تـنـقـيـبـات الـمـلـك نـبـونـيـد الأثـريـة
تـنـقـيـبـات الـمـلـك نـبـونـيـد الأثـريـة 2-54
عـنـدمـا تـكـلّـمـت في أمـسـيـة قـبـل سـنـوات، عـن قـيـام الـمـلـك الـبـابـلي نـبـونـيـد بـتـنـقـيـبـات أثـريـة في الـقـرن الـسّـادس قـبـل الـمـيـلاد، أي قـبـل حـوالي 2500 سـنـة مـن زمـنـنـا هـذا، دهـش الـحـاضـرون وتـصـوروا في الـبـدايـة أنـني كـنـت أمـزح مـعـهـم. فـهـل يُـعـقـل أن تـقـام تـنـقـيـبـات أثـريـة في تـلـك الـفـتـرة الـضّـاربـة في الـقـدم ؟
ومـع ذلـك فـقـد قـام الـمـلـك الـبـابـلي نـبـونـيـد في الـقـرن الـسّـادس قـبـل الـمـيـلاد بـتـنـقـيـبـات أثـريـة بـحـثـاً عـن آثـار الـمـاضي ورغـبـة في إحـيـاء بـعـض تـقـالـيـده الّـتي كـانـت قـد أهـمـلـت وانـدثـرت مـدّة قـرون طـويـلـة.
الـمـلـك نـبـونـيـد :
تـنـقـيـبـات الـمـلـك نـبـونـيـد الأثـريـة 2-55
تـذكـر كـتـب الـتّـاريـخ نـبـونـيـد (نـبـو نـا إيـد، أي الإلـه نـبـو يـرأف بـه) كـآخـر مـلـك لآخـر مـمـالـك بـلاد مـا بـيـن الـنّـهـريـن الـمـسـتـقـلّـة، فـقـد حـكـم مـن سـنـة 556 إلى سـنـة 539 قـبـل الـمـيـلاد الّـتي سـقـطـت فـيـهـا بـابـل تـحـت ضـربـات الـمـلـك الـفـارسي كـورش الـكـبـيـر. وانـتـهـت بـسـقـوط بـابـل وسـقـوط مـلـكـهـا نـبـونـيـد أكـثـر مـن ثـلاثـة آلاف سـنـة مـن حـضـارات الـعـراق الـقـديـم.
ورغـم أنّ كـتـب الـتّـاريـخ تـطـنـب في تـفـصـيـل الـكـلام عـن فـتـرة حـكـم نـبـونـيـد، وخـاصّـة عـن أقـامـتـه عـشـر سـنـوات في واحـة تـيـمـاء، في شـمـال الـجـزيـرة الـعـربـيـة، إلّا أنـنـا نـادراً مـا نـجـد فـيـهـا فـصـلاً خـصـص لـلـتّـنـقـيـبـات الأثـريـة الّـتي قـام بـهـا (1).
تـرمـيـمـات نـبـونـيـد لـلـمـعـابـد الـقـديـمـة :
قـام الـمـلـك نـبـونـيـد، مـثـل بـعـض سـابـقـيـه، بـتـرمـيـم كـثـيـر مـن الـمـعـابـد، وبـإعـادة تـشـيـيـد مـا تـسـاقـطـت جـدرانـهـا مـنـهـا، ولـكـنّـه حـاول أكـثـر مـمـا فـعـلـه سـابـقـوه أن يـجـد مـعـابـد خـربـت مـنـذ أزمـان طـويـلـة لـيـزيـح عـنـهـا الـتّـراب ويـجـد أسـسـهـا ويـبـحـث عـن الـنّـصـوص الّـتي سـجّـلـهـا مـلـوك الـمـاضي عـنـدمـا شـيّـدوهـا أو جـددوهـا، والّـتي دفـنـوهـا في الأسـس. وذلـك لـمـعـرفـة تـاريـخـهـا ولإحـيـاء تـقـالـيـد قـديـمـة كـانـت قـد سـقـطـت في الـنّـسـيـان.
