الهوية الدينية في الأختام الآشورية
الهوية الدينية في الأختام الآشورية 1-2212
أن الهوية الدينية في بلاد الرافدين القديمة تتميز بعلاقة الخضوع التام التي أقامها الإنسان مع الآلهة من أجل البقاء والازدهار، وكانت بلاد الرافدين تنظر إلى الآلهة على أنهم ملوك أيضا ولابد من الأهتمام بخدمتهم في معابدهم، وضمن هذا الإطار كان الفهم الآشوري للإله والطرق المناسبة لخدمة الآلهة قواسم مشتركة كبيرة مع تلك التي مارسها البابليين في الألفين الثاني والأول ق.م، ومع ذلك اختلف الآشوريون عن المجتمعات في جنوب بلاد الرافدين من حيث الأهمية التي نسبوها إلى بعض الآلهة والعلاقة الخاصة التي أقاموها بين الملك والإله، فقد اعترف الآشوريين بعبادة الآلهة الرئيسية التي نشأت في مدن سومر وأكد مثل عشتار (Ištar)، وسين (Sin)، وشمش (Šamaš)، وإنكي (Enki)، ونابو (Nubû)، وإن كل هذه الآلهة إلى جانب آلهة الأراضي التي اخضعوها، كانت تابعة للإله آشور الذي اعتبر مطابق للإله إنليل السومري، وان آشور هو الزعيم المطلق على جميع الآلهة الاخرى، ويبدو أن التوفيق بين آشور وإنليل قد حدث في العهد الآشوري القديم تحت حكم شمسي-أدد (Šamsi-Adad) الأول حوالي(1807-1775) ق.م، ومن أجل تعزيز سلطته السياسية تم دعم عبادة الإله آشور والترويج له في مدينة أشور باسم (نيبور الجديدة) (Nippur) في أعالي بلاد الرافدين، وفقا للباحث (Parpola) اتخذت عبادة آشور كنوع من التوحيد، خاصة خلال العصر الآشوري الحديث، عندما ظهر هذا الإله ككائن كلي الوجود وقادر على تقزيم كل الآلهة الأخرى، وهذا الاتجاه في التوحيد في الديانة الآشورية بدأ في عصر الحديد (900) ق.م، وربما كان له تأثير طويل المدى على تشكيل دين التوحيد في الديانتين اليهودية والمسيحية، وقد استندت عبادة آشور في مدينة آشور المقدسة التي تحمل نفس اسم الإله، وظلت مدينة آشور المركز الديني للبلاد حتى زوال الإمبراطورية الآشورية في نهاية القرن السابع ق.م.
وفي عهد آشور-ناصر-بال أو (أشور-ناصر-أبلي) (Aššur-naşir-apli) (883-859) ق.م تم نقل العاصمة إلى نمرود (كالخو القديمة) (Kalḫu) مع هذا بقي المفهوم الآشوري قائما بان الملكية الحقيقية تنتمي إلى الإله أشور، وأن الملك فاني وهو رئيس الكهنة، وان الإله آشور هو الحاكم الحقيقي للبلاد، وهذا الامر واضح في مقاطع من طقوس التتويج الآشورية في العصر الآشوري الوسيط والعصر الآشوري الحديث حيث كان يطلب من الحاضرين في احتفال التتويج أن يقولو: (أشور ملك، أشور ملك) (Aššur is king. Aššur is king)، ولذلك استخدم الملوك الآشوريون ألقاب مثل وكلوم (Waklum) بمعنى (المشرف)، أو الرباوم (Rubā'um) بمعنى (العظيم)، ولكن في العصر الآشوري الوسيط بدأوا في استخدام لقب شاروم (šarrum) بمعنى (الملك) وكان هذا التغير في اللقب جاء نتيجة لتوسع دولتهم واصبحوا القوة السياسية والعسكرية في الشرق الأدنى القديم، ومع ذلك لم يغير هذا التحول العلاقة بين الإله آشور والملك الآشوري في القرون اللاحقة و أهم شيء على الملك واجب رعاية الإله .
