تمثال موطلي ملك كموخ في بلاد الاناضول
تمثال موطلي ملك كموخ في بلاد الاناضول 1-504
كانت المملكة الحثية في أوج ازدهارها في عصر الامبراطورية وذلك في النصف الثاني من القرن الثالث عشر ق.م، فقد فرضت سيادتها من نهر الفرات شرقا وإلى بحر ايجة في الغرب، ومن البحر الأسود شمالا وإلى شمال سوريا والبحر المتوسط جنوبا، ولها علاقات مصاهرة مع ملوك الشرق الادنى القديم فقد تزوج الملك شوبيلوليوما الأول (Šuppiluliuma) الملك الحثي (1244-1322) ق.م من ابنة برنابورياش الثاني ملك بابل وتدعى مال-نيكال (Mal-Nikal) واحتلت الأميرة البابلية في خاتوشا منصب تاوانانا (Tawananna) بمعنى (السيدة الأولى)، وهناك زيجة ثانية زواج كودور-انليل (Kudur-Enlil) (1254-1246) ق.م ملك بابل من ابنة خاتوشيلي الثالث الملك الحثي) 1267-1227) ق.م ولا نعرف اسمها، وايضا -زواج تودخليا الرابع الملك الحثي من ابنة ملك بابل ربما كدشمان-انليل الثاني (Kadashman - Enlil) ونحن لا نعرف اسمها البابلي لكنها دعيت باسم الملكة سال لوكال(SAL LUGAL) ، وأحيانا باسم (الأميرة العظيمة) دومو سال لوكال (DUMU SAL LUGAL) ولم تمنح لقب السيدة الأولى، هذا إضافة إلى زواج الفرعون رعمسيس الثاني من ابنة خاتوشيلي الثالث واعطي لها اسم )مات نفرو رع) (ترى فيها جمال رع(، كما دخل الحثيون في حروب ضد مصر، والدولة الآشورية، ومملكة ميتاني.
لكن سقوطها كان سريعا في عام (1200) ق.م واعطي عدة اسباب لهذا السقوط، أحدهما هجمات (شعوب البحر)، وهم مجموعات بشرية مهاجرة تستعمل السفن والعربات واسلوبهم العنف والحرب خلال هجرتهم بحرا وعلى طول السواحل البحر المتوسط ضد ممالك عصر البرونز الاخير التي عرف عنها بقصورها ورفاهية العيش فيها فتم تدمير المملكة الحثية ومدن كثيرة عدا مصر التي قاتلتهم وصد هجرة شعوب البحر في عهد رعمسيس الثالث فرعون مصر، وهناك راي آخر الصراع الداخلي بين افراد الأسرة المالكة الحثية للاستحواذ على العرش، والرأي الثالث ان المهاجرين عرفوا تعدين الحديد فاعطاهم هذا المعدن القوة والقدرة القتالية فاسقطوا الامبراطورية الحثية، ومهما يكن الأمر اصبحت الامبراطورية الحثية نسيا منسيا .
أن السقوط الحثي ولد ما يعرف عسكريا (فراغ القوة) (force vacuum) أو الدولة الحاجزة(buffer-state) فظهرت ممالك صغيرة ثقافتها حثية ويحمل ملوكها اسماء هي نفس اسماء ملوك الحثيين القدماء، كما استعملوا في نقوشهم التذكارية الخط المسماري والخط الهيروغليفي لوفيان (Luwian)، ومن هذه الممالك في بلاد الاناضول مملكة كموخ (Kummuḫ) أو كوموح (Kummuh) ذات الثقافة الحثية الحديثة، وهي إحدى ممالك عصر الحديد، وتقع على الضفة الغربية لنهر الفرات الأعلى بين مليد (Melid) وكركميش (Carchemish)، وتشير المصادر الآشورية إلى كل من الدولة وعاصمتها بنفس الأسم، وانقاض العاصمة حاليا في منطقة سامسات هويوك الحديثة (Samosata Höyük) ، والتي غمرتها الآن مياه سد تم بناؤه حديثا، كما تشير المصادر الأورارتية إليها باسم كوماخا (Kummaḫa) وأقدم نقش ملكي محلي واحد على الأقل يرجع تاريخه إلى القرن الثامن ق.م، وتحد مملكة كموخ ممالك ميليد (Melid) من الشمال، وجرجوم (Gurgum) من الغرب، وكركميش من الجنوب، بينما في الشرق واجهت المملكة الآشورية، ومملكة أورارتو (عاصمتها توشبا تقع بالقرب من بحيرة فان شرق تركيا) لاحقا.
