مرض العنصرية الأفريقية البيضاء في البلدان المغاربية
أمراض ثقافة العنصرية التي تظهر في سلوك وخطاب بلدان شمال أفريقيا هي من إنتاج شبكة من المؤسسات الأيديولوجية وعلى رأسها المدرسة والخطاب الديني المتطرف (أ ف ب)
لم يجد المواطن من رحمة سوى في "حلم الهجرة" هرباً من كابوس استقلال ليس أقل ظلماً من استعمار البارحة؟
بكثير من المرارة الجارحة يصرح أحد المهاجرين غير الشرعيين وهو يخرج حياً من مغامرة الموت بعد أن عبر المتوسط آتياً من شواطئ تونس، وقد وضع قدميه على تراب جزيرة لامبيدوزا الإيطالية "إن العنصرية موجودة في بلدان شمال أفريقيا وليست في البلدان الأوروبية؟".
نعم، هذه العبارة تجعلنا نفكر جيداً، وبعمق، في غياب "الضيافة" وانتفاء معنى "الضيف" والخوف من الآخر حتى ولو كان منا، من قارتنا نفسها، من أفريقيا، والخوف من الآخر الذي هو جزء منا، ونهاية فلسفة "الضيافة" ليس نتاج أزمة اقتصادية فقط لكن جذورها أبعد من ذلك.
إن الهجرات والنزوحات البشرية الأفريقية التي حدثت وتحدث في القارة خلال العشريتين الأخيرتين، وما نتج من ذلك من عنف وتهجير وترحيل وقتل وبيع وشراء، تجعلنا نتساءل: هل بالفعل شعوبنا المغاربية معافاة من وباء العنصرية بخاصة تجاه الأفريقي ذي البشرة السوداء؟
أمام ما يجري تحت الكاميرات وعلى المباشر، يطرح علينا سؤال غريب لكنه جوهري وفلسفي: هل نسي المغاربيون بأنهم أفارقة؟
ويجعلنا أيضاً أمام سؤال آخر: هل نسي مغاربيو شمال أفريقيا، وهم يعاملون الأفارقة السود، بمثل هذه الوحشية ما عانوه من وحشية عنصرية أوروبا في شمال الشمال؟
هل الشمال عنصري دائماً حيال أهل الجنوب؟ الجنوب نسبي والشمال نسبي أيضاً.
لقد كتبت الرواية فصولاً كثيرة من محنة العنصرية التي عاناها المهاجر المغاربي في فرنسا بشكل خاص، فمن رواية "الماضي البسيط" لإدريس الشرايبي مروراً برواية "ضربة شمس" لرشيد بوجدرة وصولاً إلى مسرحية "محمد خذ حقيبتك" لكاتب ياسين، وغيرها من النصوص الخالدة في السردية الروائية المغاربية باللغتين العربية والفرنسية، ومثل هذا العمل قامت به السينما أيضاً بكثير من الذكاء والعبقرية، ويمكن الإشارة إلى أفلام الأخضر حامينا ومرزاق علواش وغيرهما، ولم تتأخر الأغنية عن طرح هذه العنصرية من أغاني الشيخة الريميتي إلى أغنية الفنان المغربي عبدالوهاب الدكالي "مانبارناس" وهي واحدة من الأغاني الخالدة التي عبرت بقوة عن هذه العنصرية التي تصل إلى حد القتل والاعتداءات الجسدية.
خلال قرن من الزمن أو أكثر، كانت نخب شمال أفريقيا على اختلاف حساسياتها السياسية والفكرية واللغوية لا تتوقف عن إدانة العنصرية التي يعيشها العمال المهاجرون في أوروبا وبالأساس في فرنسا، السياسيون والمثقفون والجامعيون والفنانون والإعلاميون دانوا وكتبوا ضد هذا التصرف العنصري الهمجي اللاإنساني.
لا توجد عائلة مغاربية واحدة لم يكن يوماً أحد أفرادها ضحية العنصرية الأوروبية، حتى أصبح المواطن البسيط يعتقد أن جينات الرجل الأبيض فيها شيء من هذه العنصرية، وأمام عنصرية الرجل الأبيض الأوروبي كان المغاربي، حتى وإن كان لون بشرته أبيض فاقعاً، فإنه يراها سمراء بل سوداء في حضرة بياض بشرة الرجل الأوروبي العنصري.
نصف قرن بعد استقلال بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، نصف قرن من الاستقلال المليء بالانقلابات وتعاقب الأنظمة العسكرية الفاسدة في هذه البلدان، نصف قرن من الحروب الأهلية والقبلية، التي خاتمتها وصول "القاعدة" و"داعش" وشباب الصومال وغيرها من التنظيمات الإرهابية الإسلامية إلى هذه المنطقة ومعها عادت وبقوة أسواق النخاسة المكشوفة.
