هذه حكاية فرج فودة… رائد الجيل الثاني للفكر التنويري في مصر
اشتهر فرج فودة بمقالاته ومحاضراته وكتبه التي ينتقد فيها التطرف الإسلامي ويعارض فيها الدولة الإسلامية وسلطة رجال الدين، ودعوته إلى فصل الدين عن السياسة… وفكر مثل هذا، يمكن لنا أن نخمن بسهولة كيف يمكن أن يواجهه الإسلاميون!
“إلى زملاء ولدي الصغير أحمد، الذين رفضوا حضور عيد ميلاده، تصديقا لمقولة آبائهم عني…
إليهم، حين يكبرون ويقرؤون، ويدركون أنني دافعت عنهم وعن مستقبلهم وأن ما فعلوه كان أقسى علي من رصاص جيل آبائهم…”.
هكذا، يطأ فرج فودة كتابه “نكون أو لا نكون”، الذي نشره عام 1990، في إهداء يشبه الحدس… كأنما أدرك حينها أن نهايته باتت قريبة، وستكون قتلا بالرصاص، فاستبق الأحداث ليقول: مع ذلك، حكاية نهايتي لن تكون الأقسى!
وصدق الحدس بعد سنتين… سأل المحققُ القاتلَ: “لماذا قتلتَ فرج فودة؟”، رد: “إنه كافر!”. “ومن أي كتبه عرفت أنه كذلك؟”، ناول المحقق الكلمة ثانية للقاتل، فرد: “أنا لم أقرأ كتبه”. تعجب المحقق: “كيف؟”، فأوضح القاتل مؤكدا: “لا أعرف القراءة ولا الكتابة”.
خبر على الهامش: قُتل الداعشي المصري، أبو العلا عبد ربه، أحد قادة الجماعة الإسلامية، في غارة جوية بسوريا، في فاتح ربيع عام 2017.
وكان عبد ربه، أحد قتلة الراحل فرج فودة، وقد حكم عليه بالسجن المؤبد في ذات القضية، قبل أن يفرج عنه الرئيس المصري السابق، محمد مرسي، ويلتحق بتنظيم “الدولة الإسلامية”.
في النصف الثاني من القرن الذي مضى، كانت مصر تغلي بين ضفتين… الإسلاميون ويتقدمهم الأزهر والإخوان المسلمون؛ والعلمانيون ومن بين أبرزهم، فرج فودة.
فودة اشتهر حينها بمقالاته ومحاضراته وكتبه التي ينتقد فيها التطرف الإسلامي ويعارض فيها الدولة الإسلامية وسلطة رجال الدين، ودعوته إلى فصل الدين عن السياسة… فكر مثل هذا، يمكن لنا أن نخمن بسهولة كيف يمكن أن يواجهه الإسلاميون.
ولد فرج فودة في بلدة الزرقا بمحافظة دمياط (مصر)، في الـ20 من غشت/أغسطس 1945. حصل على دكتوراه في الاقتصاد الزراعي من جامعة عين شمس عام 1981، ثم عمل مدرسا لفترة بالعراق، قبل أن يعود إلى مصر ليعمل خبيرا اقتصاديا ويؤسس مجموعة استشارية متخصصة في دراسات تقييم المشاريع.
كانت هزيمة 5 يونيو 1967 فارقة في حياة فودة، وقد أحدثت أثرا بالغا في نفسه… يحكي عن ذلك قائلا: “خيل لي أن مصر، قد ماتت وانتهت”. فودة اعتبر هذه الهزيمة من الأسباب التي أدت إلى بروز ونمو التيارات الدينية في مصر والدول العربية.
على إثرها، يقول، برز اتجاهان فكريان؛ الأول الذي رأى الهزيمة نتيجة لتبني الاختيار الغربي، ومن ثم وجب مواجهة العدو (إسرائيل) بنفس سلاحه؛ أي بالتوحد الإسلامي.
أما الاتجاه الثاني؛ فقد دعا إلى المواجهة بمزيد من المعرفة والتأقلم مع حضارة العصر، لا من خلال مظاهرها، إنما عبر احترام العقل وإعلاء قيمة الإنسان، وهو الذي انخرط فيه فودة.
