المسيحية في الولايات المتحدة الأميركية
بدأنا قصة المسيحية من المشرق، من بلاد الشام، فلسطين وسوريا، ثم انتقلنا معها نحو القسطنطينية في آسيا الصغرى، لتتشعب بعد ذلك في اتجاهين مختلفين، اتجاه أرثوذكسي أخذنا نحو بلاد السلافيين في الشرق، واتجاه كاثوليكي قادته روما أولاً، وانتشر منها إلى كل أرجاء أوروبا الغربية، ثم عاد مسار القصة ليتشعب مرة أخرى مع ظهور اتجاه ثالث سيحملنا هذه المرة إلى أراضٍ جديدة وبعيدة تماماً خلف المحيط الأطلسي، إلى أميركا، وهناك ستلعب الكنائس المهاجرة دوراً في تأسيس امبراطورية جديدة، من نمط حديث ومختلف، هي الولايات المتحدة الأميركية.
كان الإسبان هم أول من حمل راية المسيحية إلى هذه الأرض الجديدة، حيث أسسوا مستوطنة سانت أوغسطين في فلوريدا عام 1565، رافعين راية الكاثوليكية. ومع مرور الوقت، اتجهت أنظار البروتستانت نحو أميركا، باحثين عن ملاذٍ من الاضطهاد الديني في أوروبا والمعتقدات القسرية التي فرضتها الكنائس المسيحية التابعة للدولة مثل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وكنيسة إنكلترا.
جاءت الهجرة البروتستانتية على دفعات حين نشد هؤلاء المهاجرون مكاناً يمارسون فيه شعائرهم الدينية بحرية، بعيداً عن سيطرة كنيسة إنكلترا. ثم مع مرور الزمن، ازدادت أعداد البروتستانت في المستعمرات الإنكليزية، بينما انخفض عدد الكاثوليك والأنغليكانيين، لتصبح البروتستانتية، مع اندلاع الثورة الأميركية بين عامي 1765 و1783، الدين السائد في المستعمرات الثلاث عشرة.
سعى هؤلاء "الأجداد" –أقله بحسب الرواية الرسمية– إلى تأسيس نظام جديد يضمن الفصل بين الكنيسة والدولة، ويُتيح لكل فرد حرية ممارسة شعائره الدينية دون خوف من الاضطهاد. وتجسّد هذا الحلم في التعديل الأول على دستور الولايات المتحدة الذي أُقر في 15 كانون الأول (ديسمبر) 1791، حيث نصّ على أنه "لا يجوز للكونغرس أن يصدر أي قانون يتعلق بمؤسسة دينية، أو يحظر حرية ممارستها...".
أول قدّاس وأول عيد شكر
قبل الإصلاح البروتستانتي بوقت قصير (1517)، وصلت الكاثوليكية لأول مرة إلى المناطق التي تشكل الآن الولايات المتحدة، على يد الغزاة والمستوطنين الإسبان في فلوريدا الحالية (1513) والجنوب الغربي. وأول قُدَّاس (وهو الصلاة الطقسية المسيحية الأهم والأشهر) أقيم في الولايات المتحدة الحالية كان كاثوليكياً، واحتُفل به في بينساكولا–فلوريدا التي تابع الإسبان نشر الكاثوليكية الرومانية عبرها بواسطة نظام الإرساليات الخاص بهم. امتدت هذه البعثات الدينية إلى جورجيا وكارولينا، إلى جانب نظيرتها العسكرية التي أنشأتها إسبانيا أيضاً في ما يُعرف الآن بتكساس ونيو مكسيكو وأريزونا وكاليفورنيا.
وفي أواخر القرن السادس عشر، كانت إنكلترا البروتستانتية قد انخرطت في حرب دينية مع إسبانيا الكاثوليكية، وسعياً لإضعاف القوة الاقتصادية والعسكرية لإسبانيا، قام بحارة إنجليز مثل فرانسيس دريك وهمفري جيلبرت بمضايقة السفن الإسبانية. واقترح هذا الأخير استعمار أمريكا الشمالية على النموذج الإسباني نفسه، لإنشاء إمبراطورية إنجليزية مربحة، تكون قاعدة للسفن وللهجوم على الإسبانيين أيضاً. وعام 1584، أُنشئت فعلاً أول مستعمرة إنجليزية في أمريكا الشمالية، لكن المستعمرين لم يكونوا مستعدين للحياة في العالم الجديد، ولم يلبثوا أن اختفوا ومستعمرتهم بحلول عام 1590.
