تقديم ترجمة عربية مُفَصَّلة لمقالة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط:
"الإجابة على سؤال: ما هو التنوير"
التنوير هو ذلك المسار الذي يُمكِّن الفرد من تجاوز القيود الذاتية و حالة عدم الرُشْد التي اختارها لنفسه، حيث يعجز عن الاستفادة من قدراته العقلية دون الاعتماد على إرشاد الغير. هذه العملية تتطلب شجاعة استثنائية للتخلص من القيود التي أوجدها الإنسان لذاته، مُمَثَّلةً في خوفه من التفكير المستقل بعيدًا عن تأثيرات الآخرين. هذا الخوف ليس بالضرورة نابعًا من نقص في القدرة على الفهم، بل من غياب الإرادة والشجاعة للمبادرة بالتفكير الذاتي واستخدام العقل بشكل مستقل.
يتجسد شعار "تجرأ على استخدام عقلك!" كدعوة ملهمة وقوية تحفز الفرد على تحدي الخوف والشك، واتخاذ الخطوات الأولى نحو الاستقلال الفكري. هذه الدعوة تمثل جوهر التنوير، إذ تشجع على تحقيق الاستقلالية في التفكير، مما يُمهد الطريق لتفتح عصر جديد من الحرية الفكرية حيث يستطيع الإنسان أن يحدد مسار حياته العقلية بنفسه، متحررًا من الأغلال التي كَبَّل بها نفسه، ومتجهًا نحو آفاق واسعة من الفهم والمعرفة التي يقودها بإرادته.
الخوف والكسل يشكلان الحواجز الرئيسية التي تمنع الأغلبية، بما في ذلك النساء، من التقدم نحو النضج والاستقلالية الذاتية، حيث يجدون في البقاء تحت وصاية الآخرين راحة زائفة على الرغم من تحررهم من السيطرة الخارجية. هذا الرضا بالوضع الراهن يسهل على الأوصياء الاستمرار في دورهم كمرشدين وحماة، مبررين ذلك بالحفاظ على سلامة وأمان من هم تحت رعايتهم.
تُعتبر الإِتِّكَالِيَّة خيارًا مريحًا جدًا؛ فلماذا العناء بالتفكير أو بذل الجهد عندما يمكن لكِتاب أن يكون بمثابة عقلك، و قِسِّيس يكون بمثابة ضميرك، وطبيب يحدد لك نظامك الغذائي؟ لا حاجة للتفكير إذا كان بإمكانك ببساطة دفع المال؛ سيتكفل الآخرون بالمهام الشاقة نيابةً عنك. لا حاجة للخوض في التفكير النقدي ما دام يُمكن تفويض مسئُولية التفكير واتخاذ القرارات إلى الآخرين. هذا التوجه نحو الاعتمادية يمنع الفرد من خوض غمار التطور الفكري الحقيقي ومن التوصل إلى الاستقلالية، ويعيق التطور الشخصي. يستغل الأوصياء هذه الميول للإبقاء على أولئك الذين تحت وصايتهم في حالة من الجهل والخوف، مانعين أي توجه نحو الاستقلالية، بطريقة تشبه إبقاء الحيوان الأليف في حالة من عدم الوعي، خائفًا من مغادرة قفصه.
عادةً، يتم تضخيم تصور المخاطر المصاحبة لمحاولات التحرر هذه. قد تؤدي المحاولة الأولية للإنسان للمشي بمفرده إلى السقوط، لكن مع مرور الوقت، يصبح بمقدور الفرد أن يتعلم المشي بثقة وثبات. مع ذلك، قد يؤدي حادث فردي واحد لبث الخوف ومنع الأفراد من السعي وراء مزيد من المحاولات نحو الاستقلال الذاتي.
