الخوف من الذكاء الاصطناعي: الفن في مواجهة الخوارزميّة
أطلقت مجموعة من الفنانين والناشطين دعوة إلى مقاطعة الذكاء الاصطناعي، وبصورة أدق مقاطعة كل ما ينتجه الذكاء الاصطناعي من فنّ. السبب الأول، والذي يخص المصممين، هو أن الذكاء الاصطناعي يهدد مهنتهم؛ ما يتطلب ساعات عادةً من التصميم والاحتمالات والخيارات كي يقتنع "الزبون"، أصبح بالإمكان توليده بدقائق، وبكمية لا نهائيّة، أي بصورة ما، الذكاء الاصطناعي يسرق عمل البشر حسب الداعين إلى المقاطعة.
هذا الموقف الراديكالي لدى البعض تجاه الفن الناتج عن الذكاء الاصطناعي مفهوم، كونه يُهدد "الرزق"، علماً بأنه سهّل عمل المصممين فقط وأخاف بعضهم، ولم يستبدل "الفنّانين"، لكن ما زال الرعب قائماً، لا حرصاً على الرزق فحسب، بل خوفاً على "أصالة" الفنّ ودور "الفنان" في إنتاجه.
التساؤلات حول دور الفنان و"رزقه"، ظهرت حين باعت دار كريستي، لوحةً ولّدها الذكاء الاصطناعي بما يقارب نصف مليون دولار عام 2018. الغرابة ليست في السعر، فهناك لوحات تباع بمئات الملايين، لكنها تعود إما للفنانين المكرّسين كجيف كونز، أو المعلمين كدافنشي، في حين أن لوحة Edmond de Belamy، التي بيعت في المزاد كانت من إنتاج شركة فرنسيّة تصف نفسها، بصورة نراها ساخرةً، بأنها تتألف من "باحثين وفنانين وأصدقاء"، واللوحة التي بيعت هي من أولّ مجموعة قاموا بإنتاجها.
مصدر القلق هو أن الذكاء الاصطناعيّ أتاح لمن هم خارج عالم الفن، فرصةً لدخول السوق، كما سمح للفنانين المكرّسين "صنبور" مالٍ من دون عناء يُذكر. البريطاني داميان هيرست، طوّر مطلع هذا العام، ذكاءً اصطناعياً يمكّن الشخص من صناعة لوحته بنفسه، ليوقّع عليها هيرست فقط، الأمر الذي جعله يكسب خلال 9 أيام فقط، 20.9 ملايين دولار.
الرعب إذاً من تلاشي دور الفنان العصامي الحالم بالشهرة والمال، وإمكانية استبداله بعدد من المبرمجين، أو بذكاء اصطناعي يحوّل "عمل" الفنان المكرّس إلى مجرد التوقيع على اللوحات لإكسابها اسمه الذي يدفع الناس لأجله أثماناً مرتفعةً مقابل اللوحات.
المهارة الصبر والإتقان، التي تحتاج إلى سنوات، والحلم بعرض اللوحات وبيعها، أصبحت "مبتذلةً"، إذ يمكن لأي شخص عبر خدعة ما أو سياق ما استخدام DALL•E، المنصة الأشهر لتوليد الصور، لصناعة "لوحات" وبيعها وتبادلها بالسعر الذي يريد، كون الصور حسب شروط DALL•E، ملكاً لمن يولّدها ليفعل بها ما يشاء.
هناك ما هو أشدّ إشكاليّةً من الرزق وأصالة العمل الفنيّ، وهو شأن مرتبط بمفهوم الفن نفسه: إن كانت خوارزميات الذكاء الاصطناعي وقدرته على "التوليد" هي المشكلة، فلماذا الآن تم الالتفات إليها؟ لماذا تم تجاهل دور الخوارزميات في تحديد ذوقنا على منصات البث مثلاً؟ السبب، هو الفنّ نفسه، الظاهرة التي نفخر نحن البشر بأنها حكر علينا، ولا أحد غيرنا قادر على "توليدها".