تأتي معظم المعلومات حول كموخ من مصادر آشورية، منذ بداية القرن التاسع إلى منتصف القرن الثامن ق.م، يبدو أن كموخ ظلت دولة سلمية متحالفة مع آشور، ففي عام (866) ق.م أشاد قاتازيلو (Qatazilu) (واسمه اقرب إلى خاتوشيلي) ملك كموخ بالملك الآشوري آشورناصربال الثاني Assurnasirpal)) (859-884) ق.م كذلك اشاد بولده شلمانصر الثالث Shalmaneser)) (824-859) ق.م وكان الملك قاتازيلو قد خضع لشلمانصر الثالث بسلام بعد أن عبر الملك الآشوري نهر الفرات في حملته نحو الغرب، ثم ذكرت نصوص شلمانصر الثالث ملكا جديدا على كموخ يدعى كونداشبي (Kundašpi)، وأنه من بين ملوك شمال سوريا الذين استسلموا له في مدينة بيترو (Pitru)، وفي عام (805) ق.م ذكرت المصادر الآشورية طلب قدمه أوشبيلولوما (Ušpilulume) ملك كموخ (اسمه يطابق شوبيلوليوما الأول الملك الحثي القديم) مساعدة الملك الآشوري أدد-نيراري الثالث (Adad-nirari) ضد تحالف شكل من ثمانية ملوك ضد آشور ومملكة كموخ (Kummuḫ) وعلى ما يبدو أن أداد- نيراري الثالث قاد الحملة برفقة والدته الملكة سمورامات (معنى اسمها محبوبة الحمام) وهزم التحالف الرهيب وأقام الحدود بين كموخ ومملكة جرجوم في منطقة بازارجيك (Pazarcık)، كما كان الملك أوشبيلولوما معاصرا للملك شلمانصر الرابع، بعد ذلك استلم حكم المملكة حاتوشيلي (Hattušili) (هذا الاسم معروف في المملكة الحثية) وكان معاصرا للملكين الاشوريين آشور-دان الثالث (Ashur-Dan) واشور- نيراري الخامس (Ashur-nirari)، ثم تلاه في حكم كموخ الملك كوشتاشبي (Kuštašpi) الذي تحالف مع ملك اورارتو ضد تجلاتبليزر الثالث(Tiglath-Pileser) ملك آشور عام (743) ق.م وتمكن الملك الاشوري من هزيمتهم ولكن أصدر تجلاتبليزر الثالث عفواً عن كوشتاشبي الذي بقي مواليا لآشور طيلة فترة حكمه .