إن التحرر من العجز الذاتي، ذلك العجز الذي تحول إلى جزء أساسي من كينونة الفرد، يُمثل تحديًا هائلًا. هذا العجز لم يعد فقط حالة مألوفة للفرد، بل إنه قد تطور ليصبح عائقًا يمنعه من استخدام عقله بمفرده دون الشعور بأي دافع للمحاولة. إن القواعد والمعايير التي اصطدم بها أصبحت أدوات جامدة تستغل قدراته العقلية بشكل غير صحيح بدلًا من توجيهها نحو الاستخدام الأمثل؛ مما ألقى به في دوامة التبعية. حتى القلة الذين يتحلون بالشجاعة لكسر هذه القيود يتعثرون عند مواجهة أصغر العقبات؛ نظرًا لأنهم غير معتادين على التحرك بحرية. لذلك، هناك عدد قليل فقط من الذين تمكنوا من تحرير أنفسهم من هذا العجز الذاتي من خلال جهدهم العقلي ، ونجاحهم في بناء مسار ثابت وآمن لأنفسهم.
تظل فرصة قيام جمهور واسع بتنوير نفسه ممكنة وواقعية بشكل كبير؛ بشرط توفير الحريات اللازمة لهم. في بيئة تسودها هيمنة أوصياء يرون أنفسهم حراسًا للوعي الجمعي، دائمًا ما تنبثق شخصيات بطولية تنجح في كسر قيود العجز الذاتي، داعيةً إلى مبادئ التنوير والاستقلال الفكري، تأتي اللحظة الحاسمة عندما تجد الجماهير نفسها مقيدة تحت وثاق هذه الوصاية خاصةً إذا تم تشجيعهم على ذلك من قبل بعض القائمين على الإشراف عليهم من الذين يفتقرون هم أنفسهم إلى القدرة على التنوير.
إن غرس التحيزات أثبت أنه بالغ الضرر، لأن عواقبه تعود في النهاية لتؤثر سلبًا على مَن غرسها أو على أجيالهم اللاحقة. ومن ثَمَّ، يجد التنوير طريقه إلى الجماهير ببطء شديد. بينما قد تنجح الثورة في القضاء على الطغيان الفردي والقمع الساعي للسلطة، فإنها غالبًا ما تفشل في إحداث تجديد حقيقي في طريقة التفكير؛ بل على العكس، تُصبح التحيزات الجديدة، مثل سابقاتها، أصفادًا تُكبّل الجماهير الغافلة.
لتحقيق التنوير، يتطلب الأمر فقط أبسط أشكال الحرية؛ تلك التي تسمح بالتوظيف العلني والحر للعقل من قِبَل الفرد في كافة الميادين، لكن، تتردد صدى الأصوات المعارضة من كل جانب؛ فيأمر الضابط: "لا تعارض، بل أطع!"، ويحث موظف الضرائب: "لا تستفسر، بل ادفع!"، وينصح رجل الدين: "لا تتأمل، بل آمن!" (الحاكم وحده يستطيع أن يقول: "انتقد كما تشاء وفيما تشاء، لكن أطع!"). إننا نواجه قيودًا على الحرية في كل مكان. فأي هذه القيود يقف عقبة في سبيل التنوير؟ وأيها لا يعرقله وإنما يسانده؟ .
ينبغي أن يظل الاستخدام العام للعقل دومًا متاحًا وغير مقيد، إذ أنه السبيل الوحيد نحو إنارة العقول. بينما يمكن، وبشكل مبرر، فرض قيود على الاستخدام الخاص للعقل بما لا يعوق مسيرة التنوير بشكل جوهري. والاستخدام العام للعقل، من وجهة نظري، يتحقق عندما يعبر الفرد عن أفكاره ضمن إطار عام أو في سياق يتعدى حدود دوره الرسمي أو الخاص.
أقول إن تلك القيود التي تحد من الاستخدام العَلَني للعقل في الشئُون العامة هي التي تعيق التنوير. إن الحرية في النقد والتساؤل والتفكير هي جوهر التنوير، وأية قيود تفرض على هذه الحريات في السياقات العامة تشكل عائقًا أمام التقدم الفكري. من ناحية أخرى، فإن القيود المفروضة في سياق تنظيم السلوك الاجتماعي والحفاظ على النظام، كالامتثال للقوانين وأداء الواجبات، قد لا تعرقل التنوير بقدر ما توفر إطارًا ضروريًا لضمان السلام والأمان الَّذَيْن بدونهما لا يمكن للتنوير أن يزدهر.
بالتالي،فإن الفرق بين القيود التي تعيق التنوير وتلك التي تدعمه يكمن في طبيعة وغاية القيد نفسه. القيود التي تعزز النظام العام وتحمي الحقوق والحريات الأساسية دون التضحية بحرية الفكر والتعبير هي التي تدعم التنوير. في المقابل، القيود التي تكمم الأفواه وتقيد حرية الفكر والتعبير هي التي تقف كعوائق في وجه التقدم نحو مجتمع أكثر تنويرًا. تفصل الإجابة على هذا التساؤل بين الاستخدام العام والخاص للعقل، مشيرة إلى أن الاستخدام العام للعقل، الذي يتم في النقاشات العامة وأمام الجمهور، يجب أن يظل حرًا وغير مقيد، فهذا النوع من الحرية في استخدام العقل هو ما يعزز التنوير بين الأفراد. هذا الحرية العامة تسمح بتبادل الأفكار والنقاشات المفتوحة التي تسهم في تطور الفكر الإنساني وتنوير الجماهير.
من ناحية أخرى، يمكن فرض قيود على الاستخدام الخاص للعقل، والذي يقتصر على الدوائر المهنية أو الرسمية، و هذا لا يعني كبت الحريات الشخصية، بل يشير إلى التوازن بين الحاجة إلى النظام والانضباط في سياقات معينة وبين تعزيز الحرية الفكرية. في بعض المواقف الوظيفية أو العامة، يتطلب الأمر من الأفراد التصرف بطريقة محددة وآلية لضمان الحفاظ على النظام وتحقيق أهداف معينة، دون الحاجة إلى النقاش أو الاستقلالية الفكرية في تلك السياقات.
ومع ذلك، عندما يعبر الأفراد عن أنفسهم كجزء من المجتمع الأوسع أو الجمهور العالمي، وخصوصًا عندما يتحدثون بصفتهم علماء أو مفكرين من خلال كتابات موجهة للجمهور، ينبغي أن يُمنحوا الحرية للتعبير عن أفكارهم. هذا التمييز يسلط الضوء على أهمية الفصل بين الدور الوظيفي والمساهمة الفكرية العامة، حيث يُسمح للأفراد بالمشاركة الفعالة في التنوير العام دون التأثير على الالتزامات المهنية المحددة التي يحتاجون إلى القيام بها.
هناك توازن ضروري بين الواجب والحرية الشخصية في مختلف الأدوار التي يؤديها الأفراد في المجتمع. بالنسبة للضابط العسكري، يُطلب منه الامتثال والطاعة دون نقاش فيما يتعلق بالأوامر التي تصدر إليه من قائده، لأن النظام والانضباط يُعتبران حجر الزاوية في الخدمات العسكرية. ومع ذلك، يُمنح هذا الضابط - في سياقه كباحث وعندما يتصرف خارج دوره العسكري المباشر - الحَقَّ في التعبير عن آرائه بشأن الأخطاء أو القضايا التي قد يراها في الخدمة العسكرية، وعرض هذه الآراء على الجمهور للنقاش والتقييم.
بالمثل، لا يُسمح للمواطن بالامتناع عن دفع الضرائب كوسيلة للاحتجاج العلني أو إثارة العصيان، لأن دفع الضرائب يعتبر جزءًا من واجباته تجاه الدولة. ومع ذلك، يحق لهذا المواطن، في دوره كعالم أو مواطن مشارك في الحوار العام، أن يعبر عن اعتراضاته على النظام الضريبي إذا وجد أنه غير معقول أو يتعارض مع مبادئ العدالة.
إنَّ هذه التمييزات توضح أهمية الفصل بين الدور الوظيفي للفرد وحريته في المشاركة في الحوار العام كمواطن أو كعالم. يُظهر ذلك التوازن بين ضرورة الحفاظ على النظام والانضباط في بعض السياقات، مثل العسكرية والالتزامات القانونية مثل دفع الضرائب، وبين تعزيز حرية الفكر والتعبير التي تُعد حيوية لتنوير المجتمع وتقدمه.
في دوره داخل الكنيسة، على رجل الدين أن يَتَّبِعَ ويُعَلِّم مبادئ ديانته كما هي محددة، متقبلًا ذلك كجزء من مسئُولياته. لكن، عندما يتصرف كعالِم يسعى للمعرفة، يصبح من حقه وواجبه أيضًا أن يطرح تساؤلاته ويقدم نقده حول تلك التعاليم أمام الجماهير، ساعيًا لتحسين الفهم الديني والممارسات الكنسية.
لا يُفترض من رجل الدين، أثناء أداء واجباته الدينية، الخروج عن النصوص المقدسة أو المذهب الذي ينتمي إليه، حيث يعتبر نفسه ملتزمًا بتوجيهاتها. ولكن، كفرد يسعى للإسهام في مجال الفكر والعلم، يحق له استكشاف ومناقشة الأفكار بحرية، بما في ذلك تلك التي قد تتقاطع أو تتباعد مع المفاهيم الدينية القائمة.
إذا وَجد رجل الدين تعارضًا بين تعاليم كنيسته ومعتقداته الشخصية، فقد يجد نفسه مضطرًا للتخلي عن منصبه، إذ لا يمكنه الاستمرار في دور يتعارض مع قناعاته العميقة. يشير هذا إلى أن مهمته داخل الكنيسة تمثل استخدامًا "خاصًا" لعقله، مقيدًا بالأدوار والمسئُوليات، بينما يمنحه دوره كعالم الحرية في التعبير عن آرائه والدعوة إلى تجديد الفكر الديني.
إن فكرة جعل القائمين بأمور الدين أوصياء على الناس، وكأن أفراد الشعب أطفال يحتاجون بدورهم إلى مَن يقوم بوصاية عليهم تُعَد مفارقة غير منطقية، قد تؤدي إلى سلسلة لا تنتهي من المفارقات العبثية.
طوائف رجال الدين، بغض النظر عن كون هذه الطوائف جمعية كنسية أو الطبقة الجليلة كما يطلق عليها في بعض الثقافات، والتزام هذه الطوائف بمذهب ديني ثابت لا يتغير بهدف الحفاظ على سيادتهم الأبدية على أعضائهم ومن خلالهم على الشعب، يَطرح تحديات جوهرية وإشكاليات عميقة. إن هذه الفكرة، التي تهدف إلى منع أي تقدم في تنوير البشرية مستقبلًا، تُعد باطلة من الأساس، حتى لو كانت مُصدقة من السلطات العليا أو موثقة بالاتفاقيات الرسمية. لا يمتلك أي عصر الحق في التآمر لتقييد الأجيال القادمة بحيث لا تستطيع توسيع معرفتها، والتخلص من الأخطاء، فضلا عن تحقيق التقدم في ضوء التنوير.
هذا النهج لا يُعيق تطور البشرية بشكل مصطنع فحسب، بل إنه يتعارض بشكل مباشر مع الحق الطبيعي وغير القابل للتصرف الذي يمتلكه كل إنسان في البحث عن المعرفة والحقيقة. يُظهر هذا الوضع التوتر بين الحفاظ على التقاليد والسلطة من جهة، وبين الرغبة الإنسانية الأساسية في التقدم والتحرر الفكري من جهة أخرى. في النهاية، يُعد التحرر الفكري والتقدم نحو مزيد من المعرفة والفهم جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة البشرية، وأي محاولة لكبت هذه الرغبة تتعارض مع الحقوق الأساسية للإنسان.
إن مثل هذه المحاولة لتجميد البشرية عند نقطة معرفية باستخدام مذهب ديني ثابت هي جريمة ضد جوهر الإنسانية، الذي غايته التطور والسعي وراء الحقيقة. ولذلك فإن للأجيال القادمة الحق الكامل في رفض مثل هذه القرارات باعتبارها غير مبررة . إن المعيار الحاسم لتحديد ما إذا كان يمكن تمرير قانون لشعب ما هو مسألة ما إذا كان بإمكان الشعب فرض مثل هذا القانون على نفسه.
لتأمين الاستقرار وإرساء النظام، يُمكن سَن قانون لفترة زمنية محددة تحسبا لأوقات أفضل، يمكن أن يعمل مثل هذا القانون على إنشاء نظام معين، بشرط أن يترك لكل مواطن، وخاصة رجال الدين، بوصفهم عقولًا فكرية، الإذن الصريح لطرح تقييماتهم النقدية للوضع الراهن بشكل مفتوح. وينبغي أن يستمر هذا النهج حتى يتم التوصل إلى قناعات عامة لهذه الأمور وإثباتها بحيث يمكن تقديم اقتراحات إلى السلطات الحاكمة بأغلبية (وإن لم يكن كلها). ومن شأن هذه الاقتراحات أن تحمي المجتمعات التي اختارت تغيير الممارسات الدينية على أساس فهم أفضل، دون إعاقة أولئك الذين يرغبون في البقاء كما هم.
ومع ذلك؛ فمن غير المقبول الالتزام بدستور ديني ثابت ونهائي لا يمكن مراجعته علانيةً طوال حياة الفرد، مما ينتقص من إمكانية تقدم البشرية نحو الأفضل، أو قد يضر بالأجيال القادمة. قد يؤجل الفرد تنوير نفسه لفترة محدودة، لكن التنازل عنه، سواء لنفسه أو حتى للأجيال القادمة، يشكل انتهاكًا للحقوق الجوهرية للإنسانية.
المبدأ الذي ينبغي أن يقود عمل الحاكم هو أن السلطة التشريعية يجب أن تنبع من روح الشعب ذاته، معبرة بصدق عن إرادة هذا الشعب وأمانيه. تفرض هذه الحقيقة على الحاكم دورًا أساسيًا، ألا وهو أن يقف كحارس أمين للنظام المدني، مؤمنًا بأن كل خطوة نحو التطور أو التحسين، بغض النظر عن كونها ملموسة أم مجرد تصور، يجب أن تسير جنبًا إلى جنب مع النسيج العام لهذا النظام.
ويجب على الحاكم أن يسمح للمواطنين بالحرية في اتخاذ قراراتهم الخاصة بما يتوافق مع مصالحهم، بمعزل عن التدخل الحكومي في الأمور التي لا تؤثر على النظام العام أو الأمن، و من واجب الحاكم أيضًا ضمان عدم وجود عوائق أمام تقدم الأفراد وتطورهم، سواء كان ذلك في مجالات المعرفة، الابتكار، أو الفكر النقدي.
إن التدخل في الحريات الشخصية، خاصةً من خلال الرقابة أو الإشراف الحكومي على التعبير والآراء، لا يؤدي فقط إلى تقويض مكانة الحاكم والتقليل من هيبته، بل يعرضه أيضًا للنقد بأنه يتصرف بطريقة مستبدة ويفتقر إلى الفهم العميق لدوره كمُيَسّر للتقدم وليس كعائق أمامه. من المهم أن يدرك الحاكم أن التقييم والنقد الذاتي للهيمنة الرُّوحية أو السلطة المستبدة داخل دولته، يجب أن يتم بطريقة تشجع على الحوار وتحترم الحقوق الأساسية للأفراد في التعبير عن أنفسهم والسعي وراء المعرفة.