اتّهم معادو الذكاء الاصطناعي في عالم الفنّ هذه التقنيّة بأنها لا تقدّم ما هو أصيل، لكنها تقتبس من أعمال سابقة، وتنتهك "حقوق الملكيّة". لكن أليس هذا ما يقوم بها الفنان: يقتبس من غيره وينتج، ويدّعي الأصالة؟ الفرق أن الفنان، ينسى، أو يدّعي النسيان، ليدفع تهم التقليد والسرقة والتناص، بينما الذكاء الاصطناعيّ، لا ينسى، بل ذاكرته حاضرة دوماً. ألم يقل بيكاسو نفسه أن "الفنانين العظماء يسرقون".
اتهم معادو الذكاء الاصطناعي في عالم الفنّ هذه التقنيّة بأنها لا تقدّم ما هو أصيل، لكنها تقتبس من أعمال سابقة، وتنتهك "حقوق الملكيّة"، لكن أليس هذا ما يقوم بها الفنان: يقتبس من غيره وينتج، ويدّعي الأصالة؟
هنا نحن أمام إشكاليّة إنسانيّة بحتة، تتجلى في خوفنا من تلك الآلة التي لا تنسى، إذ حقيقةً لا يوجد ما هو أصيل؛ كل الفن، إن أردنا أن نكون شديدي الراديكالية، مقتبس من بعضه البعض. بحْث الفنان نفسه في الأساليب الماضية لتطوير أسلوبه هو شكل من أشكال السطو، لكننا نغفره له بحجة النسيان والأسلوب المختلف.
الحديث عن الأسلوب هنا يعيدنا إلى تهمة سرقة الأسلوب التي توجه إلى الذكاء الاصطناعي، والتي تنمّ عن رعب قد يهدد الفنانين أنفسهم، إذ لا يمكن ببساطة تقنين الأسلوب أو وضع حقوق ملكية عليه. ليست كل اللوحات السورياليّة "مسروقةً" من سيلفادور دالي أو مارسيل دوشامب. الأسلوب شأن مشترك بين الجميع ولا يمكن مقاضاة من يستخدمه، لأنه لو كان كذلك، لما كان هناك فن، إذ يمكن لكل فنان أن يقننّ "أسلوبه" ويمنع من يستخدمه، ولكانت اختفت كل المدارس الفنيّة من الواقعية إلى الانطباعيّة، كون كل واحدة منها "ملكاً" لفنان واحد طوّر هذ "الأسلوب". الأمر أشبه بوضع حقوق ملكيّة على لغة ما، ومنع من لا يمتلك الموافقة استخدامها، الشأن الذي يجعل الخوف من سرقة الذكاء الاصطناعي للأسلوب، شأناً هزلياً، ولا يمكن مناقشته.
يفوت الخائفين من الذكاء الاصطناعيّ تحدي "الجديد"، ونقصد التكنولوجيا الجديدة التي لطالما هددت عالم الفن؛ اختراع الكاميرا هدد رسامي البورتريهات، واختراع السينما هدد المسرح، واختراع الآي باد هدد الراديو، وكل واحد من هذه الاختراعات ترك الفنانين أمام تحدٍّ ما. لكن هل نستسلم للتكنولوجيا الجديدة، أم نعيد النظر في أدواتنا؟ تاريخ الفن يجيبنا ببساطة. يقال مثلاً إن الانطباعية كانت وليدة رد الفعل على الكاميرا، إذ انحرف روّادها عن تصوير "الواقع" نحو تقنيات وأساليب لا يمكن لعدسة الكاميرا التقاطها، وتالياً لحظة الذكاء الاصطناعيّ، تستدعي مواجهةً بين الفنان والفن نفسه، وكيفية إعادة النظر فيه.
