الملكة تينهينان… شمسُ الطّوارق التي لم تغرُب بعدُ!



الملكة تينهينان… شمسُ الطّوارق التي لم تغرُب بعدُ! 1828


ساهمتْ تينهينان في الدّفع بقدرة النّساء على أن يتدخّلن في الشؤون العامة للمجتمع الطارقي، وأن يُسيطرن على التّجمعات القبلية. ويتجلّى ذلك بوضُوح في قدرتهنّ، كما يُحكى، على مناقشة وإدارة دفّة الحرب والسّلم؛ وحتّى حين يُنتخبُ رجلٌ على رأس القبيلة، فما هو إلاّ ممثّل للملكة تينهينان.
الحديثُ عن المَلِكة تينهينان كالحَديثِ عن الأسطُورة. لم يحدد الرواة على مرّ التاريخ لا سنة ميلادها ولا حتّى متى ترجّلت عن صهوة الحياة.
كل ما نعرفهُ ونجدهُ في كتبِ التّاريخ، أنها الأمّ الروحية للطوارق، وأنّها رأس قبائلهم، إذ حكمت في القرن الخامس الميلادي، وكان يرجع إليها القوم أمرهم داخل “المجتمع” الطارقي، الذي لازال يستمدّ السلطة حتى الآن من حِكمة المرأة.
تذهبُ الرواية المتوارثة إلى القول بأنّ والدها قرر تزويجها بأمير إفريقي غصباً، فأعلنت رفضها وثورتها، ثم ولّت وجهها هاربةً على رأس مجموعة من الجنود بصحبة خادمتها، والتي اعتبرتها ثُلّةٌ من الروايات أختها، “تاكامات” صوب ضواحي تمنراست. ولكن
على ما يبدو، لم يكن أحدٌ من النّاس، وقتذاك، يعي أن هذه الطّريدة المذعورة، والمرأة الهاربة بحثاً عن السّلام والحُرّية، ستغدو ذات شأن عظيم، وسيُنصفها التاريخ، لكي تبحث مرايانا في سيرتها!
تقُصّ الحكاية أن السفر من تافيلالت بالجنوب الشرقي للمغرِب الأقصى، كان على متن ناقة بيضاء. لذَلك سُمّيت تينهينان بـ”صاحبة الناقة البيضاء.
طالت تلك الرّحلة من تافيلالتْ بالرّكب، و”كادَ يهلَكُ جوعاً وعطشاً في “بِيد دونَها بيد”؛ وفي فيافي خالية، لا تَعْوي بها غير الرياح؛ لولا أن الخَادمة تفطّنت إلى مملكة نمل تسيرُ في وجهتها، محمّلة بما تختزنه لشتائها”، على حد تعبير الباحث رمضان مصباح الإدريسي.
أمرت تينهينان القافلة بالسير عكس اتّجاه النمل، حتى وصلوا إلى جبال “هقار” في أقصى الجنوب الجزائري، حيثُ عثَروا على المياه والطعام، فاستقرت هناك وتمكّنت أن تنتزعَ ودّ الساكنة، لحصافتها وحنكتها وحُسنها، ولتبدأَ بتشييد نواة مملكتها الجديدة.
سرعان ما أصبحت أول ملكة من سكان الصحراء، وبسطتْ مُلكها على من باتوا يُعرفون باسم الطوارق.
كانت مملكةُ تينهينان تمتدّ من صحراء ليبيا إلى التشاد، ومن الجزائر إلى مالي، ومن النيجر إلى موريتانيا، وهو ما يعادل مساحة ثلث القارة الأفريقية؛ وتنحدر من مملكتها جل قبائل الطّوارق الموجُودة حالياً.
عُرف عنها كونها صاحبةُ حكمةٍ ودهاء، فأدخلت تقاليد جديدة على مملكتها، لاسيما العمل وتخزين الخيرات لوقت الشّدة، والاستعداد الدائم “لقهر الغزاة القادمين من الشّرق!
كانت ملكة متفردة، فالأساطير والآثار أثبتت أنها كانت تدافع عن أرضها وشعبها ضد الغزاة الآخرين من قبائل النيجر وموريتانيا الحالية وتشاد. وقد عرف عنها أنها صاحبة حكمة ودهاء، نصبت ملكة بسبب إمكانياتها وقدراتها الخارقة للعادة”، هكذا تحدّث عنها عبد الله هسوف، في كتابه “الأمازيغ: قصة شعب.
اسم تينهينان، وفق المرويّات، مركّب من جزأين: “تين” و”هينان”، وهي لفظة من لغة “التاماهاك”، تعني “ناصِبةُ الخيام”، هذا ما دفع المؤرخين إلى الاعتقاد بأنّها أن كانتْ كثيرةُ السّفر والتّرحَال.
أكثَر من ذلك، يُقال إنها ساهمتْ في الدّفع بقدرة النّساء على أن يتدخّلن في الشؤون العامة للمجتمع الطارقي، وأن يُسيطرن على التّجمعات القبلية. ويتجلّى ذلك بوضُوح في قدرتهنّ، كما يُحكى، على مناقشة وإدارة دفّة الحرب والسّلم؛ وحتّى حين يُنتخبُ رجلٌ على رأس القبيلة، فما هو إلاّ ممثّل للملكة تينهينان.
كان المجتمع الطارقي أميسيّا، يأخذُ فيه الرّجال والنساء نسبهم من الأم وليس من الأب، وكان هذا السببُ كافياً ومنطقياً لتعتَبرَها الدّراسات التّاريخية أمًّا روحيةً للطوارق.
كانت التّجارة، بدورها، من الأشياء التي كانت في صلب اهتمام الملكة الأمازيغية، إذ أقامت علاقَات مع قبائل جنوب الصّحراء، ما عضّد استمرار مملكتها وضمان بقائها على قيدِ الحياة.
أضِف إلى ذلك، أنّ مُجوهرات الحلي والإكسسوارات الفضية أو المذهّبة التي ترتديها نساء الأمازيغ، إلى اليوم، كانَت مستمدّة من أذواق تينهينان، وفق بعض المراجع.
تزوجت تينهينان وأنجبت أولاداً وبناتاً أشهرهم “أهقار”، الذي تنسُبُ له المحكياتُ أصل ارتداء اللثام من طرف رجال الطّوارق، بسبب هروبِهِ من إحدى المعارك. وهو في طريقِ العودة، أحسّ بندمٍ شديدٍ بعد أن تنبّه أن ذلك الصّنيع لا يليقُ بقائدِ جيش وابن الملكة تينهينان، “فبقي مُرابطاً بجيشهِ على مشارف الدّيار مدّة شهر كامل لا يستطيع الدّخول مخافةَ ملامة النسوة له. ولمّا طال بهم الحالُ ونفد ما معهم من زاد، وجدوا أنفسهم مجبرين على دخول الدّيار، فما كان من القائد سوى أن يغطّي وجههُ الذي يحملُ ملامح العار وكذلك فعل بقية جنده، وبقوا على تلك الحال طيلة حياتهم، وكذلك فعل من جاء بعدهم، حتّى أصبح الأمرُ تقليداً مفروضاً إلى يومنا هذا”، كما يقولُ عبد الله هسوف.
المؤرخ ابن خلدون، لمّا تحدّث عن الطّوارق، وصفهم بأنهم “أبناء تيسكي”، ويعني أبناء المرأة العرجاء، وهذا يتطابق مع ما توصلت إليه أبحاث الحُفريات، التي أفادت أن تينهينان كانت عرجاء.
قالت الكثير من الرّوايات أن تينهينان كانت مسلمة؛ لكن الكشف عن بقايا جثّتها أظهر طريقةً في الدفن تتعارض مع الطريقة الإسلامية “الصّارمة”، حيثُ وُجدَت جثتها ملقاة على ظهرها، ويتوجه وجهها نحو الشّرق على لوح خشبي، بينما الكيفية الإسلامية، وفق المذاهب الأربعة، كانت تحثّ أن بعد دُخول الميّت القبر، يُوضع على شقه الأيمن استحبابًا، ويجب أن يوجَّه وجهُه إلى القبلة.
بالمناسبة، لم يُعرف المكان الذي دفنتْ فيه الملكة تينهينان إلا في سنة 1925، من طرف بعثة فرنسية أميركية مشتركة في “أباليسا” بالهقار، جنوب الجزائر.
هيكلها بيّن أنها كانت امرأة طويلة ورشيقة، وأنها كانت عريضة الأكتاف وذات ساقين نحيفين. ويستعرض متحف باردو في الجزائر قبر الملكة ومجوهراتها وحتى هيكلها العظمي.
كما عُثر، بجانب الهيكل الخاص بالملكة تينهينان، على جملةٍ من التّحف الثمينة والمجوهرات النّادرة. تمّ نقلُها إلى الوِلايات المتّحدة بغَرض العَرض، لمدّة خمس سنوات، قبل أن تعود ثانية إلى الجزائر وتُعرض بذات المتحف، أي “باردو.
ظلت تينهينان بمثابة شمس لا تغربُ إطلاقاً بالنّسبة للطّوارق، فمن الصّعب بمكان، إن لم نقُل من المُستحيل، أن تجد طارقياً لا يعرفُ سيرتها وقِصّتها… وإلى اليوم، يتمّ تكريمُ تينهينان، عبر الاحتفال بمهرجان يحمل اسمها في الجزائر. ولكن
الأمر الأجدر أن يُحتَفَى بِه، ربّما هو
إيقاف تزويج الإناث بالغَصب في تافيلالت، الذي يستمرّ إلى اليَوم بالجنُوب الشرقي، والذي ثارت من أجله تينهينان منذ أزيد من خمسةَ عشر قرناً
خليفي عبد القادر، طوارق الجزائر: الخصوصيات الأنثروبولوجية و السوسيوثقافية




https://marayana.com/laune/2021/03/31/27848/