وفي ظل هذه الفتن التي أنتجتها الأنظمة الأفريقية العسكرية التي أممت الاستقلال لصالح مجموعات مستفيدة وفاسدة، لم يجد المواطن الأفريقي من رحمة سوى في "حلم الهجرة" هرباً من كابوس استقلال ليس أقل ظلماً من استعمار البارحة؟
يدفع آلاف من المواطنين الفقراء الأفارقة ما قد يجمعونه خلال سنوات، من بعض الدولارات للمهربين وتجار البشر، على أمل الوصول إلى شمال القارة، إلى بيت إخوانهم في الشمال كمرحلة أولى في اتجاه شمال الشمال، أوروبا؟
بيت الإخوان أم بيت جهنم؟
يموت كثيرون في الطريق، ويباع كثيرون كقطعان الأغنام في المعسكرات والمحتشدات والأسواق، ينتقلون من ملكية من يد إلى يد أخرى، وتغتصب البنات والنساء من دون ضمير ولا رادع، وتحملن وتلدن خلال مسيرة محنة حلم الوصول إلى الشمال.
يكتشف الأفريقي الهارب من جحيم بلده جنوب الصحراء أن الشمال هو شمالان، شمال أفريقي وشمال أوروبي؟ ويكتشف أيضاً أن في كلا الشمالين لا يختلف السوط الذي ينهال على الجسد، وقد تختلف اللغة لكنها تحمل شحنات الكراهية والعنصرية نفسها.
يتساءل المتابع لفصول جحيم ما يعانيه أفارقة بلدان جنوب الصحراء من إخوانهم في بلدان شمال القارة: هل تعلم هؤلاء الأفارقة البيض، أي أفارقة شمال أفريقيا، درس العنصرية مما ذاقوه من فنون مطبخ العنصرية الفرنسية والأوروبية؟
هل العنصرية لونها أبيض؟ العنصرية لا لون لها، ولكنها في حال أفريقيا، بين شمالها وجنوبها، يلعب لون البشرة دوراً كبيراً في ذلك فهو حطبها ووقودها.
من أي عشب يرتع وحش العنصرية ومن أي مصدر يأخذ بعض وقوده؟ للأسف فمثل هذه الثقافة العنصرية قد نجدها في المخيال الثقافي الشعبي الجمعي، الذي يربط بين العبد والرجل ذي البشرة السوداء، فبعض هذا السلوك العنصري له حضور في الثقافة التراثية السلفية، إذ لا يزال كثيرون من الأئمة والدعاة على قنوات تلفزيونية وعلى "يوتيوب" وعلى وسائط التواصل الاجتماعية المختلفة وعلى منابر المساجد المكيفة ينتجون خطابات يتحدثون فيها، ونحن في القرن الـ21، عن الأمة والعبد والسبي والفتوحات وما إلى ذلك من المفاهيم الغريبة عن زمننا الحاضر، زمن حقوق الإنسان والمواطنة.
للأسف لا أحد ينكر أن محيطنا الراهن المتطرف والبعيد من أخلاق الدين الحنيف الذي عرفه آباؤنا ومارسه أجدادنا، يغذي بعض أفكار العنصرية العرقية ضد الأسود والعنصرية الجنسية ضد المرأة والعنصرية العقائدية ضد اليهودي.
انطلاقاً من هذا المخيال الشعبي الجمعي المريض، يبدو وكأن هناك ما يشبه التسامح مع ما نشاهده من عنصرية تجاه الأفارقة السود حين يحلون بالشمال الأفريقي، وتحتفظ الذاكرة الإنسانية بمناظر مرعبة لقوافل الأفارقة السود وهم يقتادون كالقطيع، نساء ورجالاً وأطفالاً، في ليبيا، من محتشد إلى آخر في غياب كل قيم إنسانية وأخلاقية، والأمر نفسه ما يعيشه أفارقة مهاجرون غير شرعيين في تونس، وبمدينة صفاقس وغيرها، ووصل ببعضهم أن صرح قائلاً "إن هؤلاء الأفارقة السود يمارسون تشويه البنية الحضارية والبشرية لتونس"، وما شاهدناه أيضاً في حال الأفارقة الوافدين على المغرب من تلك المناظر المتوحشة وهم يتسلقون السياج الفاصل ما بين المغرب وسبتة الإسبانية، وكيفية التعامل معهم بما يشبه التعامل مع الوحوش، بل أفظع.
وفي كل مرة يحاول الخطاب المغاربي التبريري للعنصرية تفسير هذا التصرف ضد الأفارقة القادمين من بلدان جنوب الصحراء بالقول إنهم مهاجرون دخلوا البلاد بطريقة غير شرعية، ووجودهم غير شرعي في البلد.
إن أمراض ثقافة العنصرية التي تظهر في سلوك وخطاب بلدان شمال أفريقيا هي من إنتاج شبكة من المؤسسات الأيديولوجية وعلى رأسها المدرسة والخطاب الديني المتطرف وخطاب بعض الأحزاب التي تنتمي إلى اليمين المتطرف والإعلام المهووس بالفضائح.
أمين الزاوي كاتب ومفكر