وكـان هـدفـه إذن مـعـرفـة الـتّـاريـخ الـقـديـم لـلأبـنـيـة لـيـسـتـطـيـع إعـادة تـشـيـيـدهـا بـأقـرب مـا يـمـكـن مـن أصـولـهـا، وكـان مـشـروعـه إحـيـاء تـراث الـمـاضي تـمـامـاً مـثـلـمـا يـفـعـل مـنـقـبـو أزمـانـنـا هـذه.
فـعـنـدمـا رمـم مـثـلاً مـعـبـد الأي أولـمـاش في مـديـنـة سـيـبـار (تـلّ أبـو حـبّـة)، ذكـر أنّـه وصـل في عـمـق حـفـريـاتـه إلى طـبـقـة فـتـرة أكّـد، أي إلى الـقـرنـيـن الـثّـالـث والـعـشـريـن والـثّـاني والـعـشـريـن قـبـل الـمـيـلاد : “ووضـعـت الـطّـابـوق فـوق أسـس نـرام سِـن بـن سـرجـون تـمـامـاً كـمـا كـانـت، مـن غـيـر أن أحـيـد عـنـهـا ولـو بـعـرض إصـبـع واحـد”.
ويـحـتـفـظ الـمـتـحـف الـبـريـطـاني في لـنـدن بـنـصّ اسـطـواني عـثـر عـلـيـه في بـقـايـا مـعـبـد إلـه الـشّـمـس : “شـمَـش” في مـديـنـة سـيـبـار، يـتـكـلّـم فـيـه الـمـلـك نـبـونـيـد عـن إعـادة تـشـيـيـده لـمـعـبـد الإلـه سِـن في حـرّان ولـمـعـبـد سـيـبـار :
تـنـقـيـبـات الـمـلـك نـبـونـيـد الأثـريـة 2--40
وأكـثـر نـصـوصـه تـفـصـيـلاً لـمـنـهـجـه في الـتّـنـقـيـبـات كـتـبـه (أو سـجّـلـه لـه كـتّـابـه) عـن مـديـنـة لارسـا الـقـديـمـة (مـوقـع تـلّ سـنـكـرة). وكـان نـبـوخـذ نـصـر الـثّـاني (الّـذي حـكـم مـن 604 إلى 562 قـبـل الـمـيـلاد) قـد رمـم مـعـبـد الأي بـابـار، أهـمّ مـعـابـد هـذه الـمـديـنـة، الـمـكـرّس لـلإلـه شَـمَـش.
وقـد رمـمـه الـمـلـك نـبـونـيـد بـعـده بـعـدّة عـقـود، وكـتـب :
“وفي الأي بـابـار، مـقـام شَـمَـش الـمـفـضّـل، والّـذي كـان قـد أهـمـل مـنـذ زمـن طـويـل وتـحـوّل إلى خـرائـب تـراكـمـت عـلـيـهـا الـرّمـال وكِـسـر الـطّـابـوق والـحـجـارة حـتّى اخـتـفـت آثـار أسـسـه وضـاعـت. وفي زمـن أحـد أسـلافي، نـبـوخـذ نـصـر بـن نـبـوبـولـصـر، أزيـحـت الأتـربـة والـرّمـال الّـتي كـانـت تـغـطّي الـمـديـنـة والـمـعـبـد. ورأى [نـبـوخـذ نـصـر] لـوح الـتّـأسـيـس الّـذي كـان قـد سـجّـلـه مـلـك قـديـم : بـورنـا بـوريـاش. ولـم يـتـوصّـل، رغـم تـنـقـيـبـه، إلى إيـجـاد نـصّ تـأسـيـس أقـدم مـن نـصّ بـورنـا بـوريـاش …”.
وقـد أظـهـرت الـتّـنـقـيـبـات الـفـرنـسـيـة الّـتي بـدأت في عـام 1932 في مـوقـع مـديـنـة لارسـا أهـمـيـة إنـجـازات الـمـلـك بـورنـا بـوريـاش في الـقـرن الـخـامـس عـشـر قـبـل الـمـيـلاد في تـرمـيـم مـعـبـد الأي بـابـار. ووجـد الـمـنـقّـبـون نـصّ تـأسـيـس نـبـوخـذ نـصـر الـثّـاني، ولـكـنّـهـم لـم يـجـدوا فـيـه ذكـراً لـلـمـلـك بـورنـا بـوريـاش. وكـلّ مـا ذكـره هـو أنّـه كـان قـد وجـد نـصّ تـأسـيـس قـديـم (2).
ولا نـدري هـل كـان نـبـوخـذ نـصـر الـثّـاني قـد وضـع أكـثـر مـن لـوح تـأسـيـس واحـد، ووجـد الـمـنـقّـبـون لـوحـاً مـخـتـلـفـا عـن الّـذي كـان الـمـلـك نـبـونـيـد قـد وجـده، أم أنّـه وجـد نـفـس الـلـوح وتـركـه في مـكـانـه، ولـكـنّـه أوّلـه في نـصّـه الّـذي سـجّـلـه مـضـيـفـاً مـا كـان قـد وجـده هـو نـفـسـه في حـفـريـاتـه.
ويـكـمـل الـمـلـك نـبـونـيـد : “وقـد وجـه الإلـه شَـمَـش أمـراً لي، أنـا نـبـونـيـد، الـمـلـك الـمـكـلّـف بـالـعـنـايـة بـمـعـبـده الأي بـابـار، أن أعـيـد تـشـيـيـده كـمـا كـان في الـمـاضي، فـهـو مـقـامـه الـقـريـب إلى قـلـبـه. وأمـر مـردوخ، الإلـه الأعـلى، الـرّيـاحَ أن تـهـبّ مـن الـزوايـا الأربـع، فـعـصـفـت وتـطـايـرت الـرّمـال الّـتي كـانـت تـغـطّي الـمـعـبـد والـمـديـنـة …”.
وقـد امـتـدت حـفـريـات الـمـلـك نـبـونـيـد عـلى مـسـاحـة واسـعـة مـن الـمـديـنـة : مـن الـمـعـبـد إلى الـزّقـورة. ونـرى في الـمـخـطـط الـتـالي الـمـعـبـد في أسـفـلـه والـزّقّـورة في أعـلاه :
تـنـقـيـبـات الـمـلـك نـبـونـيـد الأثـريـة 2--86
وكـتـب في نـصّـه : “ورأيـتُ لـوح تـأسـيـس بـاسـم حـمـورابي، مـلـك قـديـم حـكـم 700 سـنـة قـبـل الـمـلـك بـورنـا بـوريـاش. وكـان قـد رمـم لـوجـه شَـمَـش مـعـبـده الأي بـابـار والـزّقّـورة، وشـيـدهـمـا عـلى أسـسـهـمـا الأصـلـيـة […] ورفـعـت ذراعيّ إلى الـسّـمـاء ووجـهـت دعـائي لـرّب الأربـاب : “يـا ربّي، يـا مـردوخ الّـذي يـقـود الآلـهـة في مـسـيـرتـهـم، والّـذي لـولاه مـا شـيّـد أحـدٌ داراً ولا أسـس أسـسـهـا. لـولاك، مـن لـه أن يـفـعـل شـيـئـاً ؟”. وذهـبـتُ لأتـفـحّـص مـعـابـد شـمَـش وأداد ونـرقـال لـكي أعـيـد تـشـيـيـد هـذا الـمـعـبـد”.
مـن أيـن أتـت مـعـرفـة الـمـلـك نـبـونـيـد بـالـمـاضي ؟
أتـت مـعـرفـة الـمـلـك نـبـونـيـد بـالـمـاضي مـن “الـقـوائـم الـمـلـكـيـة” الّـتي بـوّبـت الـسّـلالات الـمـلـكـيـة في كـلّ دول جـنـوب مـا بـيـن الـنّـهـريـن، وذكـرت أسـمـاء مـلـوكـهـا حـسـب تـسـلـسـلـهـم الـزّمـني.