أما وصول البروتستانتية إلى الولايات المتحدة فكان مع المستوطنين الإنكليز في أوائل القرن السابع عشر، فقد أسسوا أول مستعمرة إنكليزية "قابلة للحياة" في جيمستاون–فرجينيا عام 1607. أما المستعمرة الأهم والأشهر فهي مستعمرة بليموث على ساحل ماساتشوستس، نسبة إلى مدينة بليموث في إنكلترا، التي انطلقت منها رحلة "الحجاج"، وهم مجموعة من البروتستانت الانفصاليين، على متن سفينة "مايفلاور"، ليؤسسوا المستعمرة عام 1620، ويربطوا بينها وبين "الأرض الموعودة" في الكتاب المقدس، إذ كان يحدوهم الأمل ببناء مستقبل أفضل في أميركا.
واجه الحجاج صعوبات كبيرة في بداية وصولهم ومات كثيرون منهم بسبب الجوع والمرض، إلى أن ساعدهم السكان الأصليون في تعلم كيفية الزراعة والبقاء على قيد الحياة في بيئة جديدة. وفي خريف عام 1621، حصد الحجاج أول موسم وفير لهم في الأرض الجديدة، وكعربون شكر، دعا الحاكم ويليام برادفورد السكان الأصليين إلى وليمة احتفالية استمرت ثلاثة أيام. شملت هذه الوليمة لحم الديك الرومي والذرة واليقطين والفواكه والخضروات الأخرى. وما زال هذا الاحتفال يعاد سنوياً تحت اسم "عيد الشكر" وهو عيد وطني في الولايات المتحدة وكندا، ويحتفل به الناس للتعبير عن امتنانهم للنعم التي حظوا بها خلال العام.
البروتستانتية الأميركية منشقة بالأصل عن كنيسة إنكلترا
تحدثت في مقال سابق عن الطريقة الغريبة التي تأسست فيها كنيسة إنكلترا وكيف أنها لم تصبح بروتستانتية بشكل كامل، ولا هي بقيت كاثوليكية بطبيعة الحال، بل خلقت حالة وسطية أبقت على تقاليد كاثوليكية كثيرة، لتفتح الباب واسعاً أمام العديد من الصراعات الداخلية حول العقيدة والممارسات الدينية، وتؤدي إلى انشقاق بعض الطوائف عن هذه الكنيسة، على امتداد عدة قرون. ولعبت كل واحدة من هذه الطوائف المنشقة دوراً في إنشاء مستعمرات بريطانية في أميركا، وفي تأسيس الولايات الثلاث عشر الأولى.
ففي القرن السادس عشر، ظهر البيوريتانيون الذين عارضوا بعض ممارسات كنيسة إنكلترا، واعتبروها قريبة جداً من الكنيسة الكاثوليكية. وطالبوا بإصلاحات جذرية، بما في ذلك تبسيط الطقوس الدينية وإزالة الزخرفة من الكنائس.
أميركياً.. أنشأ البيوريتانيون مستعمرة خليج ماساتشوستس في عام 1629 بمشاركة 400 مستوطن. وفي غضون عامين، وصل نحو ألفي مستوطن إضافي. ليهاجر لاحقاً ما يصل إلى 20 ألف بيوريتاني من إنكلترا إلى أميركا للحصول على حرية العبادة، استقر معظمهم في نيو إنغلاند، مفعمين بأمل أن تكون الأرض الجديدة بمثابة "أمة منعتقة"، فأوجدوا ثقافة دينية عميقة ومتماسكة اجتماعياً ومبتكرة سياسياً لا تزال موجودة في الولايات المتحدة الحديثة.
رسم لحجاج يصلون إلى أميركا حيث أسسوا مستعمرة بليموث في ماساشوستس.
