الذكاء الاصطناعي جعل الأمومة البشرية سلعة زائفة
الذكاء الاصطناعي جعل الأمومة البشرية سلعة زائفة 020
من يتوقع أن الصور الأشد تعبيراً عن عمق الأمومة ودفئها قد تتحول إلى سلعة في الإباحية البصرية على الإنترنت؟ (نيويترشن أند هيلث)
نموذج من التقاطع بين التقنيات الرقمية التوليدية والمعلومات المضللة
الأرجح أن ثمة ما يحفز على استنفار الانتباه واليقظة، في ذلك النداء الذي أطلقه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أخيراً، عن ضرورة عدم نسيان زلزال "المعلومات الزائفة" في ظل النقاشات العميمة عن الذكاء الاصطناعي التوليدي Generative Artificial Intelligence، اختصاراً "جي بي تي" GPT، بتنويعاته المختلفة والمتكاثرة.
ولم يفت غوتيريش في ندائه الذي يستوجب نقاشات معمقة، أن يلفت إلى أن انتشار التقنيات التوليدية تمهد لتضخيم مقلق لظاهرة المعلومات الزائفة وزلزالها. ومن منبر الهيئة المعنية بالنظام العالمي، ذكر غوتيريش بمجموعة واسعة من الأضرار الكارثية التي تأتت من ظاهرة المعلومات الزائفة، من بينها انتشارها في ظل جائحة كورونا تسبب في تفاقم ما سببته من الوفيات والإصابات والخسائر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
الذكاء الاصطناعي جعل الأمومة البشرية سلعة زائفة 1-1792
الأرجح أن النداء الذي قد يستأهل نقاشات معمقة، يحفز مرة أخرى على استعادة جوانب من التجربة مع ظاهرة المعلومات الزائفة التي يصح القول إنها استفادت من التقنيات الرقمية المتطورة، لكنها تحمل أبعاداً متنوعة أخرى.
لعل المجال لا يتسع في مقال مفرد، لتناول مسألة المقاربة النقدية للظاهرة الرقمية، خصوصاً لكيفية الاستفادة من المقاربة الأنثروبولوجية التي تركز على مجريات الحياة المعاشة من جهة، وبين التطورات المستمرة والفوارة للوسيط الرقمي المعاصر. ربما يحمل ذلك تشابكات عدة، لكن الإنسان يقف في القلب من الأمر كله. بعبارة أخرى، يجدر التشديد دوماً على أن التفكير النقدي الجدلي في الظاهرة التقنية، على غرار الحال مع غيرها بالطبع، يستند أساساً إلى الاهتمام بالكائن الإنساني ومجتمعاته وحضارته عموماً، كي لا يصبح الانشغال بالوسيط الرقمي وتقنياته، مدخلاً إلى انشداه واستلاب وتغييب مركزية تسليط العقل البشري وأضوائه في مسار التفاعل مع التقنيات والعلوم التي باتت الأعين المعاصرة أكثر تنبهاً لمدى تغلغلها في نسيج الحياة اليومية للبشرية المعاصرة.
صور الأمومة وتجارة اللذة
ثمة شيء مستفز تماماً في تحويل الصور الأشد تعبيراً عن عمق الأمومة ودفئها، قد تتحول إلى سلعة في الإباحية البصرية على الإنترنت. وقد تناولت مجلة "فوربس" تلك الظاهرة في مقال مطول بعنوان "كيف جرى جنسنة الأمهات المرضعات على السوشيال ميديا".
الذكاء الاصطناعي جعل الأمومة البشرية سلعة زائفة 12207
ومن دون الإغراق في تهويل خطابي، يصعب عدم الإحساس بجرح إنساني حين مطالعة صور إرضاع الأم للطفل، تلك اللحظة المنغرسة في عمق مشاعر البشر، وقد صارت جزءاً من تجارة تستند إلى هيمنة ثقافة السعي النهم إلى اللذة في أشكالها كلها، باعتبارها المركز الحصري للإنسان وحياته، بل حتى قيمه. وليس ببعيد عن الذاكرة ذلك النقد المؤثر والمتكرر الذي يصدر من البابا فرانسيس الثاني، تجاه ما يسميه ثقافة المتمحورة حول الملذات Hedonic Culture التي تجعل لحظة النشوة بديلاً مكثفاً عن معنى الإنسان وعيشه كله.