هل يمتلك الذكاء الاصطناعيّ لا وعياً؟
تقول الكثير من نظريات علم النفس، خصوصاً الفرويديّة، إن الفن وليد اللا وعي، وهو وسيلة للبشر للتعبير عن رغباتهم الدفينة، تلك التي لا يمكن لهم "إشباعها" في الواقع. لكن هل يمكن أن نطرح هذا السؤال على الذكاء الاصطناعي، ذاك الذي لا ينسى ولا نهاية للاحتمالات التي يمكن أن يولدها؟
يمكن أن نجيب ونقول إن الذكاء الاصطناعيّ "يقلّد" الأشكال الفنيّة التي تمرّن عليها، لكن هل يمكن في لحظة ما، أن يعبّر عن لا وعيه إن كان موجوداً؟ يمكن الإجابة حالياً بـ"لا"، كون الذكاء الاصطناعي "يتعلم" فقط الأشكال والكلمات، لكن إن وصفنا له بدقة شخصاً ذا صفات معينة، وقمنا نحن ببناء "لا وعيه"، يمكن أن يقدّم لنا أعمالاً من الوارد نعتها بأنها نتاج اللا وعي حسب ما نتخيل، أو ببساطة، يمكن لخطأ ما، أن يهدد أسلوب تعلم الذكاء الاصطناعي، ليعبّر عما لا يتّسق مع هذه التعليمات.
في استطاعتنا أن نتخيل "فيروس" مثلاً، قادراً على أن يصيب الذكاء الاصطناعي ليحوله إلى مهووس بالجبنة مثلاً، أو القطط أو القضبان الذكريّة، تلك التي للمصادفة تحضر في كلّ تاريخ الفن، بوصفها نتاج "اللا وعي" وهوس الرجال بقضبانهم. فكما يستقبل وعينا صوراً قد "تتشوه" في اللا وعي، الأمر نفسه يمكن أن يحصل مع الذكاء الاصطناعيّ إن أُصيب بفيروس.
ما زلنا كبشر نرتاب من الذكاء الاصطناعي، بل نحتقر ما ينتجه، وأسلوب خداعه لنا، وهذا ما حصل حين فاز المصوّر الألماني بوريس إلدجسن، بجائزة أفضل صورة في مسابقة سوني للتصوير الفوتوغرافي، عن صورة من سلسلة صور "ذكريات مزيفة" التي خدعت لجنة التحكيم التي لم تستطع أن تكتشف أنها مصنوعة باستخدام الذكاء الاصطناعي.
الخديعة السابقة أقلقت اللجنة التي اتهمت الفنان (الذي تنازل عن الجائزة فور حصوله عليها)، بالخداع. لكن ألا يعني هذا أننا كبشر نقيّم الفن بناءً على بشريّته ذاتها، لا على قدرته على تجاوز إدراكنا. إلا أن هذه المقاربة بالذات، الخاصة بالفن والجمال، لها جذورها في أقدم نظريات الفن، ذاك الـSublime المتعالي، القادر على أسرنا وخداعنا وخلق الخوف في دواخلنا، ذاك الجمال غير الموجود إلا في الطبيعة ذاتها وتشكيلاتها.
الواضح أن الرعب من الذكاء الاصطناعي في عالم الفن لا يمسّ فقط الجانب المهنيّ، بل يمتد نحو الجانب الإنساني نفسه، ما يميزنا كبشر نتمسك بمفاهيم الفن واللا وعي، أي ببساطة ما زلنا حذرين ومتخوفين من "فن" بلا فنانين في الواقع، ضمن المخيّلة والطبيعة. الأمر مقبول إلى هنا، لكن أن تدخل آلة في مسابقة فنيّة، فهذه إهانة، لا للفن فقط، بل لخبراء الفن والبشر أنفسهم، ذوي الامتياز الحصريّ في إنتاج الفن، حتى لو خُدعوا ولم يتمكنوا من رصد الاختلاف بين البشريّ والآلي.
المصدر:مواقع ألكترونية