استلم حكم كموخ الملك موطلي أو موتالو(Mutallu) (713-708) ق.م وهو اللفظ الاشوري لاسم مواتالي (ان تغير اسماء الملوك والمدن يعتبر تقليدا آشوريا) مثل عدد من أسلافه الملوك الذين اتخذوا لهم اسماء ملوك الحثيين القدماء، ويعتبر موطلي آخر حكام كموخ قبل أن يتم دمج المملكة في نظام المقاطعات الآشورية، وربما كان الخليفة المباشر لكوشتاشبي، وإذا كان الأمر كذلك فإن فترة حكمه كانت طويلة وطيلة فترة حكم شلمانصر الخامس Shalmaneser)) وسرجون الاشوريSargon)) ولغاية عام (708) ق.م، ولكن الاحتمال الاكثر قبولا حكم (5) سنوات فقط، ففي البداية كان موطلي مواليا لآشور، وربما ظلت مملكته خاضعة للتاج الآشوري منذ عهد كوشتاشبي الذي حصل على عفو من تجلاتبليزر الثالث، وفي الواقع كان لدى موطلي والملك الآشوري سرجون الثاني علاقات جيدة في البداية وتمت مكافأة موطلي على ولائه عندما منحه سرجون مملكة ميليد (مملكة ملاطيا القريبة) التي سبق وان ثارت على سيادة سرجون وبذلك اتسعت مملكة موطلي مساحة وشعبا، وبالمقابل كان على موطلي ان يقدم الولاء والالتزامات اتجاه الاشوريين وهي :
1-يقدم موطلي الجزية للآشوريين وتتمثل بالمعادن الثمينة والحديد والملابس وكل شيء ثمين تنتجه بلاده .
2-يبعث بالهدايا الثمينة للملك الاشوري بمناسبة انتصاره في الحرب، أو بناء قصر جديد، أو زواجه ...الخ.
3-عند مرور القوات الاشورية في بلاده متجة إلى الحرب عليه ان يطعم القوات الاشورية ويقدم الاعلاف للحيوانات، وإذا طلب منه المشاركة بالحرب يقدم قواته مع تجهيزاتهم الحربية.
تمثال موطلي ملك كموخ في بلاد الاناضول 1-504
يبدو ان شروط الولاء كانت ثقيلة على رقبة موطلي لذلك توترت العلاقات بين الحاكمين في نهاية المطاف، ولم يقدر قوة وشجاعة سرجون الاشوري Sargon)) فاعلن تمرده على السيادة الاشورية، واعلن تحالفة مع ملك اورارتو (تقع بالقرب من بحيرة فان شرق تركيا)، لكن اخبار التمرد وصلت عبر سلسلة من التقارير فجهاز الاستخبارت في العصر الاشوري كان جهازا كامل النمو ويعرف باسم ديالو (dyalu) أو دايلي (da-a-ali)، وآمرهم يطلق عليه رب دايلي (rab da-a-ali)، بينما الملك سرجون الاشوري يطلق عليهم اسم المستطلعين (صاب تخازي كوت ايديا) (sab taḫazi kut idiya) أو العيون وفي بعض النصوص (الرجال الملونين)، أما العيون والاذان فيطلق عليهم تسمية رجال دايالو (dayalu)، ومهمتم نقل الاخبار المتداولة في الشوارع والأسواق وارسالها إلى ضباط الاستخبارات، ويشرف الملك اشرافا مباشرا على جهاز الاستخبارات فهو الحاكم المطلق ولابد من معرفة مجرى الحوادث واتخاذ الاجراءات اللازمة لها، فهناك رسالة من سرجون الاشوري إلى أحد عملائه في الاستخبارات ويدعى باس-تيشوب (Bas-Teshup) (هذا الشخص اسمه حوري) يقول فيها (اكتب لي كل ما تسمعه عن اورارتو)، ومع هذا فان مهام ولي العهد كانت متابعة صنف الاستخبارات وبث العيون واستلام الرسائل السرية وتحليلها وارسال المعلومات إلى الملك الاشوري، وتولى هذا المنصب سنحاريب عندما كان في منصب ولي العهد وقد انيطت له مهام استخبارت بلاد الاناضول والاشراف على عمل ضباط الاستخبارات هناك، ولا يقتصر عمل الاستخبارات على بلاد الاناضول ففي عهداشوربانيبال كان لدية معلومات عما يجري داخل البلاط البابلي وما يدور فيه ابان تمرد اخية شمش-شوم-اوكن ملك بابل والفضل يعود إلى كودور (Kudurru) حاكم مدينة الوركاء الذي كان واحدا من انشط قادة الاستخبارات، على اية حال لم يتوانى سرجون في تهيئة قواته فهو يعرف امكانيات مملكة كموخ الحربية، وسبق وان قاد سرجون الاشوري حملة على مدينة موصاصير (يعتقد انها رواندوز) بعربة حربية خفيفة واحدة والف مقاتل فدمر واحرق المدينة، كما قاد حملة اخرى على مدينة اشدود في فلسطين بعربة حربية خفيفة واحدة والف مقاتل فقط ودمر المدينة واسر ملكها، وهنا ايضا قاد سرجون حملة خاطفة سريعة حاصر العاصمة كموخ.