ورغم ذلك.. على صعيد مغاير، يرتبط اسم البيوريتانيين بقصة أخرى في التاريخ الأميركي تُعرف بـ "محاكمات السحر في سالم"، التي أجراها المتشددون منهم في سلسلة من جلسات الاستماع والمحاكمات التي جرت في قرية سالم (الآن دانفرز) بولاية ماساتشوستس الأميركية بين عامي 1692 و1693. اتُّهم فيها أكثر من 200 شخص بممارسة السحر، وأدين ثلاثون منهم وأعدم عشرون معظمهم من النساء، ويقال إنه قد توفي ما لا يقل عن خمسة آخرين من المتهمين في السجن. ولقد كانت تلك المحاكمات حدثاً مؤلماً في التاريخ الأميركي، لقد أظهرت مخاطر الخوف والهستيريا والتعصب، وأدت إلى مراجعة قوانين العدالة الجنائية في ماساتشوستس، كما ألهمت العديد من الأعمال الأدبية والفنية.
وفي القرن السابع عشر (1652) ظهر الكويكرز (الصاحبيون أو جمعية الأصدقاء الدينية) على يد جورج فوكس. رأى هؤلاء أن العبادة يجب أن تكون بسيطة وصادقة، ورفضوا العديد من الطقوس والشعائر التي اعتبروها شكلية ومصطنعة. كما آمنوا بأن "النور الداخلي" أو "الروح القدس" موجود في كل شخص، مما يسمح للجميع بالتواصل مباشرة مع الله دون الحاجة إلى كهنة. كما امتاز الكويكرز تاريخياً بالذكاء والتميز العلمي، وبأنهم بسيطون يؤمنون بالمساواة، لاعنفيون، ومعارضون للعبودية.
وعليه، تعرض الكويكرز للاضطهاد الشديد في إنكلترا بعدما عُدُّوا منحرفين عن الأنجليكانية، فسعى العديد منهم إلى ملجأ في نيوجيرسي، التي كانت آنذاك جزءاً من نيو نذرلاند (هولندا الجديدة)، ووجدوا هناك بيئة أكثر ترحيباً وتسامحاً مع معتقداتهم. في عام 1681، حصل زعيم الكويكرز ويليام بن على ميثاق لمقاطعة بنسلفانيا من الملك تشارلز الثاني، سمح هذا الميثاق للكويكرز بتأسيس مستعمرة خاصة بهم حيث يمكنهم العيش بحرية وممارسة شعائرهم الدينية دون خوف من الاضطهاد وبحلول عام 1685، وصل نحو 8000 من الكويكرز إلى بنسلفانيا وديلاوير.
أما قيادة جماعة الحجاج آنفة الذكر فقد كانت من التجمعات الدينية للبراونيين –نسبة إلى زعيمهم روبرت براون– أو الانفصاليين، لأنهم اعتنقوا العديد من المعتقدات الدينية الكالفينية نفسها مثل البيوريتانيين، ولكن على عكس البيوريتانيين (الذين أرادوا تطهير كنيسة إنجلترا)، أكد الحجاج على وجوب انفصال رعاياهم عن كنيسة الدولة الإنجليزية. واجه البراونيين اضطهاداً شديداً من قبل كنيسة إنجلترا، مما أدى إلى هجرة العديد منهم إلى هولندا التي تمتعت بمستوى أعلى من التسامح الديني، لكن وبعد عدة سنوات من العيش في المنفى، قرروا إنشاء مستوطنة جديدة في العالم الجديد ورتبوا مع المستثمرين لتمويلهم. وبالفعل أسسوا مستعمرة بليموث عام 1620، وصارت "قصة الحجاج" موضوعاً رئيساً في تاريخ وثقافة الولايات المتحدة.
عداء مستورد من أوروبا
كانت معاداة الكاثوليكية ظاهرة شائعة في المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. نشأت هذه المشاعر المعادية للكاثوليكية من عدة عوامل يأتي على رأسها الصراع التاريخي بين البروتستانت والكاثوليك. بالإضافة إلى التخوف الدائم من سلطة البابا، وسعيه –برأي غير الكاثوليك– للسيطرة على العالم. يضاف إليها التنافس بين القوتين الكاثوليكيتين إسبانيا وفرنسا في أوروبا وسعيهما للسيطرة على أمريكا الشمالية.