لقد أصبح الملك الآشوري همزة الوصل الرئيسية بين الإله ورعاياه الفانين، علاوة على ذلك من (1200) ق.م فصاعدا كان على الناس من مختلف شرائح المجتمع الآشوري بما فيهم الملك، والنخبة الإدارية، ارسال بعض منتجاتهم الزراعية إلى معبد آشور لاستخدامها كجزء من عروض الطعام اليومية التي تقدم إلى تمثال الإله، والتي تسمى جناو (ginā'u)، وبهذه الطريقة شاركت الدولة بأكملها في خدمة (الإله / الملك الأعلى)، وكان هذا العمل الجماعي المهم محوريا في بناء هوية المجتمع الآشوري من أواخر الألفية الثانية ق.م وحتى سقوط الإمبراطورية (612) ق.م.
الهوية الدينية في الأختام الآشورية 1-2212
توضح النقوش على الأختام والمنحوتات الآشورية من العهد الآشوري الوسيط استخدام مواضيع دينية ولكن بشكل أقل بكثير من نظرائهم الكاشيين في بابل، ومن المثير للاهتمام أيضا أنه في المجموعة الصغيرة من الأختام وطبعات الأختام التي وصلتنا وكانت ذات محتوى ديني لم تظهر فيها عبادة الإله آشور وفي مستوى يتناسب مع أهميته في دين الدولة الآشورية، وبدلا من ذلك بدا بالظهور الآلهة الآخرى في البانثيون الاشوري مثل إنكي، وكولا (Gula)، فقد كانوا موضع تقديس شخصي لاصحاب الاختام الآشوريين وتم تصويرهم في الفنون ومنها الاختام والالواح الجدارية.
قدمت الأختام الآشورية من العهد الوسيط على سبيل المثال وبشكل عام أسماء المالكين / أو الوراثة / أو الانتماءات المهنية / والمؤسسية، ولا يوجد سوى نقش واحد على ختم يتجاوز هذه الصيغة البسيطة بنص تعبدى مفصل، كما في الختم البلوري الصخري (Crystal) العائد للكاتب آشور-شومي-أصبات (Aššur-šumi-aşbat)، الذي يرجع تاريخه إلى عهد تجلاتبليزر الأول (Tiglath-pileser) (1114-1076) ق.م، فقد نحت مشهد رائع بين أسد هائج وبطل ذو شعر غزير في الذقن والرأس (دليل الرجولة والقوة) وهذه السمة معروفة كطراز آشوري في المنحوتات الجدارية، ويرتدي البطل ثوب طويل يصل إلى اخمص القدم مع شراشيب، ويحمل سيف اشوري باليد اليسرى، ويمسك قدم وعل (ibex) جبلي باليد اليمنى، وهو داخل في صراع مع الأسد الهائج الذي يضرب بمخالب قدمه اليمنى رقبة الوعل ويرفع مخالب قدمه اليسرى الأمامية موجها ضربة اخرى، والبطلان يتقاتلان على وعل ذكر يقف على جبل صغير في المنتصف بين الاثنين، وهناك ثمانية أسطر نقشت حول الختم وهي فريدة من نوعها: (بأمر من نابو(Nabû)، وريث إيكور (Ekur) العظيم، ما دمت على قيد الحياة، أنا سأكون بارا، وانا مخلص، ومخلص قبل أن أدخل القصر، أتمنى أن تكون خطواتي في أمان، ختم أشور-شومي-أصبات، الكاتب، ابن رباتي (Rībāte)، الكاتب الملكي)، إن الصلاة في هذا النص مع تمجيده للإله نابو متبوعا بدعوة المؤمن بالبر والاخلاص يشبه ما نقش على الأختام من الطراز الكاشي (Kassite) من بابل .

بقلم:الأستاذ الدكتور صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم