كان صديق ذات يوم طرح على الفيسبوك تدوينة يسخر من الفكر اليساري مع انه يساري لكنه تلك الأيام قرر ان يمزج بين المزاح و الجدية في السخرية من اليسار و التطبيل لليمين، علقت ناصحا اياه ان الاسلاميين أكفاء للدفاع عن السياسة اليمينية فابقى انت يساريا تقدميا، و بعد اخذ و رد قال لي ما مفاده انني لست تقدميا ما دمت ادافع عن لغة ميتة و يقصد اللغة الأمازيغية، فحسب وجهة نظره المحترمة يرى ان النضال لاسترجاع لغة اخذت في الزوال هو حنين للماضي و اليساري التقدمي لا يحن كثيرا للماضي و يهمه فقط التقدم و لو كان على حساب ثقافته.
و منذ تلك الحظة و انا اتساءل هل يمكن لإنسان تقدمي ان يدافع عن الأمازيغية بغية اعادة الاعتبار لها و الكتابة بها ؟ و للإجابة عن هذا السؤال لابد من ادراك اهمية اللغة اولا، فهي التي تعكس هوية شعب ما و تعبر عنها، و تميزه عن غير من الشعوب، و نحن كمغاربة اذا لم نتصالح مع الذات و نقر بهويتنا الأمازيغية فإن ذلك يعني الاستمرار في تزوير التاريخ و الاستمرار في قوقعة العروبة، العروبة كنزعة قومية يهدف اصحابها الى تأسيس وطن واحد من المحيط (الاطلسي) الى الخليج، اي وطن كبير يشمل بلدان شمال افريقيا و الشرق الأوسط، و ذلك اعتمادا على بعض القواسم المشتركة كالدين، الذي هو دين الاغلبية في تلك البلدان، و لنفس السباب لم يولي اليساريون اهمية كبيرة لنقد الدين حيث من المعلوم ان الفكر اليساري تاريخيا في فلسفته و ابجدياته علماني يسعى للفصل بين الدين والسياسة لكن مع ذلك اليساريين العرب لا يولون أهمية لنقد الدين باعتباره يتدخل في السياسة في الدول العربية و الاسلامية، لانهم يرون فيه المفتاح لتحقيق حلمهم التوسعي في ما يسمى "العالم العربي".
ان ما يسمى العالم العربي و تصنيف بعض الدول على انها عربية خصوصا بلدان شمال افريقيا يعتبر اجحافا في حق شعوب تلك البلدان و ضربا لهويتها الامازيغية، و تزوير واضح للتاريخ حيث يضطرون للكذب و التدليس و اسناد البطولات التاريخية في الحروب و المعارك و المعمار و الثقافة الى العرب، في حين في بلدان شمال افريقيا يقول التاريخ ان بناؤوه في عدة اصعدة امازيغ و ليسوا عرب، في فتح الاندلس في القرن الثاني الهجري بقيادة طارق بن زياد و الدول التي تعاقبت في شمال افريقيا خصوصا المغرب كالدولة الايدريسية و المرابطية و الموحدين .. كلها كانت دول امازيغية، بل ان المغرب تاريخيا طالما كان متميزا مستقلا عن المشارقة و سلطة الدولة العثمانية، و هذا لم يكن نتاج الصدفة، بل لاسباب موضوعية ثقافية جيوسياسية ميزت المغرب عن تلك البلدان.
فعند الحديث عن اللغة الأمازيغية نتحدث عن الثقافة، نتحدث عن وسيلة للقطع مع ثقافة الاستلاب تلك التي نهجتها الأنظمة الشمال افريقية بشكل مخطط و مقصود، حيث تعرف تلك الثقافة بنزعة العروبة و تعريب المجال و الأشخاص .. و في الاعتراف باللغة الأمازيغية وتدريسها في المدارس انصاف لها و للتاريخ و لكل ما قدمه الأمازيغ لبلدانهم و لا يزالون.
و في جميع الاحوال لا يمكن القول ان السعي للنهوض بلغة معينة يعتبر رجعية، فالرجعية تتمثل في اعادة شكل من اشكال الانظمة السياسية البائدة و نظم اخلاقية ثقافية كانت سائدة في زمن ما، كما يدعوا الى ذلك الاسلاميين الذين يسعون لفرض ما يسمونه "خلافة اسلامية" و تطبيق "الشريعة الاسلامية"، اما في حالتنا هذه فإننا نتحدث عن لغة، لغة تعلمها لا يمنع من تعلم لغات اجنبية اخرى، و لا يمكن ابدا للغة ان تقف عائقا امام التطور و التقدم اذا اوليناها الاهتمام الذي تستحقه، و هذا ما برهنت عليه عدة دول اقرت بالتعددية اللغوية في دساتيرها كالنمسا مثلا، فالتطور و التقدم يرتبط بالأنظمة السياسية القائمة اكثر من ارتباطه باللغة، فالانتقال من لغة الى اخرى لا يستلزم سوى عملية الترجمة. اذ بقي بلدنا متخلفا رغم تبني المخزن و الاحزاب العروبة و اقصاء تام للأمازيغية في المنظمة التربوية، فاللغة نحن من نخدمها و نطورها، اي نحن من نعطي لها و ليس ان ننتظر منها العطاء، فأي لغة لا يكتب بها الشعب تموت خصوصا في زمننا هذا، و اذا تعلمنا الأمازيغية فإن ذلك يعني التصالح مع الذات و القطع مع الذهنيات القديمة التي ترى المجد في العروبة و لو في غير مكانها، فنحن لسنا ضد العروبة في البلدان الخليجية، تلك البلدان من حقها ان تتخذ العروبة شعارا لها كما هو الشأن لكل الشعوب و القوميات التي تكون لديها رموزها التاريخية و امجادها و ذكرياتها، لكن في شمال افريقيا رفع شعار العروبة يعتبر ظلما لشعوب تلك المنطقة و سعي مكشوف و فاضح لمحو ما تبقى من ذاكرتها التاريخية و سرقة امجادها و نسبها للعروبة.
اذن من خلال هذه الأسطر يظهر ان النهوض بالامازيغية عبر إدراجها في المنظومة التربوية ليس حنينا للماضي و لا نظام سياسي او قيم متخلفة يهدف المناضلون الامازيغ لإحيائها، بل اللغة مادة حيوية نحن من نقدم لها و نخدمها ، و في النهوض بها اعتراف و انصاف للامازيغ أي لأبناء هذا الوطن، بل هو انصاف للوطن و لتاريخه الطويل و ابراز لتميزه و كشف لهويته الحقيقية التي يسعى البعض الى طمسها و جعل المغرب بلدا تابعا للبلدان الخليجية العربية. صحيح ان هناك عدة اكراها تواجه مسألة اللغة بشكل عام في هذا البلد خصوصا في المنظومة التربوية، لكن هذا لا يعني ان الامازيغية تزيد المشكل تعقيدا، فمن يعرف قد تكون هي الحل، اما اذا كانت التقدمية هي نكران مسألة الثقافة و اللغة و تتعامل مع الانسان ككائن ميكانيكي بيولوجي فقط يسعى لتلبية رغباته من اكل و شرب فبلا شك يمكن القول ان "التقدمية" خاطئة او ان من يرى التقدمية من تلك الزاوية مدعو ليراجع اوراقه و مفاهيمه، كإنسان يؤمن بالتقدمية و ضد الرجعية، لا انكر اهمية اللغة و الثقافة في حياة المجتمعات، فبعد ان كانت الانظمة الشيوعية تهمل الجانب الثقافي للمجتمعات و تراها مسائل جانية و ان المشاكل الحقيقية يعبر عنها الصراع الطبقي بين ما يملك و من لا يميك، برزت خلال القرن العشرين و اكثر حدة خلال السنين الاخيرة حركات ثقافية في عدة بلدان في العالم و يعضها توج بأحزاب سياسية، فالانفتاح على الثقافات لا يعني اهمال الثقافة المحلية او نسيانها، فإذا رسمت الدول حدودا سياسية و طبيعية لها و لديها لغات و ثقافات متنوعة، فإن هذا يستدعي اعطاء اهمية للثقافة و الانتماء الهوياتي، لكن دون تعصب لثقافة او الادعاء انها افضل من غيرها و اختراع صراع هوياتي ثقافي من فراغ، فالانسان في القرن الواحد و العشرين و ما بعده لا يمكن الا ان يكون منفتحا عن غيره.
بقلم:أحمد أداسكو
https://www.abudrar.com/2017/09/la-lutte-pour-la-lanague-amazighe-est-elle-reactionnaire.html