تجلت معاداة الكاثوليكية في المستعمرات البريطانية من خلال قوانين تمييزية سُنَّت في العديد من المستعمرات تمنع الكاثوليك من شغل المناصب العامة أو ممارسة شعائرهم الدينية بحرية، كما تعرض كثيرون منهم للاضطهاد، بما في ذلك العنف والاعتقال. واستمرت هذه الأفعال حتى الثورة الأمريكية التي فصلت الدين عن الدولة، مما سمح للكاثوليك بممارسة شعائرهم الدينية بحرية أكبر، الأمر الذي أسهم في تزايد هجرتهم إلى الولايات المتحدة من الدول الأوروبية وازدياد أعدادهم في البلاد، بالإضافة طبعاً إلى الانتشار الأوسع لمفاهيم التسامح مع الأديان الأخرى. ومع ذلك لم يُنتخب رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة حتى عام 1960 (جون كينيدي)، ولم يتكرر الأمر إلا عام 2020 (جو بايدن).
صحوات كبرى
خلال القرن الثامن عشر، شهدت المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية نمواً سكانياً سريعاً وتغييرات اقتصادية واجتماعية كبيرة أدت إلى شعور الكثير من الناس بالقلق والضياع، كما أسهمت بعض أحداث أوروبا، مثل حرب الخلافة النمساوية وحرب السنوات السبع، في تزايد شعور الخوف هذا. وبحث الناس عن راحتهم النفسية في الدين، لكن كانت معظم الكنائس البروتستانتية في ذلك الوقت تركز على العقيدة واللاهوت، وتهمل التقوى الشخصية، ما دفع الكثير من الناس للبحث عن تجربة دينية أكثر عمقاً وذات معنى، وهذا ما أدى لظهور المبشرين الرياديين الذين رفضوا من العبادة ما بدا أنها أساليب رسمية عقيمة، وشجّعوا الناس على التدين العاطفي القوي، واتّسمت خطبهم وعظاتهم بالشغف والتركيز على أهمية الخلاص الشخصي.
وبعدما كان مارتن لوثر وجون كالفن قد بشرا بعقيدة الأقدار والقراءة الدقيقة للكتاب المقدس، نشر الإنجيليون الجدد رسالة الإيمان الشخصي والتجريبي التي تسمو عن تعاليم الكتب وترحب بكل من أقصتهم البروتستانتية التقليدية: النساء، والشباب، وكل المنتمين إلى المستوى الأدنى من الطيف الاجتماعي.
لقد منح عصر التنوير وعصر الفكر العقلاني للصحوة الكبرى (1730-1743) وقودها، فكلاهما بشَّر بالفرد (لكنهما اختلفا حول غرض الله)، ورغم أن هذه الصحوة تسببت في حدوث انقسام بين أولئك الذين اتبعوا الرسالة الإنجيلية (الأنوار الجديدة) وأولئك الذين رفضوها، لكنها أدت بالعموم إلى زيادة كبيرة في عدد الأعضاء في الكنائس البروتستانتية، وإلى انتشار طوائف جديدة مثل الميثودية والبابتيستية (المعمدانية)، على حساب الطوائف الأقدم، كما أسهمت الصحوة في الإصلاحات الاجتماعية ولعبت دوراً مهماً في الثورة الأمريكية على التاج البريطاني وفي تشكيل المفاهيم الديموقراطية في الولايات المتحدة الأميركية.
أما الصحوة الكبرى الثانية فقد بدأت نهاية القرن الثامن عشر واستمرت إلى منتصف القرن التالي تقريباً. تميزت هذه الحركة بما يعرف بـ "لقاءات الإحياء" وهي اجتماعات كبيرة يُلقى فيها وعظ عاطفي وخطابات حماسية، أسهمت في تحوُّل أُناس كثر إلى الطوائف البروتستانتية. كما ظهرت خلال الصحوة الكبرى الثانية طوائف بروتستانتية جديدة مثل السبتية (الأدفنتستية)، وحركة الاستعادة أو حركة ستون كامبل، ومجموعات مثل شهود يهوه والمورمونية.
طوائف حديثة.. جدلية!
