مطماطة التونسية القرية المحافظة للتراث الأمازيغي
مطماطة التونسية القرية  المحافظة للتراث الأمازيغي  1----205
تونس ـ «القدس العربي»: مطماطة هي القرية التونسية العجيبة التي نحتها الأمازيغ منذ العصور الغابرة في صخور الجبال فتميزت عن باقي مدن وقرى البلاد بطابع خاص وكانت استثناء بكل ما للكلمة من معنى. فإذا كانت مدن تونس العاصمة والقيروان والمهدية وغيرها تؤكد على عروبة الخضراء من خلال معمارها وهوية بناة أهم معالمها وأصول ساكنتها، فإن مطماطة تذكر التونسيين وغير التونسيين باستمرار بالموروث الأمازيغي لهذه البلاد والذي يعتبر مكونا هاما من مكونات الهوية التونسية لا يمكن تجاهله.
تقع مطماطة في الجنوب الشرقي للبلاد التونسية وسط سلسلة جبال مطماطة الصحراوية، وهي تابعة إداريا لولاية قابس التي تتميز بمناخها الرطب والجاف والحار جدا في فصل الصيف بالنظر إلى قربها من الأقاليم الصحراوية التي هي جزء من الصحراء الكبرى الأفريقية. وتبعد مطماطة حوالي 450 كيلومترا عن مدينة تونس العاصمة، و60 كيلومترا عن مدينة مدنين مركز ولاية مدنين المجاورة، و43 كيلومترا عن خليج قابس وهو أقرب نقطة إلى البحر الأبيض المتوسط بالنسبة لمطماطة.
مكيفات طبيعية
البيوت المحفورة في الجبال تقي السكان من حرارة الصيف إذ تتحول إلى مكيفات طبيعية خلال هذا الفصل شديد الحرارة في تلك الربوع القاسية، كما تقيهم من برد الشتاء باعتبارها تتحول في هذا الفصل القارس إلى مكان دافئ بصورة طبيعية ومن دون سخانات. كما أن تلك البيوت مثلت مكانا ملائما لاحتفاظ السكان الأمازيغ في الجنوب التونسي بعاداتهم وتقاليدهم ولاعتزالهم لمحيطهم الذي تدفق عليه عرب الجزيرة سواء أثناء الفتح الإسلامي في القرن الأول للهجرة، أو خلال هجرة قبائل بني هلال وبني سليم إلى المنطقة طمعا في أراضيها الخصبة وخيراتها الفلاحية.
مطماطة التونسية القرية  المحافظة للتراث الأمازيغي  1----659
ويتشكل البيت في مطماطة من حفرة كبيرة واسعة، أرضيتها المنبسطة هي فناء البيت أو ساحته التي تطل عليها غرف محفورة في الصخر تحيط بهذا الفناء من كل الجهات. ويتم الولوج إلى البيت من الأعلى من خلال درج، أو سلم في أسفله يقع الباب المؤدي إلى الفناء في هندسة عجيبة تختلف حتى عن باقي المباني الأمازيغية سواء تلك الواقعة في تمزرت أو في تطاوين وسائر ولايات الجنوب أو في تكرونة بولاية سوسة وغيرها من القرى الأمازيغية التونسية.
ويتكون البيت المطماطي أيضا من طابقين، واحد علوي يتم فيه تخزين المؤن ومختلف المواد الغذائية، وآخر سفلي للإقامة والسكن ويضم المطبخ والحمام وغرف النوم وغرفة الجلوس ذات الأثاث البسيط والجميل في الآن نفسه. ويطغى اللون البني على البيت، وهو لون الأرض، بالإضافة إلى اللون الأبيض، وهو الطلاء الذي يدهن به السكان بيوتهم التي تضم تحفا فنية واكسسوارات قديمة وتقليدية من التراث الأمازيغي الذي توارثته الأجيال على تلك الأرض التي أبت أن تذوب في الآخر وتفقد مكونات هويتها.
وقد تحولت بعض هذه المنازل في مطماطة إلى فنادق لإيواء زوار الجنوب التونسي من الراغبين في الإطلاع على العادات والتقاليد الأمازيغية والتعرف على خصوصيات المنطقة الفريدة من نوعها في محيطها التونسي وحتى الشمال أفريقي باعتبار انتشار الأمازيغ في المنطقة الممتدة من واحة سيوة في مصر إلى المحيط الأطلسي في جزر الكناري الإسبانية وكذلك في بلدان أفريقية غير مغاربية على غرار مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد. كما تم تصوير مشاهد من سلسلة أفلام حرب النجوم الأمريكية في تلك الربوع وفي تطاوين القريبة، فبدا للمُشاهد لتلك الأفلام وكأن مطماطة تقع في كوكب آخر، قصي عن الأرض، وتقطنها كائنات أخرى، ولم يخطر على بال أحد أن تلك المشاهد تقع في الجنوب التونسي إلا أهل البلاد أنفسهم.
مطماطة التونسية القرية  المحافظة للتراث الأمازيغي  1----660
ورغم محاولات دولة الاستقلال توطين سكان مطماطة في منازل عصرية في قرى جديدة قامت بإنشائها على غرار مدينة مطماطة الجديدة، إلا أن نسبة هامة من السكان الأمازيغ فضلوا البقاء في بيوتهم المنحوتة في صخور الجبال التي توارثوها عن الآباء والأجداد. إذ بدا وكأن الأصالة تغلبت على الحداثة لدى هؤلاء، وأن تلك الغرف الجبلية البسيطة في شكلها هي في وجدان أصحابها دليل انتماء وعراقة ضاربة جذورها في أعماق التاريخ لا يمكن الاستغناء عنها بالسهولة التي يتصورها البعض.
قبيلة أمازيغية
ويرجع البعض تسمية مطماطة إلى قبيلة أمازيغية استوطنت تلك الأرض ونحتت بيوتها في تلك الشعاب الوعرة لتحتفظ بتقاليدها ولغتها في خضم التمدد العربي واستيطانه للإقليم والأقاليم المجاورة. كما يؤكد البعض على أن إسم مطماطة بالأمازيغي هو «أثوب» ويعني موطن السعادة، رغم أن هذه الفرضية لا تبدو مقنعة للكثيرين وأغلب الظن أن الفرضية الأولى هي الصحيحة وأن مطماطة هي فعلا إسم قبيلة أمازيغية لها امتداداتها في مناطق أخرى من الجنوب التونسي وفي الغرب الليبي وحتى في باقي البلاد المغاربية.
ويُروى أن سكان تلك الربوع من الأمازيغ وغيرهم، لم يندمجوا كما يجب في جمهورية قرطاج التي امتدت، في وقت ما خلال القرن السابع قبل الميلاد، من سواحل خليج سرت في ليبيا إلى طنجة شمال المغرب، بالإضافة إلى جزر كريت ومالطا وصقلية وسردينيا وكورسيكا وشبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) وجنوبي فرنسا وإيطاليا، وذلك قبل أن يبدأ نفوذها في الانحسار لتنتهي بسقوط مدينة قرطاج عاصمة الدولة قرب تونس العاصمة اليوم. كما أن سكان تلك الربوع لم يندمجوا كما يجب مع الرومان الذين أسقطوا قرطاج بمساعدة مملكة نوميديا الأمازيغية التي ظهرت بعد قرون من وجود القرطاجيين. فباقي الأمازيغ وخلافا لنوميديا والغادر ماسينيسا لم يستسيغوا التواجد الروماني في المنطقة وسعوا إلى مقاومته بكل الوسائل الممكنة وبرزت حركات مقاومة رفضت الخضوع لعملية رومنة الشمال الإفريقي.
مطماطة التونسية القرية  المحافظة للتراث الأمازيغي  1----206
كما حافظ سكان تلك الربوع المناضلة على عاداتهم وتقاليدهم رغم اكتساح العرب الفاتحين للمنطقة، فأخذوا الإسلام دون غيره عن الوافدين الجدد وحافظوا على لغتهم إلى جانب اضطرارهم لتعلم العربية لفهم القرآن ومعانيه. ورغم العدد اللافت من السلالات العربية والأمازيغية التي حكمت تونس بعد الفتح الإسلامي مثل الأغالبة والفاطميين والصنهاجيين والحفصيين، ورغم قدوم قوميات أخرى إلى البلد مثل الأندلسيين والأتراك وشعوب القوقاز والبلقان، الذين جلبهم العثمانيون في جيشهم الإنكشاري، فقد حافظ أهل مطماطة على لغتهم الأمازيغية التي يسمونها «الشلحة» وذلك رغم إتقانهم للهجة العامية التونسية التي هي مزيج بين العربية والكنعانية القرطاجية.
لكن يبدو أن هذه اللغة الأمازيغية العريقة والضاربة في القدم بدأت تندثر في صفوف الأجيال الجديدة من أهل مطماطة خصوصا أولئك الذين ولدوا في المدن الكبرى أو الذين انتقلوا إليها مع آبائهم وهم في سن الطفولة. فبعض هؤلاء يحفظ القليل من المفردات لا غير من والديه، وبعضهم الآخر بات غريبا تماما في حضرة لغته الأم التي نطق بها أجداده لقرون طويلة ولا يفهم أهم مفرداتها ومعانيها.
وللإشارة فقد هرب الكثير من سكان قابس أثناء الحرب العالمية الثانية إلى مطماطة واحتموا بكهوفها وجبالها باعتبار أن قابس كانت ساحة للمعركة الحاسمة بين قوات المحور بقيادة الجنرال الألماني رومل والحلفاء بقيادة الجنرال البريطاني مونتغمري. كما ساهم سكان مطماطة في دحر الاستعمار الفرنسي عن أرضهم وانخرطوا في المقاومة الشعبية للمستعمر شأنهم شأن القبائل العربية في الولايات الجنوبية على غرار بني زيد في قابس والمرازيق في قبلي وغيرهم.
مطماطة التونسية القرية  المحافظة للتراث الأمازيغي  1----661
الكنز الثمين
ينشط سكان مطماطة في القطاع الفلاحي وذلك رغم الظروف المناخية الصعبة وندرة التساقطات في ذلك المكان والتي تؤثر سلبا على هذا النشاط القديم قدم الحضارات على الأرض التونسية. كما ينشط سكانها في القطاع السياحي والصناعات التقليدية الخاصة بالتراث الأمازيغي للقرية وفي الأنشطة الموازية التي خلقها القطاع السياحي وتواجد النزل السياحية التي يقصدها الزوار من التونسيين وغيرهم.
فخلال العطل المدرسية تتقاطر على مطماطة العائلات التونسية الباحثة عن مخزون ثقافي وحضاري يميز البلاد بعيدا عن السياحة التقليدية على شواطئ البحار حيث السباحة والألعاب المائية وحمامات الشمس. فالغرف المحفورة في أديم الأرض والأنفاق الرابطة بينها تستهوي هواة المغامرات والباحثين عن استكشاف المجهول خاصة وأن زائر مطماطة بإمكانه التوغل في أعماق الصحراء حيث الكثبان الرملية العالية والواحات وبإمكانه زيارة قصور تطاوين غير البعيدة، وأيضا جزيرة جربة سواء عبر الجسر أو العبارة.
كما بإمكان زائر مطماطة الاستمتاع بالمعمار الفريد لقلعة قصر جمعة الشامخة التي تعتبر إلى جانب البيوت المشار إليها أهم معالم قرية مطماطة التي صمدت على مر العصور حافظة لتراث الأمازيغ وأسرارهم من الغزاة القادمين من كل حدب وصوب. وكأن هذه القلعة الشامخة هي الحارس الأمين لهذا التراث الأمازيغي أو أنها من تختزل ذاكرة هذا المكون الرئيسي من مكونات هذا الشعب الذي رفض الذوبان والإنصهار ومحو ميراث الآباء الأجداد لكل مكون من مكوناته.
مطماطة التونسية القرية  المحافظة للتراث الأمازيغي  1----662
يبدو للزائر وكأن سكان مطماطة وجدوا ضالتهم في تضاريس قريتهم وهندسة بيوتهم لإخفاء موروثهم الثقافي والحضاري عن الغزاة والعابرين حذوها والراغبين في طمس هذا الموروث واستهدافه. وكأن هؤلاء الغزاة مروا من أمامها ولم ينتبهوا إلى وجودها بعد أن أحسن أهلها الإختباء وإخفاء كنزهم الثمين عن هؤلاء الغزاة الذين عرفتهم مختلف الحقب التاريخية التي مرت بها البلاد التونسية.
إمكانيات واعدة
ويرى وليد العزوزي وهو من محيط مطماطة التي غادرها آباؤه للاستقرار في العاصمة قبل ولادته وحافظ على زيارة موطنه في العطل المدرسية والأعياد للقاء أصول والديه وأعمامه وأخواله وأبنائهم، أنه يشعر ببعض الحزن والأسى أنه لم يتعلم اللغة الأمازيغية كما يجب خلافا لأبناء عمومته الذين كان يجد صعوبة في التواصل معهم في مرحلة الطفولة. ويؤكد على أن الإنفتاح على الآخر والإندماج في الوطن لا يعني بالضرورة التخلي على الموروث الثقافي والحضاري الذي نجحت مطماطة والقرى الأمازيغية المحيطة بها في الحفاظ عليه رغم مرور كل هذه السنوات.
ويضيف محدثنا قائلا: «إن مطماطة وتمزرت وقرى أخرى هي متاحف حية لحياة الأمازيغ في تونس وفي ربوع الشمال الأفريقي لكن هناك تقصيرا في التعريف بها من قبل الدولة التي وجهت كل إمكانياتها إلى السياحة الشاطئية. فزوار مطماطة هم المارون منها باتجاه الصحراء أو جزيرة جربة فيضطرون لقضاء يوم وليلة يزورون خلالها هذه البيوت العجيبة في حين أن المطلوب هو قضاء أيام أطول وذلك بخلق أنشطة جديدة وإدخال تحسينات على الفنادق والترفيع في طاقة إيوائها».
مطماطة التونسية القرية  المحافظة للتراث الأمازيغي  1----663
فكم مدينة بحسب العزوزي بعيدة عن البحر، ورغم ذلك ازدهرت فيها السياحة ونمت بشكل لافت حتى اشتهرت عالميا وصار قدوم الزوار إليها بديهيا وبدون تخطيط وهو ما ساهم في تشغيل اليد العاملة واستقرارها دون الحاجة إلى النزوح إلى المدن الكبرى. وبالتالي فالقول بأن البعد عن البحر هو سبب عدم ازدهار السياحة في مطماطة بالشكل المرجو مردود على أصحابه، حسب محدثنا ولا يعتد به ولا يمكن بأي حال من الأحوال اتخاذه كذريعة.


المصدر:مواقع ألكترونية