بالتالي، فإن الدور الأمثل للحاكم هو أن يكون حاميًا للحريات ومعززًا للتنوير، بدلًا من أن يكون مصدرًا للقمع أو الإقصاء. هذا يعني توفير بيئة حيث يمكن للأفراد أن ينموا ويتطوروا بحرية، دون خوف من الرقابة أو التدخل الغير مبرر في حقهم الطبيعي وغير القابل للتصرف في السعي وراء المعرفة والحقيقة.
وإذا انتقلنا إلى سؤال ما إذا كنا نعيش حاليا في عصر مستنير؟، فإن الجواب هو: لا، ولكننا نعيش في عصر يبدأ فيه مسار التنوير. هناك فرق رئيسي بين حالة الإنسانية الكاملة الاستنارة وعملية التنوير ذاتها. ففي الوقت الحالي، لا يزال الناس عمومًا غير قادرين على التفكير بحرية واستقلالية في قضايا الإيمان دون الاعتماد على توجيه من الخارج. وعلى الرغم من التحديات الكبيرة التي يواجهها طريق التنوير، توجد بوادر تبعث على الأمل تلوح في الأفق، تشير إلى أن الفرصة قد أصبحت متاحة للسعي نحو تحقيق هذا الهدف النبيل بمزيد من الحرية.
إن العراقيل التي كانت تحول دون التنوير الشامل أو التحرر من أغلال القصور الذاتي الذي فرضه الأفراد على أنفسهم، تظهر علامات التراجع التدريجي. ومن هذا المنظور، يصح لنا أن نعتبر هذا الزمن بحق عصر التنوير، أو بتعبير آخر، عصر فريدريش الثاني ملك بروسيا.
إنَّ الأمير الذي يختار بحِكْمَة ألَّا يفرض قيودًا على شعبه في مسائل الإيمان، بل يمنحهم الحرية الكاملة للتعبير عن معتقداتهم، يُظهر بالفعل بصيرة استثنائية ونهجًا مستنيرًا. هذا الحاكم، بتواضعه الفريد وعدم رغبته في التباهي بالتسامح كفضيلة شخصية، ينال إعجاب واحترام الأجيال الحالية والقادمة، ويُعتبر رائدًا في تحرير البشرية من أغلال الرجعية الفكرية بسبب تقليص دور الحكومة في فرض القيود، ويفتح المجال أمام الأفراد لاستخدام عقولهم وضمائرهم بحرية. تحت حكمه، يتمتع رجال الدين بالحرية لطرح آرائهم بجرأة وصراحة كمفكرين مستقلين، دون التخلي عن مسئُولياتهم الرسمية. هذه الحرية الفكرية تتعدى حتى الحدود الوطنية، متحدية المقاومة الداخلية لأي حكومة قد تسيء فهم دورها. إن الأمير الذي يسير على هذا النهج يؤكد على أن الحرية لا تهدد النظام العام أو الوحدة الاجتماعية، بل تشجع الناس على تجاوز حدود غفلتهم بمبادرة ذاتية، مما يكشف عن نضجهم الفكري ورغبتهم في التقدم.
لقد حرصت على أن أحدد جوهر التنوير في تحرر الناس من قيود الجهل الذاتي الذي فرضوه على أنفسهم، خاصةً فيما يخص المجالات الدينية، حيث يُعتبر هذا التحرر مفتاح النضج الفكري والروحي. يُظهر التنوير كيف أن السلطات، على الرغم من رغبتها في الحفاظ على السيطرة، لا تجد ضرورة في كبح جماح الحريات الفكرية عندما يتعلق الأمر بالفن والعلوم. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر يكمن في المسائل الدينية والتشريعية حيث يُعتبر الجهل في هذه المجالات أشد ضررًا وإهانة للكرامة الإنسانية.