لم يجد موطلي أمامه غير النجاة بالهروب وانقاذ حياته تاركا زوجاته ومحضياته وابنائه وشعبه بيد سرجون ووفقا للسجلات الاشورية هرب موطلي وتم ترحيل العائلة المالكة والسكان واسكنهم في بابل ثم جلب المستوطنين من بيت ياكين (Bit-Yakin)(في بابل) إلى كموخ (Kummuḫ) كعادة الاشوريين في تهجير سكان المدن المتمردة، وعلى الرغم من تمكن موطلي من الفرار لكننا لا نعرف مصيره بالضبط ولكن على اكثر احتمال قتل فحتما لدية اعداء وطامعين ويفتقر إلى الحماية وكما يقول المثل (إذا سقط الثور تكثر السكاكين)، ولم يكتفي سرجون بانهاء وجود كموخ كمملكة تابعة بل عمل على ان تكون تحت السيطرة الآشورية المباشرة بمعنى (مقاطعة آشورية) يديرها حاكم برتبة تورتانو (يعادل رتبة جنرال) وهو نائب عن الملك الاشوري وبقيت كموخ هكذا لغاية سقوط الإمبراطورية الآشورية في نهاية القرن السابع ق.م، وبعد عدة عقود ظهرت مملكة في نفس المنطقة تسمى كوماجين (Commagene)، والتي من شبه المؤكد أنها كموخ، وفي السنوات (607-606) ق.م استولى الملك البابلي نبوبولاصر (Nabopolassar)على المدينة وأقام فيها حامية واصبحت مقاطعة بابلية في (العهد البابلي الحديث).
تمثال موطلي ملك كموخ في بلاد الاناضول 1-504
تمثال الملك موطلي
عثر على تمثال الملك موطلي أو موتالو (Mutallu) في عام (2014)، وهو من الحجر الجيري، ويبلغ ارتفاعه حوالي (3.2) متر و(3.8 متر مع القاعدة)، وكان التمثال مدفون في الغرفة الغربية الداخلية لقصر الملك، كما عثر على قاعدة التمثال في مكانها بجواره مباشرة، وعلى الرغم من عدم وجود نقش على التمثال، إلا أن الافتقار إلى الصفات الإلهية في شكل التمثال فانه يشير إلى كونه ملك وليس إله، وهناك دلائل على أن التمثال دُفن بعناية وكأنه في قبر، ومن ناحية الأسلوب الفني فيؤرخ إلى فترة متأخرة إلى حد ما ربما النصف الثاني من القرن الثامن ق.م، وبناء على هذا التاريخ تم التعرف عليه على أنه الملك موطلي، صور الملك مرتديا ثوبا طويلا ذو نهاية تحمل زخرفة، وعباءة أو شالا يغطي كتفه الأيسر، وهو يمسك بمقبض سيف باليد اليسرى و قدح في يده اليمنى، والملاحظ ان اسلوب نحت الوجه اشوري فاللحية طويلة، وهناك جدائل الشعر تتدلى على يمين ويسار الكتف، ويغطي رأسه بقماش مزخرف، أما العيون فكانت واسعة كما هو معروف في التراث العراقي القديم، والشفتين رقيقتين، والانف والاذن بارزتين، ولا ترافق التمثال اي مظهر ديني كما اسلفنا. والتمثال حاليا في (متحف الحضارات الأناضولية ، أنقرة).

بقلم:الأستاذ الدكتور صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم