لجذب القراء والترويج لهذا الكتاب، إذ كان فناناً تشكيلياً فرنسياً وكاتباً معروفاً، لكنه في تلك الفترة لم يكن يعرف تفاصيل المناطق التي تم ذكرها في الرواية بسبب حياته البورجوازية في المدن بعيداً عن البوادي.
وحسب الكاتب، فإن الرواية تُعدّ جزءاً من سلسلة من الأعمال التي تروج لصورة نمطية و"كليشيهات كولونيالية" عن النساء في منطقة أولاد نائل، حيث يصوَّرن كنسوة رقيقات مندفعات نحو الحياة يبحثن عن الرجال والمتعة.
وقال الكاتب إن إيتيان ديني في مرحلة من حياته، سواء عن عمد أو تأثراً بالمنهاج الاستعماري، ساهم في مساعي ترسيخ تلك الصور في عقول الأوروبيين، "حيث انتشر آنذاك ما يُطلق عليه 'مقاهي الزهو' وهي سلسلة مقاهٍ انتشرت جنوب البلاد، تتحول مساءً إلى ملاهٍ، زبائنها السياح ومجندون في الجيش، أو من موظفي المصالح المحتلة، تتزاحم فيها نسوة للرقص وإمتاع الناظرين، ولم يكنَّ نساءً نائليات، حسب الكاتب بل جيء بهن، من بقاع بعيدة، بقصد إقناع الرجل الأبيض بالبقاء في تلك المناطق الجنوبية القاحلة. نجحت الحيلة الكولونيالية، وكادت مدن شمال الصحراء أن تتحول إلى مدن أوروبية، وصارت مقصداً لهم (وهنا وجبت الإشارة إلى أنها كانت مقصد رجال لا نساء، لأن اللعبة كانت مقصورةً على إغراء جنس دون آخر)".
وقد نجح إيتيان ديني، في تعزيز هذا الكليشيه وانتشاره في أذهان الجزائريين، ولم يتمكنوا من التخلص من تأثيره بعد الاستقلال، حيث يذكر الكاتب أمثلةً من أفلام جزائرية قديمة تجسد نسوة أولاد نايل على هيئة راقصات ومنها أفلام مشهورة مثل "رحلة المفتش طاهر"، و"كرنفال في دشرة".
نساء أولاد نايل والرقصات الخاصة بهن
بعيداً عن كليشيهات الاستعمار عن المرأة النايلية، يجد الباحث أن المرأة في هذه المناطقة متعلقة بأصالتها ومعتزة بثقافتها، وعلى رأسها الرقص.
رقصة "النايلي" هي رقصة تقليدية فريدة من نوعها في الجزائر، وتروي بعض المصادر التاريخية أن النايليات كن يستخدمن الرقص كلغة إشارة مشفرة لا يفهمها سوى النايليين خلال حرب الاستقلال لنقل الرسائل إلى الثوار من دون أن يكتشفها المستعمر.
هناك قصتان مختلفتان لرقصة "النايلي"، إحداها للنساء وتُسمى "رقصة الحمامة"، والأخرى للرجال وتسمى "رقصة المقاتل" أو "الفارس".
رقصة الحمامة تُعدّ رمزاً للأنوثة والرشاقة، وتتميز بحركات انسيابية وخفيفة تشبه حركات الحمامة. المرأة ترتدي اللباس الأبيض وترقص بتحركات ناعمة وهادئة، مع إبقاء رأسها مرتفعاً وتحريك كتفيها بهدوء. وتستخدم هذه الرقصة إيماءات لطيفة للتواصل بين الرجل والمرأة، حيث ترمز إلى أن المرأة هي سيدة منزل حقيقية وتجيد الأعمال المنزلية مثل العجن والنسج والغزل.
أما رقصة المقاتل فتعكس الجانب القتالي والفروسية في ثقافة "أولاد نايل". الرجال يرقصون بحركات تشبه حركات الترويض وتدريب الخيول، وغالباً ما يحملون البندقية أو البارود خلال الرقصة، مما يعكس اعتزازهم بتاريخهم الثوري ومهاراتهم القتالية.
بالإضافة إلى الرقص، يُعدّ لباس النساء في "أولاد نايل" جزءاً من التراث المحلي. ترتدي النساء الملحفة النايلية، وهي قطعة قماش جميلة تُستخدم في الرقص والمناسبات. كما يضعن ريشةً على رؤوسهن لزيادة الأناقة وتعبيراً عن انتمائهن إلى منطقة "أولاد نايل".
بهذه الطريقة، تعكس رقصة "النايلي" التقاليد والقيم الثقافية لسكان "أولاد نايل" في الجزائر، وتحمل رموزاً ودلالات تعبّر عن العشق والحب والفخر بالتاريخ والهوية الثقافية للمنطقة.
أزياء تعبّر عن ثقافة وتقاليد أصيلة
وبالنسبة إلى الزيّ النايلي التقليدي للمرأة، فهو يتألف من قطع متعددة تشمل الجُبّة والملحفة والطاسة والخمري والزمالة والحواط والبثرور.
الملحفة تُعدّ جزءاً مهماً من الزي، ويتم وضعها على ظهر المرأة وتثبيتها على الكتفين من الأمام. ويتضمن الزي أيضاً غطاء الرأس "الزمالة"، وحلي "الناصية" أو "الجبين"، وهي عبارة عن عقد من الفضة أو الذهب يتم ارتداؤه على جبين المرأة.
بالإضافة إلى ذلك، تستخدم المرأة النايلية العديد من أدوات الزينة الأخرى، مثل الخلخال والحدايد والمحزمة والسخاب. كل هذه العناصر تساهم في إبراز الجمال والأناقة وتعبير المرأة عن هويتها الثقافية والتراثية.
في المحصلة، يمكن القول إن نساء أولاد نايل أكبر من أن يُختصروا في مجرد صورة نمطية رسمها الاستعمار، وتم تداولها في الأدب والروايات. إنهن وجوه نضال وقوة وثقافة تستحق أن تكون محط اهتمام كونهن تركن بصمةً في تاريخ الجزائر ويشكلن جزءاً من ثقافتها.
المصدر: مواقع ألكترونية