إنَّ القائد المؤيِّد للتنوير يتخطى مجرد السماح بالحرية الدينية، إذ يُشجع على استخدام العقل بحرية في نقد وتطوير القوانين، مؤكدًا على أن النقاش العلني والنقد البنَّاء للقوانين القائمة لا يُشكل تهديدًا للاستقرار، بل على العكس، يُسهم في تطوير المجتمع وتحسين الحكم. هذه الرؤية المستنيرة للقيادة، التي تُعزز الشفافية والمشاركة الفعالة من قبل الرعايا في الشئُون العامة، تُعد مثالًا للحكم الرشيد الذي يعترف بقيمة الفكر الحر والنقد الذاتي كأدوات أساسية للتقدم والتنمية.
يُظهر هذا النهج أن منح الحرية للناس في التعبير عن آرائهم واقتراحاتهم لا يهدد النظام القائم، بل على العكس، يُعزز من قيم التنوير ويدفع بالمجتمع نحو التقدم والتطور بما يُلبي الحاجات المتغيرة للشعب ويحترم كرامته الإنسانية.
فقط القائد المستنير الذي لا يخاف من التحديات، والذي يمتلك قوات مسلحة منظمة وقوية للحفاظ على النظام العام، يستطيع أن يشجع الناس على النقاش بحرية حول أي موضوع يختارونه، بشرط أن يستمروا في الطاعة؛ مانحًا دعوة غير مسبوقة، لا تجرؤ أيَّة جمهورية على الإفصاح بها: "كونوا أحرارًا في النقاش في جميع المواضيع، مع الالتزام بالقانون!".
يُسلط هذا النهجُ الضوءَ على تعقيدات فريدة في التجربة الإنسانية؛ فعندما ننظر إلى الأمور من منظور أوسع، نكتشف واقعًا غريبًا وغير متوقع في الشأن الإنساني، حيث تبدو الأمور متناقضة غالبًا. قد تبدو زيادة الحريات المدنية أنها تعود بالنفع على الحرية الفكرية للشعب؛ لكنها في الوقت ذاته تضع حدودًا صارمة لها. وبالمقابل، قد توفر الحريات المدنية المحدودة فرصًا أكبر لأفراد لتطوير قدراتهم بشكل كامل. وهكذا، عندما عندما تتخلص الطبيعة من القيود التي فرضتها، أي الرغبة في التفكير بحرية وتشجيع هذا التفكير، يبدأ هذا التغيير في التأثير تدريجيًا على عقلية الناس، مما يجعلهم أكثر حرية في أفعالهم. ومع مرور الوقت، يؤثر هذا التغيير حتى على مبادئ الحكومة نفسها، التي تجد في نهاية المطاف فائدة في معاملة الأفراد كبشر ذوي كرامة، وليسوا مجرد أدوات.
في هذا اليوم الموافق للثلاثين من سبتمبر لعام 1784، من مدينة كونيجسبيرج ببروسيا انتبهت لمحتوى ملفت في صحيفة أخبار بوشينج الأسبوعية، التي صدرت في الثالث عشر من سبتمبر؛ تحدثت هذه الصحيفة عن مقال مثير في مجلة برلين الشهرية الحالية، يتضمن رد السيد مندلسون على استفسار مماثل لذلك الذي طرحته أنا. لم تتح لي بعد فرصة الاطلاع على هذا المقال بنفسي، ولو كان الأمر كذلك؛ لربما اخترت تأجيل أو حجب تقديم أفكاري السابقة، والتي أعرضها الآن لأرى إلى أي مدى قد تتفق أفكار شخصين بالصدفة.
إيمانويل كانط
كونيجسبيرج، بروسيا