عام 1820، ادعى مراهق من ولاية فيرمونت الأميركية، يدعى جوزيف سميث أن ملاكاً يدعى موروني زاره في إحدى الرؤى الروحية، ودلَّه على ألواح ذهبية تحتوي على "كتاب مقدس" لشعب قديم عاش في أميركا الشمالية. ثم في عام 1823، زعم سميث أنه ترجم النصوص الموجودة على الألواح الذهبية إلى اللغة الإنكليزية. ونُشر هذا الكتاب تحت عنوان "كتاب مورمون" عام 1830، وما زال يعدُّ –إلى جانب العهدين القديم والجديد– كتاباً مقدساً لدى أتباع كنيسة سميث التي أسسها في العام نفسه تحت اسم "كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة".
رسم يظهر فيه جوزيف سميث يدعو الهنود الحمر لديانته
يعدُّ سميث واحداً من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في أميركا، وتتراوح الآراء حوله بين اتباعه الذين يرونه نبياً ومؤسساً لدين جديد اختاره الله لاستعادة الكنيسة الحقيقية ليسوع المسيح، ومكذبيه الذين يرونه مجرد محتال ومشعوذ ودجال. لهذا، بالإضافة إلى ممارستهم تعدد الزوجات في الماضي، واجه المورمون اضطهاداً كبيراً في وقت مبكر من تاريخهم، واضطروا إلى الانتقال إلى أماكن جديدة عدة مرات. وما زالت كنيستهم وممارساتها موضوعاً دسماً للكثير من الأفلام والمسلسلات والوثائقيات.
يعتقد البعض أن المورمون يعيشون في مجتمعات منعزلة حياة بسيطة يرفضون فيها كل أشكال التكنولوجيا الحديثة، فيخلطون بذلك بينهم وبين الآميش، وهؤلاء ينتمون إلى طائفة مسيحية منشقة عن المينونايت الجماعة البروتستانتية الراديكالية المنبثقة عن حركة اللاهوتيين السويسريين البروتستانت المعروفين باسم الأنابابتست خلال الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر. ويُسمّون على اسم منّو سايمونز (1496-1561)، الذي لعب دوراً رئيسياً في توحيد وتنظيم العديد من المجتمعات الراديكالية والمضطهدة نتيجة آرائهم الدينية.
وفي حين يقتصر وجود الآميش على الولايات المتحدة وكندا فقط، ولا يتجاوز عددهم 300 ألف نسمة، يربو عدد المورمون عن 16 مليوناً موزعين على مناطق مختلفة من العالم.
من الجماعات الجدلية أيضاً شهود يهوه، الطائفة التي تأسست على يد تشارلز تاز راسل عام 1870، فقد اعتمد على تفسيره الخاص للكتاب المقدس، وبدأ بنشر أفكاره من خلال مجلة "برج المراقبة The Watchtower". وشهود يهوه معروفون بتبشيرهم، يقرعون الأبواب من بيت إلى بيت، ويوزعون مطبوعاتهم.
يعتقد الشهود بأن استخدام اسم الله "يهوه" أمر حيوي للعبادة الصحيحة ويؤمنون بأن "نهاية الأزمنة" باتت قريبة، ويرفضون الثالوث، وفكرة الخلود المتأصل للنفس، ونار الجحيم، فهي بنظرهم عقائد غير كتابية. وهم أيضاً لا يحتفلون بعيدي الميلاد والفصح وغيرهما من الأعياد والطقوس التي يعتبرونها ذات أصول وثنية تتعارض مع المسيحية. كذلك يرون أن المجتمع البشري فاسد أخلاقياً وتحت تأثير الشيطان، ويحد معظمهم من تفاعلهم الاجتماعي مع غير الشهود، ويرفضون الخدمة العسكرية ونقل الدم لأي سبب كان، حتى لو كان ذلك منقذاً للحياة. بسبب اختلافهم في الإيمان والممارسة، وبسبب انغلاقهم وبعض الغموض الذي يلفهم كثيراً ما ربطوا بمؤامرة عالمية تهدف إلى السيطرة على العالم. فشهود يهوه مصر مثلاً طائفة محظورة، وقد وصفهم جمال عبد الناصر بأنهم أداة الموساد الإسرائيلي لاختراق المجتمع المصري. وفي عهد الاتحاد السوفييتي لاحقت مخابراته أعضاء "شهود يهوه" بصفتهم جواسيس ومصدر خطر، وما زالوا يتعرضون للقمع حتى الآن في عهد بوتين، وهذا ليس بالأمر المستغرب فهم رافضون للقيم التقليدية للدين وللدولة وللعمل العسكري، وبالتالي سيشعر أي سياسي بأنهم خطر وتهديد محتمل ومؤثر.
