الحروب بين الجماعات البشرية المختلفة
الحروب بين الجماعات البشرية المختلفة 13-82
من الصعب تحديد الوقت الذي بدأت فيه الحروب بين الجماعات البشرية المختلفة، ولكن يمكن القول إن بناء الأسوار والأبراج والتحصينات يمكن أن يُعطي الدليل على هذه البداية، فمن المعلوم أن أعمال التنقيب الأثري التي جرت في موقع أريحا[ر] في فلسطين أدت إلى الكشف عن أقدم تحصينات المدن المعروفة حتى الآن والتي تعود إلى العصر الحجري الحديث PPNB، وتتألف هذه التحصينات من خندق محفور بالصخر وبجواره جدار طوله ٨أمتار وعرضه٣ أمتار وارتفاعه ٨,٥م؛ مبني من الحجر، ويرتكز هذا الجدار على برج ضخم من الحجر أيضاً. وكشف أيضاً عن جدار أُحيط بموقع «حالولة» الذي يقع على الضفة اليمنى للفرات الأعلى في منطقة سد تشرين، وهذا الجدار يُشبه جدار أريحا وإن كان أحدث منه قليلاً. وقد ازداد بناء التحصينات في الفترات اللاحقة حتى برزت في أغلب المواقع المنقبة. إن بناء هذه التحصينات يشير إلى وجود سلطة أشرفت عليه لمواجهة أخطار محتملة من الجماعات المجاورة.
الحروب بين الجماعات البشرية المختلفة 13-83
نحت بارز يصور جزءاً من الهجوم العسكري الآشوري على مدينة آلامو (لعلها في تركيا أو إيران اليوم)
(العصر الآشوري الحديث ٧٠٠-٦٩٢ ق.م)
ونتيجة ازدياد الثروة مع ازدياد مساحات الأراضي الزراعية وتوسع المبادلات التجارية؛ فقد ازدادت رغبة بعض الحكام في توسيع مجال سيطرتهم وإقامة الدول الكبرى، فقد سعى- مثلاً -حكام الأقاليم المصرية إلى توحيد مصر في ظل دولة واحدة؛ لكن ذلك لم يتم إلا بعد حروب طاحنة، وقد وُثقت هذه الحروب على بعض القطع الفنية التي عثر عليها الآثاريون كصلاية الملك نعرمر، كذلك الأمر نفسه في بلاد الرافدين عندما حاول «لوجال زاجيزي» حاكم «أوما» نحو منتصف القرن الرابع والعشرين ق.م توحيد دول المدن السومرية تحت سلطته فخاض من أجل ذلك حروباً عديدة، ولكن الأمر بالنهاية تم على يد «شاروكين» الأكادي الذي ظهر في الوقت ذاته تقريباً في مدينة «كيش» وتمكن من إلحاق الهزيمة بلوجال زاجيزي وأسره وتوحيد بلاد الرافدين تحت حكمه.
الحروب بين الجماعات البشرية المختلفة 13--19
نحت بارز من قصر آشوربانيبال في نينوى يصور المعركة على نهر أولاي (نهر كرخة اليوم) ويظهر فيه جنود المشاة الآشوريون من الرماحين ورماة الأسهم يقاتلون متعاونيين.
حاول الملوك إسباغ الصبغة الدينية على حروبهم ليكسبوا تأييد شعوبهم لهذه الحروب؛ وإيجاد المسوغ لها، فهم عندما يقودون جيوشهم فإنما يفعلون ذلك بأمر من الآلهة- وكانت هذه الآلهة تسير في مقدمة هذه الجيوش- وعندما ينتصرون فبفضل هذه الآلهة ورضاها عنهم، والمنهزم من الملوك هو الذي لم تعد الآلهة ترضى عنه، وعندما يعودون منتصرين فإن جزءاً من الغنائم يجب أن يُقدم لمعابد الآلهة الرئيسة، ويُشاهد صدى كل ذلك في كتابات هؤلاء الملوك التي وضعوها تخليداً لحروبهم وانتصاراتهم أو في مشاهد هذه المعارك التي أمروا برسمها أو نقشها على مواد مختلفة، ومن أقدم المشاهد صلاية الملك نعرمر التي تمثل انتصار ملك مصر العليا نعرمر على مصر السفلى في نهاية عملية توحيد مصر في ظل دولة واحدة، حيث يُشاهد في أعلى المشهد رأس البقرة الذي يرمز إلى الإلهة حتحور؛ كما يظهر ضمن المشهد الإله حورس الذي يُرمز إليه بالصقر وقد ربط أسيراً بحبل من أنفه وهو يجره، وكذلك المشهد في نصب الصقور الذي يصور انتصار ملك لجش «إي أناتُم» على مدينة أوما، حيث تظهر على الوجه الأمامي للنصب صورة الإله نينجرسو- إله لجش- ممسكاً بشبكة تشبه شبكة الصياد وهي ممتلئة بجنود من أوما وهو ينهال عليهم بالضرب. أما شاروكين الأكادي فبعد أن هزم لوجال زاجيزي الملك السومري فإنه يضعه في شبكة ويقوده إلى معبد الإله إنليل- الإله الرئيس عند السومريين- في مدينة نيبور؛ في مشهدية رمزية لها دلالات عميقة، وكأن شاروكين يُريد أن يظهر للسومريين كيف تخلى إلههم عن ملكهم وانحاز إلى جانبه دليلاً على عدم رضاه عنه.
وبما أن الصبغة العسكرية هي الغالبة على الدولة الآشورية الحديثة؛ فإن ملوكها يحرصون على إبراز دور الإله آشور- إلههم الرئيس- في هذه الحروب، فهو الذي يسير في مقدمة جيوشهم وأسلحته هي التي جلبت النصر لهم ، فالملك «أدد- نراري الثاني» (٩١١–٨٩١ق.م) يقول في أخبار العام السادس من حكمه : «بأمر من ( الإله) آشور، سيدي، آمري العظيم، وعشتار سيدة المعارك والحروب التي تسير أمام قواتي التي لا تحصى...». و«يقول آشور- ناصربال الثاني» (٨٨٤–٨٥٩ق.م) في أثناء حديثه عن الحملة التي قام بها ضد بيت خلوبي في منطقة الفرات الأوسط: «من مدينة سور في بيت خلوبي، أنا اقتربت، والرعب من الإله آشور العظيم، سيدي، تملكهم ...». وأما شلمنصر الثالث (٨٥٩–٨٢٤ق.م) فإنه يقول في أثناء حديثه عن إحدى حملاته ضد بيت عدين: «...، بأمر آشور، آمري العظيم، ونرجال الذي يتبعني، ...» فهنا يظهر الحديث إلهاً يقوده وآخر يتبعه، وكثيراً ما تتردد في كتابات هؤلاء الملوك عبارة: «أسلحة سيدي الإله آشور القوية»٠
وجدير بالذكر أن المصالح الاقتصادية والرغبة في التوسع كانتا من أهم أسباب الحروب منذ بداية التاريخ، فقد سعى لوجال زاجيزي إلى توحيد دويلات المدن السومرية تحت سيطرته في القرن الرابع والعشرين ق.م في خطوة نحو توحيد كل بلاد الرافدين في إطار دولة واحدة تكون تحت حكمه، ولكنه اصطدم قبل أن يحقق هدفه هذا مع شاروكين الأكادي الذي كانت عنده المطامع ذاته، وفي النهاية كان النصر من نصيب شاروكين. والأمر نفسه كرره الملك البابلي حمورابي[ر] (١٧٩٢ –١٧٥٠ق.م) عندما أعاد توحيد بلاد الرافدين تحت سلطته بعد أن كانت في الفترات السابقة قد عادت إلى الانقسام والتمزق، وكانت الرغبة الأكثر جموحاً في تأسيس الامبراطوريات الكبرى عند ملوك الدولة الآشورية الحديثة الذين لم يكتفوا بوضع كل بلاد الرافدين تحت سلطتهم؛ بل ضموا إليها سورية وفي مرحلة لاحقة مصر وإن كان لفترة مؤقتة.
الحروب بين الجماعات البشرية المختلفة 13--20
منحوتة جدارية توضح تدمير مدينة سوسة عاصمة عيلام على يد الملك آشوربانيبال عام ٦٤٧ ق.م
أما العامل الاقتصادي الأهم فيكمن في رغبة الدول في وضع طرق التجارة الدولية؛ وأماكن استخراج المواد الأولية- ولاسيما الأخشاب والمعادن- تحت سلطتها، إضافة إلى الحصول على الغنائم المجزية في أثناء الحملات العسكرية. وأخبار حملات الملوك المصريين والآشوريين تزخر بأنواع الغنائم التي حصلوا عليها من حروبهم ولاسيما في سورية، وقد شملت هذه الغنائم الأخشاب القاسية وقطعان الماشية المختلفة والذهب والفضة والنحاس والأصواف والألبسة الأرجوانية والكتانية والأثاث الخشبي وأشياء أخرى كثيرة، ومن المعلوم أن مصر وبلاد الرافدين كانتا تفتقدان للأخشاب القاسية التي كانت ضرورية في كثير من الأعمال الإنشائية (مبانٍ وسفن وغيرها)، وبالتالي يمكن القول: إن الأهداف التوسعية كانت لخدمة أغراضٍ اقتصادية.
الحروب بين الجماعات البشرية المختلفة 13---10
مشاهد لمعركة قادش بين المصريين والحثيين منحوتة على جدران معبد رامسيوم في الأقصر
ونتيجة لمرور الطرق التجارية الدولية من سورية، ولتوفر مواد أولية تفتقدها الدول المجاورة الكبرى (بلاد الرافدين ومصر والحثيين في الأناضول) فقد كانت هدفاً سعت هذه الدول إلى السيطرة عليها، وبالتالي جرت معارك كبرى فيما بينها؛ أو بينها وبين قوى محلية مدعومة من قوى خارجية على أراضيها، ولعل من أهم هذه المعارك معركة مجدو[ر]-جرت عام ٤٦٨ق.م- التي وقعت بين المصريين بقيادة الملك تحوتمس الثالث وبين تحالف الأمراء السوريين بقيادة أمير قادش والمدعومين من ملك ميتاني[ر]، وقد تمكن تحوتمس من إلحاق الهزيمة بالقوى المتحالفة، ويلاحظ في هذه المعركة أن الملك الميتاني لم يُشارك فيها بصورة مباشرة. أما المعركة الكبرى الثانية التي جرت على الأرض السورية فكانت معركة قادش[ر] في عام ١٢٨٥ق.م؛ بين الحثيين- يتقدمهم ملكهم «موواتالي» - وحلفائهم من أمراء المدن السورية، وبين المصريين بقيادة ملكهم رعمسيس الثاني وحلفائهم السوريين أيضاً، وقد خلد رعمسيس الثاني أخبار هذه المعركة بالنص والصورة على جدران المعابد المصرية مدعياً تحقيقه انتصاراً كبيراً فيها، كما أن الحثيين[ر] دونوا أخبار هذه المعركة على رقم تعود إلى عهد الملك حاتوسيلس الثالث[ر] خليفة موواتالي، ويبدو أن نتيجة المعركة لم تكن حاسمة لأي من الطرفين؛ لأن مناطق النفوذ على الأرض بقيت كما كانت قبل وقوع المعركة، وربما يكون توقيع اتفاق السلام بين الدولتين الحثية والمصرية بعد المعركة بعدة سنوات دليلاً على ذلك أيضاً.
الحروب بين الجماعات البشرية المختلفة 13---11
رعمسيس الثاني فوق عربته الحربية في معركة قادش
وأما المعركة الثالثة المهمة التي وقعت على الأرض السورية فهي معركة قرقار[ر] (إلى الشمال من حماة) بين الآشوريين بقيادة ملكهم شلمنصر الثالث (٨٥٩ – ٨٢٤ ق.م) وبين تحالف الإمارات السورية بقيادة «برهدد الثاني» ملك آرام دمشق و«إرخوليني» ملك حماة؛ مع اثني عشر أميراً وملكاً آخرين حشدهم برهدد لوقف تقدم القوات الآشورية في الأراضي السورية الواقعة إلى الغرب من نهر الفرات، وقد جرت هذه المعركة في العام السادس من حكم شلمنصر الثالث؛ أي نحو عام ٨٥٦ ق.م، ومع ادعاء شلمنصر الثالث الانتصار في الكتابات المتعددة التي أمر بوضعها تخليداً لهذه المعركة؛ فإن الوقائع تبين عكس ذلك، فهو بدل أن يتابع طريقه جنوباً نحو حماة ودمشق زعيمتي التحالف ارتد عائداً إلى عاصمته، ولم يكرر المحاولة مرة أخرى إلا بعد عدة سنوات.
الحروب بين الجماعات البشرية المختلفة 13----12
منحوتة حثية للعربة الحربية التي استخدمها الحثيون في معاركهم
استخدمت الجيوش المتحاربة أسلحة متعددة الأشكال والأنواع ومصنوعة من معادن مختلفة، وقد أسهم اكتشاف معدن جديد واستخدامه في تصنيع الأسلحة في تفوق جيوش على أخرى، فعندما تعلم الإنسان تصنيع البرونز وبدأ يُصنّع أسلحته منه؛ أعطى هذا أفضلية على الجيوش التي بقيت تُصنع أسلحتها من النحاس، وربما كان استخدام الأسلحة البرونزية من العوامل التي ساهمت في النصر الذي حققه شاروكين الأكادي على الملك السومري لوجال زاجيزي، وتكرر الأمر نفسه مع بدء تصنيع الأسلحة من الحديد مع نهاية الألف الثاني ق.م؛ مما أعطى الأفضلية في الحرب للجيوش التي بدأت باستخدام السيوف الحديدية مكان البرونزية؛ وذلك لما يتمتع به الحديد من الصلابة مقارنة بالبرونز. وإلى جانب ذلك كان لإدخال استخدام الخيول في المعارك دور كبير في قلب ميزان القوى بين الجيوش المتحاربة، فتشكيل فرق من الخيالة كان يكسب الجيش السرعة المطلوبة للوصول إلى أرض المعركة، وكان بإمكان هذه الفرق الوصول إلى المناطق الوعرة التي لا تستطيع الفرق الثقيلة الوصول إليها كفرق العربات ولاسيما تلك التي كانت تجرها الثيران. ويُلاحظ أن الدولة الآشورية في عصرها الحديث- ولاسيما في عهد ملكها تيجلات بلاصر[ر] الثالث (٧٤٥–٧٢٧ ق.م)- قد اعتمدت كثيراً على فرق الخيالة مما أكسبها تفوقاً كبيراً على مختلف أعدائها.
الحروب بين الجماعات البشرية المختلفة 13----13
معاهدة قادش بين المصريين والحثيين وهي من أقدم معاهدات السلام في التاريخ (متحف الآثار في اسطنبول)
وكثيراً ما اضطرت الجيوش إلى فرض الحصار على بعض المواقع كالمدن والقلاع، واستخدمت في سبيل ذلك أدوات مختلفة للحصار وتحطيم الأسوار، وغالباً ما تظهر هذه الأدوات على النقوش الجدارية التي أمر بوضعها الملوك المنتصرون وأحياناً تُذكر في كتاباتهم. ولعل من أشهر الأدوات التي استخدمت لدك الأسوار ما يُعرف باسم الكباش، وكذلك بناء أبراج مقابل الأسوار المحاصرة في سبيل الوصول إلى المدافعين عن هذه الأسوار؛ أو حفر الخنادق والأنفاق للتسلل إلى المناطق المحاصرة، ولعل نص «زكور» ملك حماة الآرامي يوضح هذا الجانب عندما يتحدث عن الحصار الذي فُرض عليه في «حزرك» فيصف المحاصرين له بأنهم «بنوا سوراً أعلى من سور حزرك، وحفروا خندقاً أعمق من خندقها».


المصدر : مواقع ألكترونية