أوغاريت من سوريا إلى العالم… أقدم أبجدية مكتوبة
شيدت أبنية أوغاريت من الحجر المنحوت الذي ساعد على حفظها سليمة إلى حد كبير
كانت المدينة في القرنين 15 و14 قبل الميلاد عاصمة لمملكة صغيرة
يصنف علماء الآثار سوريا مركزاً هاماً لما يزيد عن 40 حضارة تعاقبت على أرضها، وبمواقع أثرية يفوق عددها 4500 موقع، ومنها مملكة أوغاريت التي تعد واحدة من أهم المواقع الأثرية وأكثرها شهرة في العالم، وقد أسسها الكنعانيون في العصر البرونزي الحديث، وكانت واحدة من أهم مدن الساحل الكنعاني التي تعتبر من أرقى أجزاء الشرق القديم.
كانت أوغاريت في القرنين 15 و14 قبل الميلاد عاصمة لمملكة صغيرة، وتسميتها مأخوذة من أوغارو، أي الحقل في السومرية. كما تعني الأرض الخضراء أو المزرعة (السهل)، وربما قصد بالتسمية القلعة المحاطة بجدار والتي كانت تمثل أوغاريت القديمة.
الاكتشاف والتسمية
اكتشف موقع أوغاريت عام 1928 صدفةً عند اصطدام محراث فلاح سوري بمخلفات بنائية أثناء حراثته أرضه، وبدأت البعثة الفرنسية عملها في عام 1929. ويشار إلى أن الجزء المكتشف من المملكة لا يتجاوز ربع المساحة الكلية للموقع، والكثير من الآثار المكتشفة نقلت إلى متحف اللوفر في باريس خلال الاحتلال الفرنسي.
تدل الوثائق والنصوص الكتابية المكتشفة أن هذه المملكة كانت قد طوّرت حياةً اقتصادية وثقافية وإدارية مزدهرة نهاية عصر البرونز الحديث قبل أن تدمر نهائياً، حيث استفادت من موقعها الجغرافي على رأس مثلث جعلها ملتقى ومعبر طرق برية وبحرية بين الحضارات والممالك على نهر الفرات شرقاً والعالم الإيجي وجزيرة كريت غرباً ومصر جنوباً. كما استفادت من الموقع الجغرافي داخل المملكة وعناصره من جبال وسهول وأنهار ومناخ وغيرها في الحياة والأنشطة الاقتصادية والثقافية.
موقع رأس شمرا
تقع بقايا أوغاريت القديمة قرب الساحل الغربي السوري وتطل على البحر من فوق تل أثري يدعى "رأس شمرا"، الذي سمي بهذا الاسم نسبة إلى اسم نبتة عطرة تغطي آثار الموقع تعرف في سوريا باسم "شُمره". يفسر البعض الاسم بالآرامية، ومعناه الحراسة والمراقبة لأنه مكان عال وقريب من البحر.
ينتصب التل الأثري للمدينة القديمة في أراضٍ زراعية على شكل مربع منحرف قليلاً تبلغ مساحته 36 هكتاراً تقريباً ومتوسط ارتفاعه عن سطح الأرض 17 متراً. والتل مقسم إلى خمس طبقات من الأعلى، كل طبقة مقسمة إلى أدوار عدة، حيث تضم الطبقة الخامسة بقايا العصر الحجري الحديث. وهذا يعني، كما أظهرت تنقيبات البعثة الفرنسية، أن هذا التل قد سكن منذ العصر الحجري الحديث في الألف السابع قبل الميلاد حتى عصر البرونز الحديث، بعدما دُمرت أوغاريت في بداية القرن 12 قبل الميلاد.
الآثار المعمارية
شيدت أبنية أوغاريت من الحجر المنحوت الذي ساعد على حفظها سليمة إلى حد كبير، ومكّن من معرفة نظام البناء فيها، حيث بلغت ذروة عمرانها على الساحل السوري في الفترة الواقعة بين عامي 1200-1400 قبل الميلاد. وكشفت التنقيبات عن آثار لمدينة جيدة التخطيط والمباني ومتقدمة العلوم. ومما يدلل على ازدهار هذه المملكة، اكتشاف ثلاثة قصور فيها وعدد من المعابد. وهذا ما يمكن أن نلاحظه أيضاً في تخطيط بيوتها السكنية، التي كان البعض منها بطابقين، مما يعطي انطباعاً عن الازدهار الاقتصادي الذي وصلت إليه المدينة.
نشاهد عند المدخل الحالي للمدينة الحصن وبابه السري الذي يؤدي بدوره إلى الداخل عبر فتحة أُنشئت في جدار السور إلى يسارها، حيث يُشاهد البرج الحصين، وبعدها يقودنا طريق إلى أول أحياء المدينة وهو حي القصور، الحي الرسمي، الذي يحتل القسم الشمالي الغربي من المدينة. ويتصدر هذا الحي قصر كبير (القصر الملكي الغربي) يحيط به قصران، جنوبي وشمالي. ويعتبر هذان القصران من أهم مساكن الأمراء والملوك وأكثرهما شهرة في منطقة الشرق القديم. ويلاحظ إلى جانب ساحات القصر شمالاً المقبرة الملكية، التي تتكون من بعض الكهوف والسراديب الجنائزية.