وقـد طـبّـق هـذه الـمـعـلـومـات في حـفـريـاتـه لـيـصـل إلى اكـتـشـاف أبـعـد مـا يـمـكـنـه مـن فـتـرات الـزّمـن الـمـاضي. وتـعـمّـق بـهـا في بـاطـن الأرض طـبـقـة بـعـد طـبـقـة. وقـد كـان يـعـرف أنّ حـمـورابي سـبـق بـورنـا بـوريـاش بـعـدّة قـرون. وقـد مـدّ الـفـارق الـزّمـني الّـذي كـان يـفـصـل بـيـنـهـمـا فـجـعـلـه سـبـعـة قـرون، مـع أنّ الـمـؤرخـيـن في أيّـامـنـا هـذه حـسـبـوه ثـلاثـة قـرون فـقـط.
ونـعـود الآن إلى الـنّـصّ الّـذي يـروي فـيـه الـمـلـك نـبـونـيـد إعـادة تـشـيـيـده لـمـعـبـد الأي بـابـار في مـديـنـة لارسـا. فـبـعـد أن وجـه دعـاءه إلى الإلـه مـردوخ، كـمـا رأيـنـا، وجـهـه لـلإلـهـيـن شـمَـش وأداد الـمـخـتـصَّـيـن بـتـكـهـن الـغـيـب. ووجـد لـه كـهّـانـهـمـا أنّ الـوقـت كـان مـنـاسـبـاً لـلـبـدء بـمـشـروعـه :
“وتـوكّـلـت عـلى مـردوخ، ربّي، وعـلى شـمَـش وأداد سـيـدَي الـكـون. واغـتـبـط قـلـبي وابـتـهـج فـؤادي وامـتـلأت حـبـوراً شـعّ وأضـاء وجـهي. واكـتـريـت عـمّـالاً لـشـمَـش ومـردوخ، جـاءوا بـالـمـسـاحي والـمـعـاول وهـم يـحـمـلـون الـسّـلال. وأرسـلـتـهـم أفـواجـاً أفـواجـا لـيـعـيـدوا تـشـيـيـد الأي بـابـار، الـمـعـبـد الـمـهـيـب […] ولأربـابي شـمَـش وأيّـا والآلـهـة الآخـريـن، أعـدت تـشـيـيـد الأي بـابـار تـمـامـاً كـمـا كـان في قـديـم الـزّمـان. ووجـدت لـوحـاً مـن الـحـجـر عـلـيـه نـقـش مـكـتـوب بـاسـم حـمـورابي، وهـو مـلـك قـديـم. وأعـدت وضـعـه في مـكـانـه ووضـعـت بـجـانـبـه لـوحـاً عـلـيـه نـقـش مـكـتـوب بـاسـمي، لـيـبـقـيـا في الأسـس إلى الأبـد”.
ولا شـكّ في أنّ الـقـارئ الـعـزيـز لاحـظ أنّ أهـمّ مـا كـان يـبـغـيـه الـمـلـك نـبـونـيـد هـو إيـجـاد آثـار الـمـاضي، أي ألـواح الـ “تِـمـنـيـنّـو”، نـصـوص الـتّـأسـيـس الّـتي تـركـهـا مـلـوك الأزمـان الـقـديـمـة. وهـو يـذكـر أنّ الآلـهـة كـانـت تـوحي لـه بـأمـاكـنـهـا فـيـمـا يـراه في الـمـنـام أو عـن طـريـق كـشـف الـكـهّـان لـهـا.
وكـان عـلى الـمـلـك الّـذي يـنـوي إعـادة تـشـيـيـد مـعـبـد أن يـبـدأ بـإيـجـاد أسـسـه لـيـرى مـخـطـطـه الأصـلي، فـقـد كـان الإعـتـقـاد سـائـداً بـأنّ الإلـه إنـلـيـل رسـم مـخـطـط الـمـعـبـد الـمـثـالي في بـدء الـخـلـيـقـة، ولا يـمـكـن لـبـشـر أن يـحـيـد عـن تـطـبـيـقـه “ولـو بـعـرض أصـبـع”. ثـمّ أنّـه كـان عـلى الـمـلـك عـنـدمـا يـعـيـد تـشـيـيـد مـعـبـد تـهـدّم أن يـضـع لـوحـاً مـنـقـوشـاً بـاسـمـه إلى جـانـب ألـواح مـن سـبـقـه مـن مـلـوك الـمـاضي. وقـد بـدأت هـذه الـعـادة في الـقـرن الـثّـامـن عـشـر قـبـل الـمـيـلاد، أي بـحـوالي 1200 سـنـة قـبـل زمـن الـمـلـك نـبـونـيـد.
كـمـا لاحـظ الـقـارئ الـعـزيـز أنّ الـمـلـك نـبـونـيـد لـم يـكـن أوّل مـن حـفـر في أعـمـاق الأسـس لـيـجـد مـخـطـط الـبـنـاء قـبـل أن يـشـرع بـإعـادة تـشـيـيـده، وهـو نـفـسـه لـم يـكـن يـدّعي ذلـك، ولـكّـنـه ذكـر أنّـه واصـل الـبـحـث عـمّـا لـم يـتـوصـل إلى إيـجـاده سـابـقـوه.
وهـو يـذكـر مـثـلاً كـيـف أنّ أحـد أسـلافـه، نـبـوخـذ نـصـر الـثّـاني، رمـم مـعـبـد شـمَـش في مـديـنـة سـيـبـار مـن غـيـر أن يـجـهـد نـفـسـه في الـبـحـث عـن الـتّـمِّـنـيـنّـوات الّـتي كـان قـد وضـعـهـا مـلـوك الـمـاضي في أسـسـه، ولـهـذا انـهـار مـعـبـده بـعـد سـنـوات قـلـيـلـة. فـقـد كـان ذلـك عـلامـة عـلى غـضـب الآلـهـة، لأنّ نـبـوخـذ نـصـر الـثّـاني لـم يـحـتـرم الـعـرف الّـذي كـان مـتّـبـعـاً.
تـنـقـيـبـات الـمـلـك نـبـونـيـد الأثـريـة 2----58
وعـنـدمـا شـرع الـمـلـك نـبـونـيـد بـإعـادة تـشـيـيـد نـفـس الـمـعـبـد، قـام أوّلاً بـحـفـريـات عـمـيـقـة أنـزلـتـه إلى ثـمـانـيـة أمـتـار تـحـت الأرض، إلى الأسـس الّـتي وضـعـهـا نـرام سِـن حـوالي ألـفَي سـنـة قـبـلـه.
ولا شـكّ في أنّ مـن بـيـن أهـمّ دوافـع الـمـلـك نـبـونـيـد لـلـقـيـام بـحـفـريـاتـه كـانـت رغـبـتـه في احـتـرام الـطّـقـوس الـدّيـنـيـة وإرضـاء الآلـهـة. ولـكـنّ أهـمّ دوافـعـه الأخـرى كـانـت رغـبـتـه في اكـتـشـاف الاسـتـعـمـالات الـمـتّـبـعـة في الـمـاضي الـبـعـيـد وإحـيـاء تـقـالـيـده الّـتي أهـمـلـت وانـدثـرت.
وقـد وجـد مـثـلاً أنّ مـلـوك أكّـد، مـنـذ سـرجـون الـثّـاني في الألـف الـثّـالـث قـبـل الـمـيـلاد، نـصـبـوا “إنـتـوم”، أي رئـيـسـة عـلى رجـال الـدّيـن في مـديـنـة أور.
الإنـتـوم :
وأتـوقّـف هـنـا قـلـيـلاً لأذكّـر الـقـارئ الـعـزيـز بـأنّ تـرجـمـة كـلـمـة إنـتـوم بـالـكـاهـنـة تـنـقـصـهـا الـدّقّـة. فـالـكـاهـن يـتـكـهّـن بـالـغـيـب، ورجـل الـدّيـن يـقـوم بـالـطـقـوس الـدّيـنـيـة أو يـشـرف عـلى إقـامـتـهـا. ولـيـس لـديـنـا بـالـلـغـة الـعـربـيـة كـلـمـة تـدلّ عـلى امـرأة تـشـرف عـلى إقـامـة الـطّـقـوس الـدّيـنـيـة وتـتـرأس رجـال الـدّيـن، فـفـضّـلـت اسـتـعـمـال الـكـلـمـة الأكّـديـة.
الـمـهـمّ هـو أنّ هـذه الـمـرتـبـة الـرّفـيـعـة كـانـت تـخـصـص، في زمـن الـسّـلالـة الأكّـديـة، لـبـنـات الـمـلـوك. وبـعـد أن يـمـوت الـمـلـك، كـانـت ابـنـتـه تـتـرك مـنـصـبـهـا لابـنـة الـمـلـك الّـذي يـرتـقي الـعـرش بـعـده. وكـانـت الإنـتـوم تـكـرّس لإلـه الـقـمـر الّـذي كـان اسـمـه بـالـلـغـة الـسّـومـريـة “نـانـا” وأصـبـح اسـمـه “سِـن” بـالـلـغـة الأكّـديـة. وتـسـكـن في جـانـب خـاصّ مـن الـمـعـبـد يـدعى الإيـغـبـار. (3)
إنـهـيـدوانّـة :
وكـانـت أولى الإنـتـومـات، ربّـات الـدّيـن، وأشـهـرهـنّ ولا شـكّ، إنـهـيـدوانّـة، ابـنـة الـمـلـك سـرجـون الأكّـدي، في الألـف الـثّـالـث قـبـل الـمـيـلاد. وتـسـتـحـق إنـهـيـدوانّـة أن تـذكـر وأن يـعـاد ذكـرهـا، فـهي أوّل مـن ألـفّ نـصـوصـاً أدبـيـة وصـلـتـنـا كـمـا كـتـبـتـهـا، وذكـر اسـمـهـا عـلـيـهـا. ولـم تـصـلـنـا نـصـوص أدبـيـة في نـسـخـهـا الأصـلـيـة قـبـلـهـا لأحـد في كـلّ تـاريـخ الـبـشـريـة !
وقـد وجـد الـمـنـقّـبـون لـهـا سـتّ قـصـائـد نـظـمـتـهـا بـالـلـغـة الـسّـومـريـة، الّـتي كـانـت قـد احـتـفـظـت بـطـابـعـهـا الـمـقـدّس كـلـغـة الـدّيـن حـتّى في زمـن الأكّـديـيـن. كـمـا وجـدوا لـهـا عـدّة مـؤلـفـات جـمـعـت فـيـهـا أنـاشـيـد طـقـوسـيـة.
وعُـثـر في أور عـلى مـنـحـوتـة دائـريـة مـن الـكـالـسـيـت، قـطـرهـا 10 سـم.، يـعـود تـاريـخـهـا إلى حـوالي مـا بـيـن 2300 و 2275 قـبـل الـمـيـلاد، تـصـور الإنـتـوم إنـهـيـدوانّـة، ابـنـة الـمـلـك سـرجـون الأكّـدي وهي تـقـيـم طـقـوسـاً ديـنـيـة. وبـيـنـمـا كـان رجـل الـدّيـن يـنـفّـذ مـراسـيـم الـطّـقـوس مـنـتـصـبـاً أمـام مـذبـح قـرب زقّـورة نـراهـا عـلى يـسـار الـمـنـحـوتـة، وقـفـت إنـهـيـدوانّـة خـلـفـه رافـعـة يـديـهـا أمـام وجـهـهـا تـقـيـم الـصّـلاة لـلإلـه نـانـا، يـسـاعـدهـا في ذلـك خـادمـان نـراهـمـا وراءهـا :
تـنـقـيـبـات الـمـلـك نـبـونـيـد الأثـريـة 2---24
ونـقـرأ عـلى ظـهـر الـمـنـحـوتـة نـقـشـاً مـكـتـوبـاً : “إنـتـوم، زوجـة الإلـه نـانـا”، ثـمّ “إبـنـة سـرجـون مـلـك الـكـون”.
ويـحـتـفـظ بـهـذه الـمـنـحـوتـة مـتـحـف فـيـلادلـفـيـا في الـولايـات الـمـتّـحـدة الأمـريـكـيـة
Museum of Archaeology and Anthropology, Philadelphia, U.S.A
وقـد اسـتـمـرت تـقـالـيـد سـيـادة الإنـتـومـات عـلى الـحـيـاة الـدّيـنـيـة مـدّة خـمـسـة قـرون طـويـلـة، ثـمّ أهـمـلـت بـعـد ذلـك وسـقـطـت في الـنّـسـيـان.
إبـنـة الـمـلـك نـبـونـيـد :
ونـعـود مـن جـديـد إلى الـمـلـك نـبـونـيـد. فـعـنـدمـا حـدث خـسـوف قـمـر خـلال سـنـوات حـكـمـه، إعـتـبـر ذلـك عـلامـة أرسـلـتـهـا لـه الآلـهـة، فـطـلـب مـن الـكـهّـان أن يـفـسـروهـا لـه. وفـسّـر لـه الـكـهّـان مـعـنـاهـا : أن يـكـرّس الـمـلـك نـبـونـيـد ابـنـتـه لـمـعـبـد الإلـه نـانـا في أور، لـتـحـتـلّ مـنـصـب الإنـتـوم، تـمـامـاً مـثـلـمـا فـعـل الـمـلـك سـرجـون الأكّـدي قـبـلـه بـحـوالي ألـفَي سـنـة.
وهـذا يـعـني أنّ الـمـلـك نـبـونـيـد كـان قـد بـحـث عـن هـذه الـتّـقـالـيـد الّـتي انـدثـرت مـنـذ قـرون طـويـلـة، وقـرأ عـنـهـا في الـنّـصـوص الّـتي كـتـبـت عـنـهـا في زمـن سـرجـون الأكّـدي أو مـن جـاء بـعـده !
الـمـهـمّ هـو أنّ الـمـلـك نـبـونـيـد قـام بـحـفـريـات في مـعـبـد نـانـا في أور لـيـجـد تـاريـخـه مـن ألـواح الأسـس الّـتي وضـعـهـا الـمـلـوك الـقـدمـاء. وأعـاد تـشـيـيـده وتـشـيـيـد الإيـغـبـار فـيـه، والّـذي كـان الـجـانـب الـخـاصّ بـسـكـن الإنـتـوم في الـمـعـبـد (3). وبـعـد أن كـرّس ابـنـتـه لـخـدمـة الإلـه نـانـا كـإنـتـوم لـه، اخـتـار لـهـا اسـمـهـا الـجـديـد الّـذي يـلـيـق بـمـنـصـبـهـا : “إن ــ نـيـغـالـدي ــ نـانـا”، والّـذي يـعـني “الإنـتـوم الّـتي يـرغـب بـهـا الإلـه نـانـا”.
وقـد كـتـب الـمـلـك نـبـونـيـد أنّـه عـرف كـيـف يُـلـبـس ابـنـتـه ثـوب الإنـتـوم [في حـفـل تـنـصـيـبـهـا] مـن قـراءتـه لـمـا جـاء في نـصـب وضـعـه الـمـلـك نـبـوخـذ نـصـر الأوّل، الّـذي حـكـم في الـقـرن الـثّـاني عـشـر قـبـل الـمـيـلاد، أي قـبـلـه بـسـتّـة قـرون، وصـوّر عـلـيـه ابـنـتـه وهي تـرتـدي مـلابـس الإنـتـوم بـعـد أن كـرّسـت لـتـخـدم في مـعـبـد نـانـا في أور. ولـم تـجـد الـتّـنـقـيـبـات الأثـريـة في بـدايـة الـقـرن الـعـشـريـن هـذا الـنّـصـب.
الـمـلـك نـبـونـيـد يـنـقّـب في الـقـصـور :
ولـم تـقـتـصـر تـنـقـيـبـات الـمـلـك نـبـونـيـد عـلى الـمـعـابـد. وأفـضـل مـثـال عـلى ذلـك مـا ذكـره عـن تـنـقـيـبـاتـه في الـقـصـر الـمـلـكي في مـديـنـة أكّـد، عـاصـمـة الـدّولـة الأكّـديـة الّـتي أسـسـهـا الـمـلـك سـرجـون الأكّـدي في الألـف الـثّـالـث قـبـل الـمـيـلاد. ولـم يـجـد الـمـنـقّـبـون بـعـد آثـار مـديـنـة أكّـد، بـل مـا زالـوا لا يـعـرفـون مـكـانـهـا بـالـضّـبـط.