هكذا، بعدما كان قد اختط التدريس مسارا لحياته، كان أن غيره بظروف الاضطرابات السياسية ونمو الجماعات الإسلامية. صحيح أنه آثر العمل السياسي، لكنه، مع ذلك، ظل يبصم على الأكاديمية في كتاباته، التي حملها توجهه الفكري.
حينما سمح الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، بالتعددية الحزبية في مصر عام 1978، رأى فرج فودة أنه جدير تأسيس حزب يواجه الحزب الديني الإسلامي الذي عده الأقوى في الساحة المصرية آنذاك.
آنذاك ظهر حزب “الوفد الجديد”، الذي أسهم فودة في تأسيسه، وأمل في أن يلتف حوله المؤمنون بالديمقراطية والوحدة الوطنية… لكن، عام 1984، خيب الحزب أمل فودة، إذ قرر أن يتحالف مع الإخوان المسلمين في انتخابات مجلس الشعب، فكان أن استقال منه.
حاول بعد ذلك أن يؤسس حزبا سياسيا باسم “المستقبل”، بيد أن لجنة شؤون الأحزاب في مجلس الشورى، رفضته مرتين، فخاض انتخابات مجلس الشعب لعام 1987 كمرشح مستقل… انتخابات لم ينجح فيها، واعتقد بتزوير شابها.
في أثناء ذلك، ألف فودة عددا من الكتب، مثل “قبل السقوط”، و”الحقيقة الغائبة”، و”حوار حول العلمانية”، كما نشرت الصحف المعارضة مقالات له، خاض فيها بمواضيع شتى، من حقوق الإنسان، إلى الدولة المدنية، وليس انتهاء بمعاركه الفكرية ضد الإسلاميين.
ثم بعد ذلك، جاءت عدة مؤلفات أخرى، مثل “النذير”، كدراسة لنمو التيار الإسلامي، وقد خلص فيها إلى أن الأخير قد نجح فعلا في تكوين دول موازية، اقتصادها متمثل في بيوت توظيف الأموال، وجيشها متمثل في الجماعات الإسلامية المسلحة، فيما كيانها السياسي يتمثل في مكتب إرشاد
الإخوان المسلمين
إجمالا، انتمى فودة إلى الجيل الثاني من التنوير في مصر، بعد الجيل الأول الذي راده الطهطاوي وطه حسين وقاسم أمين وعلي عبد الرازق وآخرون. اعتقد أن الدين مكون أساسي في الشخصية المصرية، وأن التنوير المصري يجب أن يقوم على معالجة العلاقة بين الإسلام والحداثة.
هكذا، قام المشروع التنويري لفودة على أربعة أعمدة، هي: نقد الإسلام السياسي المعاصر، نقد الإسلام السياسي التاريخي، حتمية الاجتهاد وإعمال العقل، والدفاع عن أسس الدولة المدنية الحديثة.
كانت آخر أنشطة فودة التنويرية مشاركته في مناظرة معرض القاهرة الدولي للكتاب، في الـ7 من يناير/ كانون الثاني 1992، بعنوان: “مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية”، ومناظرة أخرى تحمل ذات العنوان بعد عشرين يوما، أقامها نادي نقابة المهندسين بالإسكندرية.
ثم في الـ3 من يونيو/حزيران 1992، نشرت صحيفة “النور” الإسلامية، بيانا من ندوة لعلماء الأزهر، يكفر فيها فرج فودة…
بعد 5 أيام، وبينما خرج من مكتبه بالقاهرة متوجها إلى سيارته، انطلق شابان من الجماعة الإسلامية على دراجة نارية نحوه، وأفرغا فيه رشاشا… قبيل موته، قال فودة وهو يحتضر في سيارة الإسعاف: “يعلم الله أنني ما فعلت شيئا إلا من أجل وطني”.
كانت هزيمة 5 يونيو 1967 فارقة في حياة فودة، فقد خيل له معها أن مصر قد ماتت وانتهت. فودة اعتبر هذه الهزيمة من الأسباب التي أدت إلى بروز ونمو التيارات الدينية في مصر والدول العربية.
قام المشروع التنويري لفودة على أربعة أعمدة، هي: نقد الإسلام السياسي المعاصر، نقد الإسلام السياسي التاريخي، حتمية الاجتهاد وإعمال العقل، والدفاع عن أسس الدولة المدنية الحديثة.