استطراداً، تندرج تلك التجارة الغرائزية ضمن أحد أشكال ظاهرة المعلومات المزيفة، المتمثل في استخدام أساليب التزييف الرقمي العميق في التلاعب بالصور والأشرطة التي يضعها الجمهور على الإنترنت، خصوصاً في منصات التواصل الاجتماعي.
ووفق ذلك المقال في "فوربس"، فقد صدمت أمهات كثيرات حينما رأين أن صوراً وضعنها على الإنترنت تظهرهن أثناء إرضاعهن أطفالهن، قد اقتطعت من سياقها واستخدمت في أطر مظاهر الإباحية الجنسية الرقمية، من دون الحصول على موافقتهن عن ذلك الاستخدام بالطبع.
الذكاء الاصطناعي جعل الأمومة البشرية سلعة زائفة 1-403
وفي منحى يبرهن عقلية الاحتيال التجاري، عرض على إحدى الأمهات اللاتي نقلن تجاربهن إلى "فوربس"، أن تحصل على ربع دولار لقاء صورة لها أثناء إرضاع طفلها، ونصف دولار لقاء فيديو قصير عن الأمر نفسه. وقد ادعى الموقع الذي قدم ذلك العرض أن الصور والأشرطة ستستخدم في حملة توعية واسعة هدفها الإقناع بالأهمية الصحية والطبية للإرضاع من الثدي، بما في ذلك ترسيخ فكرة أن ذلك الإرضاع أمر طبيعي يجب ألا يعامل بحساسية أو رفض. ووفق "فوربس"، تضمن ذلك العرض أن تجري الأمهات اتصالاً رقمياً مع رجال يرون في مشهد الإرضاع موضوعاً جنسياً، ثم يجبن على طلب أولئك الرجال بالتفرج على صور الإرضاع وأشرطته، بأن يرفضن ويرسلن إليهم عبارة "أجسادنا لأطفالنا، وليس للبيع". وحينما يرسل ذلك الرفض، تحصل الأم المرضعة على مقابل مادي يرسل لها عبر تطبيقات معروفة للتحويلات المالية كـ"كاش" و"فينمو"!
ماذا لو تدفق سيل الاستباحة؟
استطراداً، قدم مقال "فوربس" مجموعة من التنويعات على ذلك العرض الاحتيالي. واستكمالاً، لم تؤد تلك العروض كلها لسوى الحصول على صور وأشرطة لأمهات أثناء إرضاعهن أطفالهن، ثم التلاعب بها كي تندرج ضمن صور بورنو وأشرطة إباحية، سرعان ما صارت موضع تداول وتجارة عبر الإنترنت. وقد بلغ الأمر أحياناً إلى استعمال البصريات الإباحية المزيفة في الضغط على الأمهات وابتزازهن، بل طلب من بعضهن كي يبعن أجسادهن مباشرة.
وثمة مناح كثيرة في ذلك المقال المقلق، لكنها تدور حول المسألة نفسها تقريباً.
ماذا لو تكررت تلك الظاهرة مع مناح أشد عمقاً وحساسية في حياة البشر، مثل التقاليد والعادات الدينية؟ ماذا لو تفاقم ذلك الأمر عبر استعمال الذكاء التوليدي في تزييف تلك التقاليد والعادات والطقوس، أي انفلات مذهل للغرائز سيرافق ذلك، ماذا لو وظفت ضمن خطابات الكراهية بأنواعها التي لا تتوقف عن التكاثر؟

الأرجح أن الأسئلة قد لا تنتهي، بل ربما يفيد عدم التوقف عن طرح السؤال تلو الآخر، لعل إجابة ما تومض في هذه الأفاق المتلاطمة الظلمات.


المصدر:مواقع ألكترونية