الأرثوذكسية في الولايات المتحدة
ورغم أنها قد تبدو صغيرة وغير وازنة في المجتمع الأميركي، إلا أن الأرثوذكسية هي ثالث أكبر عائلة مسيحية في الولايات المتحدة، بعد الكاثوليكية والبروتستانتية، وهناك ما يقدر بنحو 8 ملايين مسيحي أرثوذكسي ينتمون إلى العديد من الكنائس المختلفة. وصلت المسيحية الأرثوذكسية لأول مرة إلى الولايات المتحدة في القرن الثامن عشر مع المهاجرين الروس. وفي القرن التاسع عشر، هاجر المزيد من الأرثوذكس من اليونان وبلدان أخرى في أوروبا الشرقية. في أوائل القرن العشرين، هاجر عدد كبير من الأرثوذكس من روسيا بعد الثورة البلشفية. أكبر كنيسة أرثوذكسية في الولايات المتحدة هي "الكنيسة الأرثوذكسية في أمريكا (OCA)". تأسست عام 1794، وهي كنيسة مستقلة ذاتياً في الشركة مع بطريركية القسطنطينية المسكونية.
البقاء للمتجدد..
لم تشهد الولايات المتحدة حروباً دينية واسعة النطاق بين المسيحيين، إذ يخلو التاريخ الأميركي من أيه حروب قامت على أساس مذهبي أو طائفي، فمنذ تأسيس الدولة عمد آباؤها إلى تعزيز مبدأ احترام الحرية الدينية في الإيمان والممارسة، فقد استفادوا من تجربة الحروب الدينية في أوروبا، والتي عايشها كثيرون منهم، كما استفادوا أيضاً من أفكار التنوير التي هدفت إلى تعزيز العقلنة، وفصل الدين عن الدولة، ونشر قيم التسامح والتقبل.
ولعبت المسيحية -في الماضي والحاضر- دوراً مهماً في الحياة الأميركية، ولا تزال إلى اليوم أكبر ديانة في البلاد، حيث يُعرِّف نحو 61% من الأميركيين عن أنفسهم بأنهم مسيحيون. ورغم ذلك تُواجه المسيحية في الولايات المتحدة بعض التحديات، مثل تراجع التدين وازدياد العلمانية. ولكنها ستبقى قوة مهمة في الحياة الأميركية.
عام 1822، وفي رسالة إلى الطبيب بنيامين ووترهاوس، تنبأ توماس جفرسون ثالث رؤساء الولايات المتحدة، وأحد آبائها المؤسسين، وصاحب نسخة خاصة من الإنجيل عرفت باسمه، بأن ديناً أكثر استنارة سيحل محل المسيحية، يرفض ألوهية يسوع والإيمان بالمعجزات. واليوم وبعد ما يزيد عن 200 عام لم تتحقق نبوءة جفرسون بعد، بل أعقبتها سلسلة من "الصحوات" المذكورة آنفاً، بما في ذلك الصحوة الكبرى الثانية، التي اجتاحت البلاد وأعادت تأكيد المسيحية كقوة مهيمنة في الحياة الأميركية. لقد أبدت المسيحية في الولايات المتحدة مرونة عالية وقدرة مميزة على التكيف والتجديد ومواكبة العصر، دون التخلي عن تعاليمها الأصلية وتقاليدها الروحانية، ورغم التنوع الهائل في المجتمع الأميركي، سواء بين الأديان المختلفة (السماوية وغير السماوية) أم بين الطوائف المسيحية ذاتها، تظلُّ المسيحية بالعموم عاملاً مهماً في تشكيل المجتمع الأميركي.
المصدر : مواقع ألكترونية