وإلى الشرق من حي القصور حيٌ سكني يمتاز بمنازله الواسعة، وتخترقه شوارع رئيسية عدة يتفرع منها بعض الشوارع الجانبية المتعرجة التي تبدو ضيقة عند نهايتها المغلقة. تتكون منازل المدينة من أقسام عدة، فالمدخل يتبعه درج ورواق وأحياناً بئر ماء وحمامات موصولة بقنوات لمجاري المياه وفناء أو ساحة متصلة مباشرة مع المدخل والرواق وتتوزع حولها الغرف أو المحلات والمشاغل. وقد لوحظ في هذه البيوت أن الموتى كانوا يدفنون في منازلهم. ويتصف القبر المنزلي بأنه عبارة عن سرداب للدفن له مدخل على شكل حفرة أو درج.
وفي الشمال، هنالك المدينة العليا المعروفة بالحيّ الديني "الأكروبول" والمشهور بمعبديه "بعل وداجان". ويقع هذا القسم في الجزء الذي يعلو الأحياء السكنية الواقعة في الجهة الشمالية من المدينة. وفي القسم الشرقي للمدينة، سنشاهد حديقة القصر الملكي المتصلة برواق إلى الجنوب بمخازن القصر الملكي.
أما في الجهة الجنوبية، فتظهر ساحة يتوسطها حوض ماء تغذيه شبكة متشعبة من الأقنية. وقد اكتشف في قاعة مجاورة لهذه الساحة فرن لشيّ الرُقم الفخارية، التي سطرت عليها آلاف النصوص المسمارية مسلطة الأضواء على تاريخ المدينة وعلاقاتها واقتصادها وآدابها وآلهتها وغير ذلك.
بوابة أوغاريت
الأبجدية الأوغاريتية
قدمت أوغاريت للعالم واحدة من أقدم الأبجديات المكتوبة في التاريخ (الأبجدية الأوغاريتية)، التي ترقى إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وتُدرس حالياً في 40 جامعة في العالم.
من خلالها اختصرت الإشارات المسمارية الكتابية من 600 إشارة إلى 30 حرفاً، ومعظم النصوص التي سطرت بهذه اللغة هي نصوص اقتصادية وأدبية. والنسخة الأصلية من رقم فخاري بطول 5.5 سم وعرض 1.3 سم محفوظة حالياً في متحف دمشق الوطني. وتتصل هذه الأبجدية بصلة القربى بكل من اللغات الكنعانية والآرامية والعربية والعبرية التوراتية، وكلها تنتمي إلى عائلة اللغات السامية، وتنقسم هذه العائلة إلى عدد من المجموعات هي:
- السامية الشمالية الشرقية، واستخدمت في وادي الرافدين، وتضم الأكادية بلهجتيها البابلية والآشورية.
- السامية الشمالية الغربية، وتحتوي على الأوغاريتية والفينيقية والمؤابية والعبرية، وعدد آخر من اللهجات الكنعانية.
- السامية الجنوبية، وتحتوي على العربية الكلاسيكية، والعربية الجنوبية القديمة والأثيوبية.
أقدم مقطوعة موسيقية
تعتبر أوغاريت المؤسس الحقيقي للموسيقى الغربية، حيث أن أقدم القطع الموسيقية المدونة في العالم والتي تعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد- سبقت فيثاغورث بألف سنة كاملة- اكتشفت عام 1950 في مدينة أوغاريت، وقام بفك رموزها الكاتب ريتشارد دمبريل صاحب كتاب "آثار علم الموسيقى في الشرق الأدنى القديم".
دوّنت حوالى عام 1400 قبل الميلاد مجموعة موسيقية تحتوي 36 أغنية أطلق عليها اسم "الأغاني الحرانية"، حفرت بالخط المسماري على ألواح من الطين. ويبدو أنها ألفت تضرعاً للآلهة، وإحداها وجدت بشكل شبه كامل ما يجعلها أقرب مثال معروف للتدوين الموسيقي في العالم. رابط المقطوعة:
مكتباتها
دلت الوثائق الكتابية التاريخية أن هذه المدينة كانت ذات يوم مركزاً ثقافياً وتعليمياً وحضارياً مرموقاً. فقد اكتشفت فيها مكتبات عدة إحداها كانت لرئيس الكهنة، ومكتبة أخرى في بيت أحد الموظفين الملكيين ومكتبات أخرى متفرقة. وعثر في هذه المكتبات على كتب دينية وثقافية، ورسائل تجارية من بلدان أخرى، ومعاجم متعددة للغات سومرية أكادية أوغاريتية، ونصوص أدبية ودينية وعلمية كما عثر على مقطع للأسطورة السومرية الشهيرة "جلجامش".
نهايتها
هنالك فرضيتان حول نهاية أوغاريت عام 1180 قبل الميلاد، في كارثة لا تزال آثارها واضحة، خصوصاً في القصر الملكي. فإما كان زلزالاً قوياً دمر المدينة أو غزواً خارجياً من قبل قوم عرفوا باسم شعوب البحر.
المصدر : مواقع ألكترونية