ولـديـنـا دلـيـل آخـر عـلى تـنـقـيـبـات الـمـلـك نـبـونـيـد في مـديـنـة أكّـد، فـقـد عـثـر عـلى لـوح سـجّـلـه كـاتـبـه “نـبـو ــ زِرــ لـيـشـيـر”، وطـبـع عـلى أحـد وجـهـيـه نـصّـاً قـديـمـاً بـالـضـغـط عـلى الـطّـيـن الـرّطـب. ونـقـرأ في الـنّـص الـقـديـم الّـذي طـبـع عـلى الـطّـيـن : “شـار ــ كـالي ــ شـاري، مـلـك رعـيـة الإلـه إنـلـيـل”. ونـحـن نـعـرف أنّ شـار كـالي شـاري كـان مـلـكـاً مـن الـسّـلالـة الأكّـديـة، حـكـم مـن حـوالي 2267 إلى حـوالي 2193 قـبـل الـمـيـلاد :
تـنـقـيـبـات الـمـلـك نـبـونـيـد الأثـريـة 2---49
وعـلّـق الـكـاتـب عـلى هـذا الـنّـصّ في ظـهـر الـلـوح : “طـبـعـة لـلـوح مـن صـخـر الـدّيـوريـت وجـد في أسـس قـصـر نـرام سِـن في مـديـنـة أكّـد، والّـذي رآه الـكـاتـب نـبـو ــ زِرــ لـيـشـيـر” :
تـنـقـيـبـات الـمـلـك نـبـونـيـد الأثـريـة 2----52
والـلـوح مـحـفـوظ في مـتـحـف فـيـلادلـفـيـا في الـولايـات الـمـتّـحـدة الأمـريـكـيـة
Museum of Archaeology and Anthropology, Philadelphia, U.S.A.
ووجـد الـمـنـقّـبـون في بـقـايـا مـعـبـد الإي بـابـار في مـديـنـة سـيـبـار تـمـثـالاً لـسـرجـون الأكّـدي، تـكـسّـرت بـعـض أجـزائـه. وقـد ذكـر الـمـلـك نـبـونـيـد في أحـد نـصـوصـه أنّـه كـان قـد عـثـر عـلى تـمـثـال لـسـرجـون الأكّـدي، ورمـمـه ثـمّ وضـعـه في داخـل الـمـعـبـد، وكـان يـقـدّم لـه نـذوراً مـسـتـمـرّة. وقـد أكّـدت بـعـض الألـواح الإداريـة مـا ذكـره الـمـلـك نـبـونـيـد، مـمـا يـدلّ عـلى شـدّة احـتـرامـه لـلـزمـن الـمـاضي وتـبـجـيـلـه لـكـلّ مـن يـنـتـمي إلـيـه.


(1)
Beaulieu (P.-A.), The Reign of Nabonidus King of Babylon 556-539 B.C, New Haven & London, 1989
Schaudig (H.), Nabonid, der « Archäologe auf dem königthorn », Münster 2003
Charpin (D.), Nabonide, le roi archéologue, Dossiers d’archéologie, nov.-déc.2011
(2) لا شـكّ في أنّ عـالـم الآثـار الـفـرنـسي أنـدريـه بـارو André Parrot الّـذي أشـرف عـلى الـتّـنـقـيـبـات، كـان يـعـتـقـد أنّـه أوّل مـن نـقّـب الـمـوقـع، ولـم يـتـصـوّر أن الـمـلـك نـبـونـيـد كـان قـد سـبـقـه إلى ذلـك بـأكـثـر مـن 2500 سـنـة !
(3) وجـد لـيـونـارد وولي Leonard Woolley في تـنـقـيـبـاتـه في أور في بـدايـة الـقـرن الـعـشـريـن إيـغـبـار مـعـبـد نـانـا. وهـو الآخـر كـان يـعـتـقـد أنّـه أوّل مـن نـقّـب الـمـوقـع، ولـم يـتـصـوّر أن الـمـلـك نـبـونـيـد كـان قـد سـبـقـه إلى ذلـك بـأكـثـر مـن 2500 سـنـة !